عندما حاول محمد سويد أن يبحث عن معلومات عن نورهان على الإنترنت، وجد الكثير عن فنّانات أخريات يحملنَ الاسم نفسه، لكن لا شيء عن الممثّلة والمغنّية السورية التي اشتهرت في منتصف القرن الفائت. من خلال الأرشيف العائلي ومقابلات مع حفيدتها ميّ، يرسم محمد سويد بورتريه عن نورهان، يخيط من خلاله تجاربها السينمائية وأغانيها وحياتها الشخصية.
كانت صوتًا بعيدًا في ذاكرتي. غابت صورتها ونأت. يوم أخبرتني المخرجة ميّ قاسم اعتزامها نقل سيرتها إلى الشاشة، أدركت أن نورهان جدّتها. تابعت إعداد الفيلم من أوّله إلى آخره، والتقيتها خلال إعداده عام 2014 ومساء عرضه الأول عام 2019. إلى المخرجة ميّ قاسم وفيلمها، «نورهان، حلم طفولة»، ومقابلة أجرتها مع جدتها في بيتها وبثتها الإذاعة اللبنانية في برنامج قدّمه مروان أبو ناصر الدين، عنوانه، للأسف، «الزمن الجميل»، ناهيك بحوارات متبادلة مع ميّ، أدين بجمع معلومات هذا المقال ومواده.
البحث عن نورهان
أكره ما أكره العنوان المستنفَد في مقالات وبرامج تلفزيونية وإذاعيّة تتناول فنّانًا مخضرمًا. «الزمن الجميل»، يقولون ويكتبون ويتمكرفون (من ميكروفون). الزمن واحد لا يميّز نفسه عن سواه، جامع الأزمان وعقودها كلّها بسلامها وحربها، بمجاعتها ورخائها، بفنّها الرفيع والهابط معًا. والجميل واحد لا يفرّق محمد عبد الوهاب عن محمد الكحلاوي، ولا زكي رستم عن سراج منير، ولا راقية ابرهيم عن ماري كويني أو ببا عز الدين عن بديعة مصابني. ما أَنتجَ الزمن الغفل فنًّا جميلًا وأسقط فنًّا رديئًا. جمال الزمن في ردّه على دميمه، والردّ ابن لحظة أو يوم أو مرحلة وليس الزمن بأسره. بشاعةُ عبارة «الزمن الجميل» توقيتُها على رحيل فنّان مخضرم. أليمٌ غياب نورهان عن واجهة العلم والبحث. مثلما يفعل الجميع، استخدمتُ الإنترنت سعيًا إلى مرجع عن نورهان. أخفقت. لا معلومة، لا كلمة، لا شيء تقريبًا. خيّرتني نتائج بحث غوغل وويكيبيديا بين فنانتين تحملان اسمها:
الأولى مغنيّة أرمنيّة لبنانيّة صعدت واشتهرت فجأة بأغنيات «حبيبي يا عين» و«شكله كيف» (2003) و«حبيبي تعا» (2009).
والثانية ممثلة مصريّة، خرّيجة كليّة الآداب في جامعة الإسكندريّة. اكتشفها المخرج عبد العزيز السكري، من طريق المصادفة في إحدى المناسبات، عام 1994، وطلب من والدها أن يأذن لها بالتمثيل في مسلسل «الساحر». وافق الأب. انطلقت كريمته كالسهم وما اعترضها سدّ.
نورهان اللبنانيّة مولودة في 5 حزيران 1977، ذكرى هزيمة حرب الأيّام الستة، ونورهان المصريّة في 15 كانون الثاني 1982، ذكرى ميلاد جمال عبد الناصر، أيقونة التاريخ المشهود بهزيمته.
بملاحظة غير بريئة، أستطرد أن نورهان الأصليّة هجرت الأضواء عام 1965. ثلاثة أعوام متقاربة بين عزوف فنانة من الرعيل القديم عن الغناء وانسحاب العرب إلى هزائم متعاقبة جرفت الموسيقى والغناء في طريقها. لم يأخذ انسحاب نورهان مساره للأسباب نفسها. حصلت هزيمتها في أمكنة وحياة أخرى.
خيريّة جركس
عائلتها شركسيّة الجذور، هاجر أبوها علي جركس من القوقاز إلى دمشق، قبضاي مقرّب من الأمير عبد القادر الجزائري، الأب الروحي للمقاومة الجزائريّة ضد الفرنسيين في القرن التاسع عشر. كان ذراعه اليمنى في منفاه السوري، ومقيمًا في دارته. تزوّج مريم، أصل عائلتها من الأناضول. أنجبا بنتين، سمّيا الكبرى نظميّة واحتارا في الصغرى. اختارا اسم ملاحات وتراجعا عنه. في الأثناء، مرض علي. تفاؤلًا بشفائه، ربّما، سُمّيت خيريّة. ما تمّت الفرحة بولادتها. بعد أربعين يومًا، توفّي أبوها. كأنه عاش ليعطي ابنته اسمًا أزعجها كلّما تذكرته أو سئلت عنه، أو كأن الفنّ أعطاها اسمًا تمنّته. غريب. الموت يغيّب الإنسان ويحيله اسمًا منسيًّا فيما الفنّ يغيّبه ويحفظه باسم مولده أو يخلّده بلقب. لقبه اسمٌ لا غير، بلا شهرة عائليّة. ماتت بدوية النيداني كريم وبقيت تحية كاريوكا. ماتت آمال الأطرش وبقيت أسمهان. ماتت ألكسندرا بدران وبقيت نور الهدى. والآن، تركت خيريّة جركس مكانها لنورهان. من التدقيق في تسجيلاتها الصوتيّة، بدت أقلّ تأكيدًا، بل أكثر اتفاقًا، وما شاع أن لقبها مزيج مركّب من نور الهدى وأسمهان، مختصره نورهان، تبنّته حبًّا بالمغنّيتَيْن وإكبارًا لهما.
ربيت في كنف أمها وتأثّرت بعزفها على العود وجمال صوتها. أخذت عنها هواية الغناء ومرّنت أذنها على سماع الأسطوانات وحفظ ما بَثّه الراديو من أعمال كبار المغنّين. شجّعتها أمّها على إطلاق سراح مشاعرها وإبراز مواهبها الغنائيّة أمام صديقات استضافتهنّ في جلسات منزليّة مغلقة. مضت طفولتها في سرعة. كانت أختها الكبرى متزوّجة. واقترنت والدتها برجل آخر، أنجبت له صبيًا دعاه بدر، وماتت. تعبت. لم يعوّض زواجها الثاني عن حزنها على زوجها الأوّل. حبّ مريم لعلي جركس أقوى من النسيان. زينة الرجال، كان. ما استطاعت محو ذكراه بحياة أخرى من دونه. «يا غزالي كيف عنّي أبعدوك؟»، أغنيةٌ أحبتها وردّدتها دائمًا. بوفاتها، انتقل البُعد من علي إلى ابنتها. تيتّمت خيريّة. أودعت مدرسة داخليّة ودأبت على زيارة أختها نظميّة ومساعدتها في رعاية أولادها كلّما سنح لها الوقت والعطل.
حين بلغت الرابعة عشرة، تقبّلت فكرة الزواج. عُقد قرانها على لبنانيّ عمل في حلب أستاذ لغة وأدب، أتقن إحدى عشرة لغة، هواه الكتب ورفوفها وموائدها، ما همّه البيت والمرأة والأهل والأسرة والبشر ولا كائن حيّ. اسمه معبّر عنه، قاسم قاسم، مطّاط، لا يفرّقه فارق عن عائلته، نسخة عنها، أو عنه. العائلة منه وإليه. قاسم قاسم، نعم، كلعبة السكواتش، كرةٌ تُضرب في الحائط وترتدّ إلى ضاربها فيعيد الكَرّة ويضرب الكُرة، دواليك، دواليك. رغم أنّ فارق العمر بينهما ناهز إحدى وعشرين سنة، سار على هدي نصائحها. لم يرَ الحياة ولا مستقبله خارج الكتب. وجّهته ونمّت طموحاته. حثّته على استكمال دراساته العليا في القاهرة. وافق. سافرا. حياتها الزوجيّة المبكرة مثال شخصيّتها المعطاءة، المنزّهة عن حبّ الذات. فكّرت في الآخرين أكثر ممّا فكّرت في نفسها.
من الـ«سنّيدة» إلى نورهان
كانت مصر، أيامها، وجهة الفنان المهاجر بحثًا عن الفرص والشهرة، وفتحت القاهرة صدرها مرحبّة بألوان الغناء الشعبي الوافد من سوريا ولبنان. مِن طرحها خاطرة السفر إلى أرض النيل، أرادت مساعدة زوجها فحسب. ما راودها احتراف «المغنى». الغناء مسرّة الروح، نعمة طفولتها، اعتادت عليه منذ الصغر، ألفته طقسًا منزليًّا، نوعًا من الاختلاء بالنفس. وبإزاء انشغال زوجها بعالمه وعمله، شغلت نفسها بهواية أخرى، مشاهدة الأفلام. أدمنت السينما وارتياد صالات العرض في القاهرة مع صديقتها قدريّة. أقنعتها قدريّة بالعمل كومبارسًا لجَنْي المال. حدث ما حدث. ظهرت خلف نجوم برعوا في الغناء، عوّضت عذوبة أصواتهم عن ضعفهم في التمثيل. تغطّوا بخفّة ظلال ممثّلي الأدوار الثانوية. «سنّيدة» كانت، وفق التعريف المصري للكومبارس.
وبخلاف واقعة انتقال المغنّين إلى السينما بعد نيل الشهرة في مجالهم، مهّدت السينما طريقها إلى الغناء. احترفته. وقفت أمام الكاميرا وأشهر المغنّين، وجذبت. طبعت شخصيّتها بصوتها. مِنْ بين مكتشفيها فريد الأطرش.
يستحضر الأطرش وأبناء جيله المشهد السينمائي المصري في العقدين الرابع والخامس من القرن العشرين. على نشأة استديو مصر ونهضته، كان المخرج الراحل صلاح أبو سيف شاهدًا. قبل أعوام قليلة من وفاته، أجريت مقابلة معه، كرّر فيها ما أدلى به سابقًا عن مرور السينما المصريّة بين الحقبتين الصامتة والناطقة في ثلاثينيات القرن الماضي وأربعينياته بأفلام موسيقيّة-غنائيّة، من آياتها أشرطة أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وأسمهان وفريد الأطرش وليلى مراد، ساهمت شركات الأسطوانات والفنانون أنفسهم في نشرها. في اختصار، كان الإنتاج السينمائي آنذاك إنتاجًا موسيقيًّا-غنائيًّا في الوقت نفسه.
ختمت زواجها بالطلاق. طليقة حرّة، خرجت إلى الدنيا وحلّقت. مثّلت أفلامًا، سجّلت أغاني وأحيت حفلات في عواصم عربيّة عدّة.فُتحت صفحة نورهان وطويت صفحة خيريّة جركس. ختمت زواجها بالطلاق. طليقة حرّة، خرجت إلى الدنيا وحلّقت. مثّلت أفلامًا، سجّلت أغاني وأحيت حفلات في عواصم عربيّة عدّة. تزامن صعودها وتعرّض مصر والمنطقة العربية لتهديد الحرب العالميّة الثانية وتحدّياتها وتنافس القوى العظمى على مصائرها. صوّرت نورهان أفلامها داخل مصر وخارجها، تحديدًا العراق. أوّل أفلامها، «ابن الشرق» لابراهيم حلمي (1943)، حكاية شاب عراقي سافر إلى مصر للتخصّص في الطبّ ووقع في حبائل فتاة ميسورة ودفعته إلى ترك خطيبته، ثمّ ندم على نزوته وعاد إلى حبيبته ووطنه.
وفي ثالث أفلامها، «ليلى في العراق» لأحمد كامل مرسي (1949)، تعاند البطلة إصرار أبيها على تزويجها من ثريّ، وتفرّ في ليلة زفافها من لبنان إلى العراق وتعيش في بيت عمها في بغداد. العراق استثناء فريد قلّما لوحظ في تصوير الأفلام المصريّة، ولو من طريق الإنتاج المشترك. لا أجد سببًا تجاريًّا يعزله عن المشاعر القوميّة، والمحفّزة آنذاك، ودومًا، على إنتاج أشرطة فيّاضة بأواصر اللغة والقربى والقيَم بين شعوب المنطقة.
ملصق «الخير والشرّ» لحسن حلمي (1946)، ثاني أفلام نورهان، معبّر عن حميّته القوميّة. أُرفق اسم بطله، محمد سلمان، بلقب «مطرب العروبة»، و يُستدلّ، من إعطاء بطلته لقب «المطربة الجديدة»، أنّ نورهان كانت في مقتبل تجربتها.
«كومبينة» محمد سلمان
ثلاثة أفلام لا غير، في ستة أعوام، كانت كافية لانسحابها من الشاشة الفضيّة. بلسانها، عزت قِلّة أعمالها السينمائيّة إلى فشلها وإيعاز إخراجها إلى شبّان ليست لديهم الخبرة في إدارة الممثل والعمل برمّته. يقول الإيطالي فدريكو فلليني إنه كلّما فات الزمن، تذكّر أفلامه الفاشلة أكثر من أعماله الناجحة وجوائزها. شعوره حيالها شعور أب وُلد ابنه مريضًا وكبر ولم يشفَ. عليه أن يزوره دومًا ويطمئنّ إليه. عن كتاب «أنا، فلليني» لشارلوت شاندلر، صدر عام 1993. ما قرَّب نورهان من قول فلليني، وحملها على الاطمئنان إلى أفلامها الثلاثة بين حين وآخر، ليس الأسف عليها وإنما زيارة قصّة حبّ جمعتها ومحمد سلمان في تصوير «الخير والشرّ».
كعنوان الفيلم، يستطيع سلمان أن يكون الخير أو الشر أو الاثنين معًا، طيّب القلب، كريم. إذا أفلس، سعى إلى المال حتّى يصبح أكرم ويفلس أكثر. طليق اللسان والحكايات، عشيق اللهو والسهر، يعيش الحياة ويمارس الفنّ على كيفه، ممثّل، ملحّن، مغنّ، شاعر ومخرج، يركّب الفيلم في رأسه ويرتجل في تنفيذه، لا يكترث للأخطاء أو لتغيّر الإضاءة وثوب ممثّل بين لقطتَيْن متتاليتَيْن. اللامعقول معقول في أفلامه. مهذار. إذا جالس أحدًا، آنسه وأضحكه.
روى لي يومًا أنه تعاون مع سميرة توفيق وأخرج «بدوية في باريس»، عام 1964. وفي العام التالي، سافرا إلى إيطاليا وأنتجا «بدوية في روما». صودف مرور فلليني في موقع التصوير. توقّف. استرعى انتباهه مشهدٌ غريب. معدّات تصوير لا عهد له بها، امرأة بزيّ بدوي، رجل بلباس عصري، حسناوات في شبه ثياب، مخرج يستعرض مهاراته برفع صوته ويديه. كأن كوكبًا هبط من السماء وحلّ سالمًا في ضيافة الإيطاليين. سلمان، وقد مصّ السيجارة بشفتيه مصًّا سحب به نفسًا عميقًا ذرّه في عينيّ فأدمعتا، ختم روايته بتقدّم فلليني منه بعد انتهاء التصوير. هنّأه قائلًا، لو شاهدتك في شبابي، لما زاولت السينما قطعًا.
لكلّ إنسان معجزة ما، تُخلق معه أو يُفطر عليها. معجزة محمّد سلمان قدرته على إغراء أعتى المنتجين بتمويل أعماله. صداقته للمنتج والموزّع محمد علي الصبّاح تاريخيّة. كلاهما من الجنوب. الصبّاح من النبطيّة وبلهجة أهلها، وسلمان من كفر دونين بلكنة بيروتيّة. «ثنائي» السينما في لغة السياسة اللبنانيّة الراهنة. كانا وراء موجة سينما «الكومبينة» (Combination)، خليط تجاري مُركّب من نجميْن أو ثلاثة على سيناريو هزيل فيه من افتعال المواقف والتطويل وتطعيم المشاهد رقصًا وغناءً ونساء غاويات ما يدفع الجمهور إلى شباك التذاكر ويصبّ في جيب المنتج ويزيد من ثروة صاحب صالة العرض ويمنح المخرج فرصة جديدة. ما زالت الكومبينة سارية المفعول في أشكال مغايرة. وما برح سلمان أكثر المخرجين اللبنانيين غزارة في عدد أشرطته الروائيّة الطويلة. بعدما أخبرني بواقعة فلليني، سألته عن رأيه في سائر المخرجين. أُحبّهم جميعًا، أجاب، ليتهم يتسلمنون. أراه فيلمًا حيًّا روحًا وجسدًا، غير قابل للتصوير والعرض، مشاهدته ممكنة وألذّ بالعين المجرّدة. مختلف، لا ريب. شيّق. طريف. مسامرته ممتعة. الوقوع في شركه سهل. والعيش معه مستحيل، يحتاج إلى كومبينة لا يجيدها سواه.
أُمّ زياد
أطَلتُ الكلام عنه تماهيًا في سرّ تعلّق نورهان به. العراق مسرح حبّهما. حَاولَتْ تركه مرارًا ووجدته دائمًا في انتظارها. حبّهما كرّ وفرّ، دام خمسة أعوام تخلّلها زواجان وطلاقان. غداة طلاقها الأول، ذهبت إلى العراق كي لا يلاحقها مستئنفًا طلب الغفران. هربت منه. فوجئت به في بغداد. نجح في استعطافها. أحضر المأذون. تزوّجا ثانيةً. هدّدته ممازحةً أنها في المرّة المقبلة لن تفرّ إلى العراق، بل إلى إيران. طبعًا، كانت مرّةً ثانية وأخيرة.
كان حضور الرجل عنيفًا، مدمّرًا، معطوفًا على ابتزاز وطمع وسوء أمانة. صودف أحيانًا أنه كان ندًّا أو منطويًا على عاطفة مريضة لا تعبّر عن حقيقة مشاعره. في الحالين، متعب.ترتّبت على زواج الفنانة أثمانٌ باهظة. كان حضور الرجل عنيفًا، مدمّرًا، معطوفًا على ابتزاز وطمع وسوء أمانة. صودف أحيانًا أنه كان ندًّا أو منطويًا على عاطفة مريضة لا تعبّر عن حقيقة مشاعره. في الحالين، متعب. تتشابه روايات المشاهير، أقلّه في العالم العربي، في القرن الفائت. لولا تحرّرها من الزواج، لما سعدت نورهان بالغناء وأَسعَدت. نشطت في سوريا ولبنان، أودعت إذاعة دمشق تسجيلات كثيرة وحصلت على فرصة العمل والغناء في الإذاعة اللبنانيّة. اليوم، لا يتجاوز الأرشيف الإذاعي اللبناني خمسًا أو ستًا من أغانيها. محفوظات الإذاعة السورية منها شبه كاملة. ذاكرتها الشفوية حافلة بأسماء مغنيّات عاصرَتْهنّ أو تعرّفت إليهنّ عن كثب في الإذاعة، نور الهدى، لور دكاش، صباح، زكيّة حمدان، وداد، سعاد محمّد. حافظة ذكريات وجميلٍ لأم كلثوم يوم حلّت مشكلة حصولها على تأشيرة دخول إلى مصر.
في غرفتها، غراموفون، غلاف أسطوانة أو أكثر، ألبوم صور، لقطاتٌ مأخوذة من أفلامها وحفلاتها، قصاصات جرائد، أوراق، ووثيقة موقّعة من محمد عبد الوهاب أجازت لها غناء لحنه «فات يوم من غير ما تكلّمني».
من قليلها المتبقّي، ستّ عشرة أغنية كُتب معظمها بالمحكيّتَيْن المصريّة واللبنانيّة، والبعض منها بالفصحى. صوتها أثير يروق الروح وترقّ له، آتٍ من لهف دفين، ينساب كالماء، قطرةً قطرةً في نهر مغنّيات عصرها ممّن شَدَوْن عذوبة الحبّ وعذابه، وحفلت كلمات أغانيهنّ بصدّ الحبيب وشماتة «العزول» وحيرة القلب وشغل البال والبكاء وسهد الليالي. ميزة صوتها حنان يحضن الكلمة والموسيقى في جملة واحدة. «الحنان رحمة الدموع»، على قولها في أغنية «يا مرخصين دمعكم». كُثُرٌ لحّنوا لها، محمد محسن، وديع الصافي، فيلمون وهبي، محمد عبد الوهاب، سوريّون ولبنانيّون ومصريّون، أقربهم إلى قلبي السوري محمد عبد الكريم، الملقّب «أمير البزق»، وأزعم، من صورة جمعتْهما، أنه كان الأقرب إلى قلبها.
عازف ومؤلّف موسيقي، ملهم، قصير القامة، محدودب الظهر، عانى جدًّا وما فقد خفّة الدم وروح الدعابة. عرضتْ عليه مرارًا مرافقتها في رحلاتها الخارجية. رفض السفر. ساقت به شوارع دمشق في سيّارتها. أجلسته قربها وحرصت على وضع وثيرة مبطنة فوق مقعده كي تعلو قامته ويصبح في مقدوره النظر من النافذة وتحيّة المهلّلين لرؤيته هاتفين، يا بختك يا أمير. في بيتها، قضيا ساعات من العزف والغناء والسمر، وكان، إذ يدركه التعب، يتكوّم فوق ركبتيها ملقيًا رأسه في حضنها ويغفو. عطفها عليه أشبه بحنان فلليني على فناني السيرك، المنبوذين من الأضواء والمتخفّين في أشباح مواهبهم. أسمى الحبّ ارتقاؤه إلى حنوّ الأمّ. ورحلة نورهان في الفنّ سفر إلى الأمومة، إلى سلام لا يعكّر صفوه رجل. نُسِيَ قاسم قاسم وكأنه لم يكن، على تعبير محمود درويش. ترك في عهدتها ابنهما زياد. من أجله تخلّت عن كل ما بنته. تفرّغت لتربيته. طويت صفحة نورهان وفتحت صفحة أمّ زياد. حين يولد المرء، يقال «رأى النور». ساعة ولادتها في دمشق عام 1922، هلّ نورها الأوّل وخَفَتَ سريعًا بوفاة والدها. وساعة قرّرت الاعتزال، فتحت صالون حلاقة في حيّ عرنوس الدمشقي، سمّته «نور» ثم باعته. تركه أصحابه الجدد على حاله واسمه.
نور أخير
وُلدتْ من نور. وأصبح النور مفتاح اسمها وفاتحة شهرتها وخاتمتها. غالبًا ما تُقرأ سِيَر الفنانين وتُصوَّر على الشاشة كأقدار متقلبة. حياة نورهان أقدار متعاكسة الأنوار، يشعّ نور ولا يعتم أن ينطفئ. أقسى ما يمكن أن تشهده أمٌّ موت ابنها. قبل زياد، أنجبت أسامة. عاش أربعة أعوام ومات. بقي زياد. رعتْه وعلّمتْه. أرسلته إلى باريس لاحتراف تسريح الشَّعر في معهد «لوريال». فضّل العودة إلى بيروت واختيار اختصاص آخر. التحق بالجامعة الأميركيّة ودرس الاقتصاد. في السادسة والخمسين، قضى نحبه بسكتة قلبيّة في آذار/ مارس 1997. جزعت عليه جزعًا شديدًا. اتصل بها محمد سلمان معزيًا. مآل الحبّ الصفح. سُرّت بلفتته. بعد ستة أشهر، جاءها خبره. مات. قبل وفاته، عَادَته في المستشفى. ووري ابن كفر دونين الثرى في مدافن الباشورة، في بيروت. حضرت جنازته. زُيّن إليّ أن الحياة لا تحتاج إلى معجزة. كومبينة فحسب، كافية.
استمرّ حبّ أمّ زياد لابنها في أولاده الثلاثة هناء، ميّ، رمزي، وزوجته فاطمة. «يا مرخصين دمعكم»، أغنية أحبّها، لحّنها محمد محسن، كلماتها حكاية نورهان وَجْدًا وجوى، العمر ضيّعته ما بين يا ريت والآه. غناؤها سلوى الآه والرجاء. بين منتصف ليل السابع والعشرين من شباط/ فبراير 2022 ومقتبل فجره الثامن والعشرين، اشتدّ عليها الألم وخذلان الجسد. كانت ممدّدة في فراشها، مستقيمة على ظهرها وعيناها تنظران في سقف الغرفة. حولها، حفيدتها ميّ وأمّها فاطمة. أدركت فاطمة أنها كانت تحتضر. اقترحت وضع موسيقى. آثرت ميّ إسماعها أغنية لأمّ كلثوم. فتحت التلفزيون وأدارته على قناة تبثّ حفلات أم كلثوم كل ليلة. ظهرت الستّ بأغنية أحبّتها نورهان كثيرًا. لم تحرّك ساكنًا. سالت دمعة من عينها. وسكتتْ. «فات الميعاد»، كان اسم الأغنية ونورها الأخير. بعد غروب مَنْ نُحبّ، تغدو الدنيا أقلّ نورًا. ربّما لا يعلم موتانا أنهم ماتوا. نعلم أننا نموت أكثر بموتهم.
جميع صور هذا المقال من أرشيف عائلة نورهان.