لديكم أجمل شاطئ
هي العبارة التي يردّدها كل من يكتشف أنّي من الدامور.
وهي العبارة التي مع قدوم فصل الصيف كلّ عام، تغدو لي جارحة:
فأنا الولد الذي لم يعرف يوماَ شاطئ مدينته بسبب احتلال منتجعات سياحية له، خلافاً للقوانين والمراسيم التي تصنّفه ملكاً عاماً لجميع أبنائه.
أنا الولد الذي وقف مع أبيه أمام الجدران والبوابات الحديدية التي تفصلها عن الشاطئ الرملي، وشعر بالعجز عن الوصول. فكان أقرب ما يمكن أن يفعله من أجل رؤية البحر هو الخروج إلى شرفة منزله في الدامور الذي لم تنتهِ عائلته من إعادة بنائه حتى اليوم، مثل أغلبية منازل العائلات الدامورية المهجَّرة.
أنا الولد الذي حلم بالوصول إلى شاطئ مدينته كي يعود إلى بيروت فيما بعد ليتباهى بأصوله الدامورية أمام أصدقائه. لكن انتهى الأمر بأن يكتفي ببعض الصور كما القصص التي سمعها من الأقارب عن الشاطئ وجماله، عن صيّادي السمك الذين كانوا يسترزقون منه قبل الحرب، عن العمّال المزارعين الذين كانوا يقصدونه بعد نهار طويل من العمل في السهل من أجل بعض اللحظات البسيطة الممتعة.
كبر ذاك الولد وأصبح شاباً. فسأل والده عن سبب عدم اصطحابه إلى الشاطئ. فكان الجواب أنّ العبور إلى ما بعد البوابات الحديدية يتطلب أحد شرطين: إمّا تسديد رسم الدخول الباهظ لدى المنتجعات السياحية. وإما الذهاب إلى مقر البلدية لطلب بطاقة تسمح له الدخول مجانًا إلى الشاطئ.
لماذا البطاقة إذا كان ذلك حقاً عاماً؟
كان الجواب أن هناك من يريد احتواء شكاوى الأهالي، تمامًا مثلما يحاول النظام الزبائني احتواء مواطنيه من خلال كراتين الإعاشة أو البطاقات التموينية.
قاطع أبي الشاطئ. فقررت المقاطعة معه، بقناعة.
فهمت حينها أنّ أبناء الدامور لم يُهجَّروا مرّة واحدة في حياتهم بل مرتين: مرّة جراء الحرب الأهلية الأليمة، ومرة ثانية، جراء الحرب الإقتصادية التي طالت الطبقة العاملة في الدامور حين حاول بعض الرأسماليين والعائلات البورجوازية في البلدة- كما المنطقة- خصخصة أملاك أهلها، من الشاطئ وصولاً إلى المشاع، لمصلحة الأكثر قدرة. أصبح بذلك حقُّنا العام حقّاً خاصاً لأرباب السلطة العامة: من يجلس في مقرّاتنا العامة، تارةً في قصر البلدية وطوراً في مجلس النواب، يصدر القرارات التي يريدها بإسم المصلحة العامة. فيعلن أملاكنا العامة أملاكاً خاصة يتحكّم بها مثلما يريد ومتى يريد.
هكذا خصخصوا شواطئنا التي يملكونها اليوم. وهكذا يريدون أيضاً البناء على أراضي المشاع داخل البلدة «أكاديمية الإنسان للتلاقي والحوار» بدعم من رئيس الجمهورية ميشال عون، بدلاً من الاستفادة من هذه المساحة التي تملكها البلدية، وبالتالي أهالي الدامور، لبناء منازل لمن هُجِّر ولم يعد بعد، كما بناء الحدائق العامة أو المكتبات العامة.
لم يستسلم أهالي الدامور أمام هذا الواقع.
منذ اواخر التسعينات والمعارك مستمرّة مع المنتجعات وحماتها، ولا سيما وليد جنبلاط وأزلامه في المنطقة. أمّا الرهان على نوّاب من أحزاب الطوائف، ولو معارضة للحزب الجنبلاطي الحاكم، فأصبح للأكثرية الدامورية رهاناً خاطئاً.
فهناك من بنى حملته الانتخابية سنة 2018 على شعار استرجاع الشاطئ الداموري، ولا سيما النائب في تكتل «لبنان القوي» ماريو عون. لكنّ فريقه اليوم يمارس تعدّيات مماثلة في مناطق لديه نفوذ بداخلها، مثل البترون.
يمكن القول إنّ الرهان على أي حزب من داخل النظام لاسترجاع حقنا العام هو وهم، كون مصالح هذا النظام تتشابك بشكل أساسي مع أصحاب المال والنفوذ في المنطقة، وعلى طول الشاطئ اللبناني.
لا أمل في المواجهة إلا في حراك داموري شعبي يضع «الأملاك العامة» في صلب المعركة السياسية، حراك يتقاطع مع معركة أهالي بيروت في استجاع اراضيهم المحتلّة من سوليدير، حركة تتقاطع مع معركة كل أهالي الساحل اللبناني بوجه احتلال المنتجعات والشركات الكبيرة لأملاكهم البحرية. وما من استقلالية بين تلك المعركة ومعركة المواجهة مع سطوة الإقطاع في البلدية، كما مواجهة وهم أحزاب الطوائف «المعارضة» التي تحمل تلك الشعارات.
مسؤوليتنا خلق مسار ثالث في الدامور يضع حقوق المزارعين، الأملاك العامة، ومحاربة الإقطاع السياسي والعائلية السياسية، كما الطائفية، أولوية.
ها أنا اليوم، في العشرين من عمري، أنتظر فصل الصيف ومعه السؤال المعتاد.
أفكّر بضرورة التنظيم الشبابي لخوض معركة تحرير شواطئنا وشاطئ الدامور بالتحديد.
أريد الذهاب إلى الشاطئ مع أبي دون العبور بقصور البلدية أو رئيسها، أو جدران منتجعات الاحتلال التي لا بدّ من تحطيمها يوماً.