المشهد الأوّل: فضح ازدواجيّة الغرب
البداية مع الفارق بين استقبال «الغرب»، هذا الكائن المتخيّل والواقعي في آن، للاجئيـ«هم» ولاجئيـ«نا»، بين حملات التعاضد والمساعدة والأبواب المفتوحة من جهة، وخطابات الحذر والعنصرية والاندماج (العنصري) من جهة أخرى، بين سرعة تحويل حربـ«هم» إلى قضية عالمية واستحالة أن تتحوّل حروبـ«نا» إلى أي شيء أكثر من دلالة إضافية لعدم أهليتنا السياسية.
لم يتطلّب الأمر الكثير من الوقت قبل أن تظهر إلى العلن «إزدواجية الغرب»، هذا «الغرب» الذي يحاضر بالسلم العالمي وهو شريك في أكثرية الحروب، أو الذي ينشد المساواة وهو يستحوذ على ثروات العالم، أو الذي يحاضر بالديموقراطية ويدعم أكثرية دكتاتوريات العالم. كانت «لنا» في تراتبية العالم فئة «اللاجئ» التي وإن كانت تحتوي على تراتبية داخلية، فقد بقيت «لنا». ثمّ جاءت موجة اللجوء الأخيرة لكي تهجّر لاجئي العالم من هذه الفئة أيضًا، أو تعيدهم إلى أسفل التراتبية، بين لاجئ أبيض وآخر غير أبيض.
حتى في لحظة تعاضده وتضامنه، تبقى معايير هذا الغرب مزدوجة.
المشهد الثاني: لا مفرّ من الازدواجيّة
قد يكون مهمًا، سياسيًا وأخلاقيًا، أن ندين ازدواجية المعايير ونبحث عن معيار متطابق، يمكن أن يعيد بعضًا من المساواة إلى عالمنا التراتبي، وإن كانت مساواة خطابية فقط. ولكنّ هذا لا يلغي أنّ هناك ازدواجية مفهومة أو متوقّعة، وإن كانت مرفوضة أخلاقيًا. فخطر بوتين على أوروبا يفوق خطورة كامل ديكتاتوريات العالم الثالث عليها، كما أن أزمة لجوء الأوكرانيين تخصّها بطرق مباشرة، أكثر من باقي قضايا اللجوء العالمي. فيبدو من البديهي أن تكون المعايير مزدوجة، كما هي عند«نا»، في معاملتنا للاجئيـ«نا» أو عدم اكتراثـ«نا» بقضايا بعيدة عن تماسنا المباشر معها.
ربّما كان ما يزعجنا في هذه الازدواجية هو أنّها تذكير بهامشيّتنا، رغم تصوّرنا بأنّنا في وسط وجدان هذا «الغرب»، كـ«آخره» الدائم والمخيف ولكن المتساوي.
المشهد الثالث: ازدواجيّة أخرى
يكمن ربّما في تهمة «ازدواجية المعايير» افتراض مختبئ، وهو أنّ «الغرب» ما زال مكمن «الكونية» الوحيد في مخيلتنا السياسية. فنحاسب هذا «الغرب» المتخيّل على فشله في لعب دوره «الكوني»، كصاحب المعايير المتناسقة، باللحظة ذاتها التي نفضحه فيها على «خصوصيته»، كمنطقة كسائر مناطق هذا العالم، لها مصالحها وأولوياتها ومعاييرها المزدوجة. فرغم نقده لرواية الغرب عن نفسه، يعود ويؤكّد هذا الافتراض تلك الرواية، القائمة على تحويل خصوصية تاريخ الغرب إلى رواية كونية، تحوّلت إلى المعيار الوحيد لمقياس العالم.
فيصبح هذا «الغرب» مطالباً بالشيء ونقيضه، أن يكفّ عن تدخّلاته في العالم ويعود إلى حدوده الطبيعية، وأن يتدخّل في العالم لإصلاح أزماته (وهي أزمات سببها أصلًا الغرب). أو بكلام آخر، نطالب «الغرب» بأن يعود إلى خصوصيته وحدوده وأن يتحوّل إلى شرطي العالم الكوني في آن.
في لحظة نقدنا لهذا الغرب ومحاولتنا لإخراجه من موقع المركز، نعود ونؤكّد مركزيّته.
المشهد الأخير: حربٌ قد تنهي الازدواجيّة
عودة الحرب إلى أوروبا، وهي المكان الذي بات معرَّفًا بخلوّه من الحروب، ستغيّر معادلات دوليّة وحساسيات سياسية، بطرق من الصعب التنبّؤ بها اليوم. ولكن إذا أعادت هذه الحرب «الغرب» إلى خصوصيته، إذا أجبرته بأن يعود إلى حدوده السياسية، أو بكلام آخر، إذا تبنّى الغرب تهمة ازدواجية المعايير، فسنجد أنفسنا أمام هذا الفراغ الذي بات عمره عقودًا، وهو فراغ أيّ مكمن لكونيّة مختلفة أو لإحساس بالتعاضد والتضامن العابر للحدود.
فغالبًا ما يكون النقد طريقاً لعدم مواجهة المسألة…
ربّما لم نكن بحاجة للحرب في أوكرانيا لكي نكتشف هذا الفراغ، وقد اختبرناه بالثورات العربية أو حروب مناطقنا، حيث كان التضامن والتعاضد بيننا شبه معدوم. ربّما اختبرناه ولكنّنا فضّلنا لوم «الغرب» على ازدواجية معاييره لعدم مواجهة هذا الفراغ.
لكنّ هذا الفراغ بات مكلفًا، وانتظار هذا «الغرب» لكي يملأه عبثي. فماذا بعد فضح معاييره المزدوجة؟