ذكريات حرب قادمة
بدأت صور الحرب تتسارع، صور لدبابات تحت الثلج تجتاح مدناً أوروبية، صور للاجئين بيض مع قططهم يعبرون حدوداً غربية، خطابات من زمن ولّى عن لينين والنازية في جه تحرّكات للحلف الأطلسي… عادت صور ماضٍ كان يفترَض أن يكون قد بات وراءنا، أو وراءهم، هم «الغرب» الذي لم يتوقّع تلك المآسي على أرضه. فالحروب مكانها هناك، في الصحراء، بين «الإسلام» والديموقراطية، أو «قبائل» العالم الثالث، بعيدًا عن الأنظار، خارج التاريخ، في عالم الاستخبارات الدولية.
الخروج من الصورة
عادت الحرب إلى أوروبا، ومعها ذكريات حروبهم الباردة ومدنهم المدمّرة ومجازرهم المنظمة. ومع عودة أوروبا إلى وسط مسرح الاقتتال، عاد العالم وحروبه غير المنظّمة إلى وضعه «الطبيعي»، إلى تفصيل على الساحة الدوليّة، يحاول أن يرتبط بالحدث من خلال أسعار النفط والقمح، أو يتعلّم أن يعاين الحدث كمتفرّج، وليس كالحدث بحدّ ذاته. ربّما لأول مرة منذ عقود، بات شريط الخبر العاجل لهم، وليس لنا.
أوكرانيا السوريّة
لكن لا نستطيع البقاء خارج الحدث طويلًا. أليس في أوكرانيا معالم لحرب جرت عندنا، في سوريا؟ من السخف ربط هذين الحدثين، ولكن ألم تشكّل الحرب الروسية على سوريا مسودةً لاحتلالها الحالي، مرحلة تدريبية لسياسة بوتين التوسعية، ابتكر فيها أسلحته وعاين بدقّة حدود خصمه الغربي؟ ألم تأتِ حرب سوريا ضمن سلسلة من محاولات بوتين لتوسيع حدود المقبول عسكريًا، من جورجيا في الـ2008، إلى أوكرانيا في الـ2014، إلى سوريا بعدها بسنة؟
التضامن بين كييف وإدلب
تشكّل العلاقة بين سوريا وأوكرانيا الخيط الصغير الذي يربطنا بالحدث، ويعيدنا بين الحين والآخر إلى شريط الخبر العاجل. ولكن ما تُظهره هذه العودة هو مدى ابتعادنا عن الصورة. فصور التضامن مع «المقاومة الأوكرانية» والسياسات السريعة لاستقبال اللاجئين وعمليات تسليح من يريد أن يقاوم الغزو الروسي، تختلف عن الرفض والحذر والعنصرية التي رافقت مَن طالب بالمثل في وجه مجازر الأسد. لا داعي للتذكير بالفارق بين أهمية أوكرانيا لأوروبا وهامشية سورية، أو عنصرية الغرب وتفضيله للاجئين «بيض»، أو خطورة بوتين على هذا الغرب أمام سخافة الأسد… ندرك كل هذا، ولكن يبقى السؤال والمقارنة.
أوهام سوريّة
ربّما كانت المقارنة هي فقط لنا، لا مغزى لها إلّا لمعاينة أوهامنا أو سذاجتنا عندما اعتقدنا أن هناك إمكانية لتدخّل دولي ما في سوريا لوقف المجازر. هي سذاجة، أو غباء، دفع البعض إلى بناء استراتيجية سياسية قائمة على فرضية هذا الاحتمال، رغم كل الإشارات إلى استحالته. أو سذاجة من اعتقد أنّ هناك قانوناً دولياً أو تضامناً عالمياً قد يكسر مع لعبة المصالح والمخاوف الغربية. فقضايانا «إنسانية»، مهما حاولنا معارضة هذا الوصف. أما قضاياهم، فـ«سياسية»، لا تنتظر ألعاب الرأي العام ومخاوفه.
التدخّلان
أمام الحدث الأوكراني، ليس هناك الكثير ممّا يمكن قوله من خارج الصورة. فنحن اليوم في موقع المتفرّج. لكن مع تحوّل العالم إلى مسرح تدخّلات دوليّة، تتنازع فيه القضايا على خزّان التضامن العالمي، ربّما بات علينا إعادة التفكير بكيف نفهم سياساتنا التضامنية وموقعنا في المخيّلة العالميّة. فالاستشراق العالمي لم يقسم العالم بين لاجئين وشعوب متحضّرة فحسب، بل أيضًا بين لاجئين يستحقّون الاستقبال وآخرين الموت.