آخر مظاهر انهيار الدولة والمجتمع والعائلة والإنسان، رُصِدت منذ أيام، مع مداهمة «جنود الرب» لعرضٍ كويري داخل مقهى في مار مخايل. جاءت هذه المداهمة في سياق حملة مستشرية ضد ما سمّاه مطلقوها «الشذوذ»، وقد طالت مجتمع الميم-عين بوصفه «ظاهرة دخيلة»، أو «دخيلة» على المجتمع، بحسب المُهاجمين.
لكن هل المثلية فعلاً ظاهرة حديثة، لم تسبق نشأة الأديان والطوائف والمجتمعات والأوطان؟ ألم تسبق المثلية، بقرون، حلول هذه الطبقة السياسية القاتلة والسارقة التي دمّرت لبنان؟ ألم تتعايش المثلية دهوراً ودهوراً مع الأخلاق ونمو العائلة والمجتمعات والأوطان؟ لا، ليست المثلية ما فكّكَ العائلة والوطن وما دمّر الاقتصاد واستتبع البلاد للخارج، بل من فعل ذلك، هو هذه الطبقة السياسية-الدينية، بمواقفها وسياساتها واستهتارها بحياة شعبها ومصيره.
المادة 534 ومحاولة إلغائها
وقّع تسعة نواب على مشروع قانون لإلغاء المادّة 534 من قانون العقوبات التي تنص على تجريم المثلية. قامت الدنيا— من رجال سلطة ودين وأتباعهم— ولم تقعد. إنّما، وبعد تفجير 4 آب، لا قامت الدنيا ولا قعدت، ولا بعد سقوط لبنان الدولة، ولا بعد التحرّكات والثورات، ولا عند ممارسة السلطة لكل أنواع الشذوذ بحقّ الشعب اللبناني.
في السجال حول إلغاء المادة 534 وتصوير النواب التسعة كـ«قادة للشذوذ» في البرلمان اللبناني، وإصدار اقتراح قانون من قبل وزير الثقافة محمد المرتضى لإنزال عقوبات تصل إلى الحبس 3 سنوات لكل «مروّج ومشجّع على الشذوذ»؛ في هذا السجال، «رهابُ قطيعٍ وقادته»، مُقطّع بالطائفة والمذهب والأحزاب والمناطق والأحياء، منشطر بثقافة العشائر والقبائل والعصابات، مُنقادٌ برجال دين وساسة حكموا الناس بالمفرّق ليعتَلوا كراسي القصور والمعابد بالجملة.
رجال دين وساسة يعتاشون على رهاب القطيع، يخترعون عدواً تلو الآخر، فيبقى «كل ديك على مزبلته صيّاح». وفي حين لم تجمعهم قدرة قادر على تطبيق شرع محمد وتعاليم يسوع، إذ بهم يتوحّدون على «شذوذ» يدّعون أنّه يقضي على الوطن بمجتمعه وعائلاته. اجتمعوا رعيّةً واحدةً متكاتفةً عابرةً للطوائف والمذاهب، بأفواه ساسة البلد، وبقدرةٍ أعظم وأجل، واجتمعت كل القطعان التي تأكل في العادة بعضها بعضاً لتواجه الآن الهوية الجندرية— حفاظاً على المجتمع والعائلة.
شعب يعاني رهاب التفكك المجتمعي أو رهاب الخروج من عباءة الرعاة؟
تركّز رفضُ عرضِ مار مخايل على أنّه ترويجٌ للمثلية، فيما تركّز وصف العرض على مسألة أنّ رجالاً يرتدون ملابساً نسائية. لكن في لبنان نماذج بارزة لمؤَدّين رجال بأزياءٍ نسائية، مثل ماريو باسيل الذي شكّل حالةً مسرحيةً تجذب وتُضحك الجمهور الذي يتكلّف ثمن التذكرة لمشاهدته؛ ومثل باسم فغالي الذي أحدث ضجّةً بلعب أدوار النساء وضحك له الناس على المسرح وفي بيوتهم؛ ومؤخّراً مثل بعض «المؤثّرين» على السوشيال ميديا الذين يلعبون دور النساء وتنتشر فيديوهاتهم من دون أي رفضٍ مُجتمعي. تعايش المجتمع مع الـDrag Queens على المسارح والشاشات، لكنّ جرى رفضهنَّ في ذاك الحفل، باعتبارهنّ ترويجاً للمثلية. نعم إذاً، الشذوذ الفعلي في مكان آخر.
أن تموت الأم أمام أعين أولادها لأنّهم لا يملكون ثمن علاجها. أليس شذوذاً؟
أن يتسوّل المرء لجمع ثمن الدواء لوالده. أليس شذوذاً؟
أن ينظر الأهل إلى اولادهم وهم يشتهون الطعام. أليس شذوذاً؟
أن يموت بريءٌ على الطرقات برصاص طائش. أليس شذوذاً؟
أن يشتهي اللبناني الحزبي العيش في بلاد «الكفّار» حيث الرعاية الاجتماعية، فيما هو يدافع عن ساسة طائفته المتسبّبين بقهره وسحقه. أليس شذوذاً؟
أن يحكم لبنان لصوص بحماية رجال الدين، وأن يُسجَن فقيرٌ إذ يطالب برغيف خبز. أليس شذوذاً؟
أن يخرج الإنسان من بيئته ليشرب الخمر ويراقص الجنس الآخر في السر ثم يعود لبيئته شاهراً سيف الغيرة على الدين. أليس شذوذاً؟
أن يُجدَّد انتخاب زعماء سرقوا الدولة. أليس شذوذاً؟
أن يموت الثكالى غرقاً، هرباً من الذلّ على شاطئ كبار الأثرياء في العالم. أليس شذوذاً؟
أن تُقتل ثلاثية الوطن «الأرض - الشعب - الحدود». أليس شذوذاً؟
أن يبقى رياض سلامة حرّاً طليقاً، وهو المصرفي الأوّل ويد المافيا ورجال الدين والسياسة في لبنان، بعد مضغه مال الشعب مع أخيه ومساعدته، واتّهامه قضائيّاً بالسرقة. أليس شذوذاً؟
إن كان الشذوذ في تعريفه ما يخرج عن الطبيعة، فهل ما سبق ذكره فيه شيء من السير وفق الطبيعة؟
تتعامل الطبقة السياسية الحاكمة مع مسألة «الشذوذ» ضمن «المخاوف»، مخاوفٌ قد تسطو على شعورِ ورغبات الشباب، بتجاهلٍ تامّ لدور هذه الطبقة نفسها بالقضاء على كل شعور وكل رغبة لدى هؤلاء الشباب— لا رغبة بالحب، ولا رغبة بالجنس، ولا حتّى رغبة بالحياة.
بالمقابل، تغضّ هذه الطبقة النظر عن المخاوف الفعلية المتعلّقة بالجرائم الجنسية، التي تبدأ بالعنف ضدّ النساء ولا تنتهي بجرائم القتل والاغتصاب. أليس ذلك شذوذاً؟
لا نجنح هنا في تعريفنا «المثلية»، وتمييزها عن «الشذوذ». نتخطّى هذا النقاش لنقف عند التالي: إثارة هذا الموضوع بهذا الكمّ وبهذا الشكل والزخم وبهذا العنف والكراهية، في زمنٍ ومجتمعٍ فُقدَت فيه الإثارة تجاه أدنى مقوّمات الحياة، بسبب الشذوذ السياسي والديني والوطني.
وإن يكن من مؤامرة لضرب ثقافة المجتمع، فالمؤامرة الأكبر قام بها المجتمع نفسه على نفسه، عندما سار عكس الطبيعة التي أرادته حرّاً. فأي رهاب أشد فتكاً: رهاب المثلية عند القطيع أم رهاب الحرية عنده، وخوفه من مواجهة رعاته؟