أسقِطَت الحكومة، ولم تستقل من نفسها. أسقِطَت تحت ضغط شارع وعى السياق الذي تشتغل فيه ديناميات الحكم. انتقلت كلن يعني كلن من كونها تصريحًا باللفظ يتوجَّس الناس منه ويجدونه تصريحًا سخيفًا، إلى كونه موقفًا سياسيًا فعليًا. زاد من فعليَّة العبارة حضور الحشد البشري، والأصيل في انعدام مركزيته. تعرَّض متظاهرون إلى تعنيفٍ وصفته وسائل إعلام الثورة المضادة بـالأهلي والمواطني.
لم يسأل جنبلاط سؤاله الشهري إلى أين، فاضطلعت وسائل الإعلام بجعل السؤال عاميًا، واستخدام عنوان فيلم لنادين لبكي: هلأ لوين؟. الاستعادة الإعلامية هنا ليست عن عبث. الاستعادة تريد العودة لخطاب الثنائيات التي تحاول عبارة كلن يعني كلن في الشارع الابتعاد عنها: مسلمون قبالة مسيحيين، 8 آذار قبالة 14 آذار، وغيرها من ثنائيات الجمهورية الثانية التي اعتدناها طيلة ثلاثين عامًا.
فورًا، جرى التهويل بالفراغ. ومعنى التهويل أنًّ فراغًا ليس الحُكم راغبًا فيه إنّما هو تزكية لاقتتال أهلي سيدفع الحكم إليه. في التحذير شيء من فكاهة، فهو يقول بلا تورية: نحن كنّا الفراغ. نحن الفراغ ولا نقبل بفراغ آخر.
بالمقابل، يظهر خطاب تقني يودّ سحب القلق من الشارع، فيقدّم خريطة طريق بخطوات محددة توضِّح أن لا فراغَ يُخاف منه. من ضمن تفصيلات الخطاب هذا، تنويعات حول شكل حكومة مقبلة.
مصغّرة؟ تكنوقراط؟ مشهود لها بنظافة الكف؟ وجوه من خارج الحكم؟
يمكن فهم الحاجة لخريطة طريق واضحة عامةً، لكن ما لا يمكن فهمه هو الرغبة في كشف الأوراق لنظام أخطبوطي يمتدّ بأذرعه حكمًا وعيشًا. وأكثر.
خطاب الحكومة المصغّرة هو خطاب كسول لا يرقى إلى تأسيسية اللحظة الجامعة العابرة للمناطق والطوائف و...
خطاب الحكومة المصغرة هو لغة تفهمها الجمهورية الثانية آتية من قواميس أزماتها، وتعرف كيفية ضبطها.
وغني عن القول، وبلا تعميم، ولا مقارنات مباشرة، أنَّ حلولًا مشابهة بعناوين مختلفة جرِّبَت في بلدان أخرى، وانتهى الأمر دائمًا بأن يمتصّ الحكم الصدمة ويعمل على تفاصيل الاختلافات والوجوه ويصرِّف الوقت حتى يستعيد النظام عافيته ويعيد تأطير نفسه، ويضرب من جديد.
اللحظات تأسيسية، وقد تقتضي المضيّ في طلبات أكثر تأسيسية مثلها، لا أن نذهب إلى نظام الشكل، إلى حكومة من داخل النظام يحكمونها من الخارج، ويلعب على خطوط تشكيلها وعملها صهر أو أمين عام أو رئيس مجلس أو زعيم حزب أو جماعة. حتى في إعلان استقالة الحكومة، جاءت اللغة قاصرة وتراعي الأصول. ذاهب إلى بعبدا لتقديم استقالتي، وما حدا أكبر من بلده. لغة استعادية وقاصرة لم تحترم هذا المدّ البشري الأصيل الجارف.
الاستعادة قاتلة، لغةً وخطابًا وفعلًا، وهذا نظام يستعيد نفسه بالمنع واللوفكة والتشبيح والسرقات. وأكثر ما يحتاجه الآن هو الإجابات. «من أنتم؟»، و«ماذا تريدون؟»، لا يستحي النظام ولا يتعب من تكرار السؤال. هلأ لوين؟، يسأل إعلام الثورة المضادة محضّرًا لخطاب أول ومواكبًا لمفاعيل تشبيح خطاب ثانٍ.
هلأ، يسقط ما بعده. أيًا كان المعروض، على الأقلّ في الأمد المنظور، حتى استنزاف هذه السلطة وسقوطها تمامًا. التوقف عند إسقاط رئيس حكومة فقط هو الوقوع في فخ لغة الجمهورية الثانية، حكمًا وإعلامًا، في فخ تزكيتهما للعصاب الأهلي والمذهبي تحديدًا. وتقديم الحلول الآن لسلطة مترنّحة هو أشبه بإمساك يدها والظن أنها ستمضي معنا بحسب وجهتنا. وهذا للأسف، وهم قاصر، عن حركة وخطاب الشارع الذي تجاوزنا جميعًا قبل أيام وكتب على الجدران: يسقط الـProposal.