تعليق النظام السوري
جوناثان داغر

القاتل عندما يعفو عن ضحيّته

5 أيار 2022

لم يشرح له أحد يومًا معنى العفو. 

لم يشرح له أحد أنّ العفو يقدَّم للمجرم من قبل الضحية، وليس العكس. أن العفو هو نهاية العقاب وليس التفنّن به.

بالنسبة له، العفو مجرّد كلمة. 

يسمعها من وقتٍ إلى آخر على لسان مستشاريه. يكرّرها أحيانًا في مؤتمراته، يوقّع كلّ بضعة أعوامٍ على مراسيمٍ تأتي على ذكرها قبل الإنتخابات التي سيربحها، أو بعد الكشف عن مجزرةٍ جديدةٍ سيتبرّأ منها. هي مجرّد كلمة فارغة.  رسمة على الورق لا صلة لها بالواقع إلّا كما يريده هو. ولنكن واقعيين، هو لا يكترث للواقع ولا للمعاني. فهو ليس كاتبًا، ولا قاضيًا، ولا محاميًا، ولا فيلسوفًا. هو قاتل، والقاتل لا يحتاج لمعاني الكلمات. يستخدمها كما يشاء. 

العفو، عندما يمنحه القاتل، يصبح أجمل جريمة.

فهل من جريمة أرقى من تلك التي تدّعي أنها رحمة؟ هل من مشهدٍ ممتع أكثر من الضحية المربكة؟ هذا ما رآه في فيديو مجزرة «حيّ التضامن» الذي نشرت الغارديان الأسبوع الماضي مقتطفات منه. 
وللذين لم يشاهدوا الفيديو كاملاً، هذا محتواه: 

عشرات المعتقلين في ورشة عمار. معصوبي الأعيُن، خائفين ومربكين، أياديهم مكبّلة. يقود جندي أحدهم فوق الردم «أوعى، أوعى، أوعى،» ينبّهه. يخاف عليه. ثم يدفعه داخل حفرةٍ في الأرض ويطلق عليه النار. 
مقبرة جماعية مليئة بالجثث. 
تستدير الكاميرا إلى جندي يبتسم: «تحية للمعلّم. تحية للبدلة الزيتية ولكرامتها.» يتكرّر المشهد. معتقل ثانٍ معصوب العينين، ثم ثالث، ثم رابع، ثم عاشر: «معي معي أنت. أنت معي،» يطمئنه الجندي، ثم يطلق النار عليه. 

لم يفهم الجميع النكتة. لم يضحك المجتمع الدولي مع جنوده، فكان عليه أن يقدّم التنازلات سريعًا. فكّر القاتل مليًا. استشار مستشاريه، وحلّل مع محلّليه، وابتكر مع مبتكريه، إلى أن وجد الحلّ.  

أصدر بشّار الأسد في 30 نيسان مرسومًا يقضي بمنح العفو العام للجرائم «الإرهابية» المرتكبة قبل تاريخ 30 نيسان 2022، مستثنيًا الجرائم التي أفضت إلى موت إنسان. 

ولمَ لا؟ 

أراد العفو عنوانًا لجريمته الجريدة. ولكنّ هذا «العفو» سيكون مختلفًا. لن ينفّذه خلف جدران السجن في الظلمة، ولا في ورشة بناء شاغرة، أمام عدسة الكاميرا. سيمنحه في وضح النهار، أمام الكاميرات كلّها، وسيشاهده من قصره ويضحك. 

هو لن يعلن أسماء المعفى عنهم، ولن يعلن تاريخ إطلاق سراحهم. هو يستمتع بفوضى الأهالي أمام السجون في أرياف دمشق، وبكاء الأمهات اللواتي يفتّشن عن أولادهنّ.  هو يريد الضجة الإعلامية بعد عمل الخير هذا. 

هو لن يطلق سراح العدد الأكبر من السجناء المتّهمين بقضايا «قتل ضد النظام»، أي سجناء صيدنايا. بمعنى آخر، هو لن يطلق السجناء الذين شاركوا بالثورة ضده.

هو لن يؤمّن النقل لأي من المعتقلين - علمًا أن عددًا كبيرًا منهم قد أمضى أكثر من عشر سنوات داخل السجون ويعاني من الأمراض و الإرهاق والاضطرابات النفسية الشديدة وفقدان الذاكرة- فاكتفى بايصالهم  إلى بوابات السجن، والرمي بهم على الطرقات. 

والأهم، ضربة المعلّم: هو لن يعلن عن أسماء المعتقلين، آلاف المعتقلين، الذين أمر بإعدامهم في تلك السجون منذ سنوات. يبتسم عندما يتذكّر ليالي الإعدام الجماعي في الطوابق السفلية في صيدنايا. يشاهد صور الأهالي الذين ينتظرون أطفالهم في الساحات أمام السجون ويضحك. فكم منهم لا يعلمون، ولن يعلموا يومًا مصير أبنائهم.  هذا هو العفو كما يفهمه هو. كما شُرح له. 

وهذا هو.

هو صدى الضحكة التي يسمعها السجناء في زنزانتهم المظلمة. هو قسطل الحديد الذي يسلخ الجلد عن اللحم مرّة، ومرّتين، وثلاثة، ومئتين، وثلاثمئة. هو رائحة الموت العفنة في صالات الإعدام في صيدنايا، وهو المقابر الجماعية التي حفرها ليخبّئ جرائمه خلف السجن. هو الجلّاد الذي يخشى ضحيّته فيعصب عينيها، ويرميها في الظلام، ويقتلها من الخلف. هو سجن عدرا وسجن تدمر. هو المجرم الذي يختبئ خلف عرشه وأسلحته وبراميله. هو القاتل الذي يضحك. هو لا يعرف إلا القتل، ويحوّل كل شيءٍ إلى قتل. حتى الرحمة. حتى العفو. 

آخر الأخبار

محيي الدين يروي
16-04-2024
تقرير
محيي الدين يروي
أن تكون سوريّاً في بيروت
حدث اليوم - فلسطين الثلاثاء 16 نيسان 2024 
مقتل محمّد سرور
متابعات الشيخ جرّاح
أساليب جديدة للقتل
تعليق عمل البروفيسورة جودي دين لوصفها مشهد مظليّي حماس بـ«المنعش»