ملاحظة من المحرّر: طلبت صحيفة ليبرالية أمريكية بارزة مقالاً من جلبير الأشقر حول حرب غزّة الجارية. لكنها رفضت ما قدّمه في نهاية المطاف باعتباره «لا يناسبنا». نشر المقال الأصلي بالإنكليزية في تاريخ 29 تشرين الأوّل 2023 على موقع NewPolitics، وننشره هنا مترجماً إلى العربية.
منذ هجوم حماس في 7 تشرين الأول خلف السياج المحيط بقطاع غزّة– هذا السجن في الهواء الطلق الذي يضمّ 2.3 مليون سجين وسجينة– حلّ الرعب ضيفاً على شاشات التلفزة في العالم. لكن سرعان ما طغت مشاهد القتل داخل حدود السياج على مشاهد القتل خلفه. ذلك أنّ قتل الإسرائيليين (حوالي 1,400) توقّف مع انتهاء عملية حماس بحلول نهاية اليوم نفسه، باستثناء العدد القليل ممن يسقطون من جرّاء الإطلاق اللاحق للصواريخ من غزّة، وكذلك مصير الرهائن الإسرائيليين المجهول. أمّا القتل الجماعي للفلسطينيين، فيزداد بسرعة فائقة من جراء القصف المكثّف منذ 7 تشرين الأول على المناطق التي يتركّز فيها المدنيون، حيث تتكدّس الجثث بالآلاف بوتيرة مرعبة.
المسؤوليّات الجماعيّة
من المعروف أنّ حركة حماس تعتبر أنّ جميع المواطنين الإسرائيليين في سنّ الاقتراع مسؤولون عن قمع دولتهم للشعب الفلسطيني، بما يحيل إلى مفهوم يثير الاستهجان، هو مفهوم «المسؤولية الجماعية». إنّ قتل الأشخاص غير المقاتلين جريمة– ليس قتل المدنيين وحسب، بل أيضاَ قتل الجنود المستسلمين وسجناء الحرب. لكن من الواضح أيضًا أنّ إسرائيل استرشدت بمفهوم «الذنب الجماعي» نفسه في عمليات قصفها المتتالية لقطاع غزّة منذ أن غادره جيشها عام 2005. خلال السنوات الخمس عشرة الماضية وحتّى عشيّة 7 تشرين الأول، كانت نسبة الوفيات قتلاً لدى الإسرائيليين إلى وفيات الفلسطينيين 1/ 20.8 بحسب أرقام الأمم المتحدة. فلو طبّقنا هذه النسبة على الوضع الحالي، وصلنا إلى مقتل أكثر من 29,000 من الفلسطينيين. وهناك خوف مشروع من أن تكون الحصيلة النهائية أسوأ من ذلك.
لقد تجاوزت تصريحات المسؤولين الإسرائيليين كافة الحدود. فقد أثار الاعلان المشؤوم لوزير الدفاع يوآف غالانت ضجة عندما صرّح: لقد أمرت بفرض حصارٍ تامٍّ على قطاع غزّة. لن يكون هناك لا كهرباء، ولا طعام، ولا وقود، كلّ شيء مغلق... نحن في معركة ضد حيوانات بشرية ونتصرّف وفقاً لذلك. هكذا تمّ تبرير انتهاك صريح للقانون الدولي يشكّل جريمة حرب بتجريد شعب بأكمله من صفته البشرية. كذلك ذكر الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ بشكل فادح المسؤولية الجماعية: هناك أمّة بأكملها مسؤولة. إن الكلام عن أنّ المدنيين غير مدركين، غير مشاركين غير صحيح. إنّه عارٍ تماماً عن الصحة. كان بإمكانهم أن ينتفضوا، كان بإمكانهم أن يناضلوا ضدّ هذا النظام الشرير... إن هذا التصريح الذي حاول هرتسوغ تلطيفه فيما بعد، يحاكي بمفارقة مأسويّة حجج حماس عن «المسؤولية الجماعية»، لكن بصلاحية أضعف، إذ إنّ الإسرائيليين ينتخبون حكومتهم خلافاً للغزّاويين.
استغلال الذنب الأصليّ
هل يمكن لأحد أن يتخيّل قادةً غربيّين يدلون بتصريحات مثل هذه بعد هجوم إرهابي على أراضيهم؟ هل كان باستطاعة جورج دبليو بوش أن يقول عن الأفغان، عقب هجوم 11 أيلول 2001، أنّ أمّتهم بأكملها مسؤولة لأنّه كان بإمكانهم أن يطردوا أسامة بن لادن ورجاله أو أن ينتفضوا ضدّ حركة طالبان التي كانت تستضيفهم؟ هل كان من الممكن أن يأمر الرئيس الأميركي بفرض حصارٍ كاملٍ على أفغانستان وأن ينعت شعبها بالحيوانات؟ إذاً، لمَ تمّ التغاضي عن تصريحات كهذه، إن لم يتمّ تأييدها جهاراً، من قبل القادة الغربيين في فيض تعبيراتهم عن التضامن غير المشروط مع إسرائيل عقب 7 تشرين الأول؟ إن التفسير الوحيد الممكن يحيلنا من جديد إلى الذنب الجماعي، لكن كشعور ذاتي هذه المرة. لقد أصبحت المشاركة في إبادة اليهود الأوروبيين أو عدم القيام بما يجب للحؤول دونها تشكّل الخطيئة الأصلية للغرب الأورو-أطلسي، الذي ولد ككيان جيوسياسي في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
وقد استغلّت دولة إسرائيل هذا الذنب الأصلي كسلاح منذ ما قبل تأسيسها عام 1948 وحتّى اليوم. واستغلّته بشكل مكثّف مباشرةً بعد 7 تشرين الأول، لا سيّما في الوصف القائل إنّ ذلك اليوم هو اليوم الأكثر دمويةً لليهود منذ المحرقة، وهو وصف سرعان ما انتشر في الإعلام الغربي. فإن الوظيفة الأوضح لهذا التوصيف هي إقامة استمرارية بين النازية وحماس– «النازيين المعاصرين» بكلمات سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة– وفي الوقت نفسه بين ألمانيا النازية وغزّة. هذه هي بالفعل وجهة النظر السائدة في الغرب. وهي قائمة على تشويه للواقع: فإن غالبية الإسرائيليين الذين قٌتلوا في 7 تشرين الأول كانوا من اليهود. هذا صحيح. لكنهم لم يكونوا أقليّةً مضطهدةً تجري تصفيتها بشكل ممنهج على يد دولة عظمى تحتلّ معظم القارة الأوروبية، بل كانوا أعضاء أكثرية تتمتّع بامتيازات في دولة فصل عنصري تحتلّ الضفة الغربية وغزّة منذ 56 عاماً، وتفرض على سكّانهما دوّامة من الاضطهاد. ولو أضفنا إلى ذلك أنّ هذه الدولة تحكمها حكومة من اليمين المتطرف تشمل وزراء نازيين جدداً، أدركنا إلى أيّ مدى تشبيه 7 تشرين الثاني بالمحرقة هو منافٍ للحقيقة.
الغرب وسائر العالم
هناك الغرب وهناك سائر العالم. إن الغالبية العالمية– لا سيّما في الجنوب العالمي، كما ظهر في الجلسة الطارئة للجمعية العامة للأمم المتحدة– ترى مسألة إسرائيل/فلسطين من منظور مختلف تماماً: ليس كامتداد للحرب العالمية الثانية، بل كامتداد لتاريخ الاستعمار الطويل. ينظرون إلى إسرائيل بوصفها دولة استعمار استيطاني، نتجت عن عملية استيطان لا تزال جارية في الضفة الغربية. وينظرون إلى الفلسطينيين كضحايا للاستعمار، يكافحون بائسين ضدّ مستعمر أقوى بكثير في ظلّ تفاوت في القوة أقرب إلى تفاوت القوة في الاجتياحات الأوروبية لأميركا الشمالية أو أوسترالازيا منه إلى تفاوت القوة في سائر الأراضي المستعمَرة. ويرون فعل حماس بالتالي كحالة إضافية من الإفراط في عنف عشوائي بين حالات عديدة يحفل بها تاريخ النضال المناهض للاستعمار، وهو إفراط في العنف يبدو شاحباً باهتاً عند مقارنته بحصيلة العنف الاستعماري الأعظم بكثير.
وممّا يفاقم التفاوت بين الغرب وسائر البلدان، أن الحكومات الغربية لم تكتفِ بالإعراب عن تعاطفها مع الضحايا اليهود الذين سقطوا في 7 تشرين الأول في الوقت الذي رفضت فيه أي إشارة إلى سياق الحدث، إن لم تندّد بأيّ إشارةٍ كهذه، على غرار التذكير بأنّ هجمات حماس «لم تأتِ من فراغ» على حدّ تعبير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، ما أدّى إلى مطالبة السفير الإسرائيلي باستقالته. لا بل بدت الحكومات الغربية أيضاً وكأنها تغضّ النظر عن جرائم الحرب التي كانت حكومة إسرائيل قد شرعت فيها، بدءاً من الحصار المفروض على سكان غزّة، ونزوحهم القسري، وقصف مساحات واسعة من التجمعات المَدَنية في القطاع. لذا وكما جاء على لسان مسؤول أميركي سابق تولّى أيضاً مسؤولية في الأمم المتحدة، هو جيفري فلتمان: لتعزيز الاعتقاد لدى ما يُسمّى بالجنوب العالمي بأن الولايات المتحدة تكيل بمكيالين، ليس من طريقة أفضل من المقارنة بين تنديد واشنطن بتدمير روسيا للبنى التحتية المدنية الأوكرانية وصمت واشنطن النسبي حيال تدمير إسرائيل للبنى التحتية المدنية الغزّاوية!
هكذا أصبحت غزّة تجسّد أكثر من أيّ نزاع آخر في التاريخ المعاصر الانقسام بين الشمال العالمي والجنوب العالمي وما سمّي «صدام الحضارات» الذي تبيّن أنّه صدام همجيات. هذا أمر خطر للغاية، إذ يفاقم التوتّر العالمي الذي يؤدّي إلى امتداد النزاعات من الجنوب إلى الشمال– وتبقى هجمات 11 أيلول المثال الأكثر ترويعاً عن امتداد كهذا. هذا وكما يعلم الجميع، أطلقت هجمات 11 أيلول العنان لسلسلة من الحروب في الجنوب العالمي قادتها الولايات المتحدة وكانت لها آثار كارثية على أفغانستان والعراق وغيرهما. فما من طريقة لمنع هذه الدوامة الدموية من التفاقم والاتساع غير احترام القانون الدولي وتطبيقه بحذافيره وإظهار اعتبار متساوٍ من حيث النوع ومتناسب من حيث العدد لجميع الضحايا– سواء أكانت يهودية أو أوكرانية أو فلسطينية.