نظرة سينما
ماتيلد روكسيل

ترميم جماعي في ذكرى جوسلين صعب

25 كانون الثاني 2023

في وقت مبكر جداً من حياتها، أدركت جوسلين صعب أهمية الأرشيف والتاريخ الذي يحمله معه عبر العصور. هل هو شغفٌ موروثٌ عن عائلتها؟ هي التي نشأت وترعرعت في قصرٍ بيروتيٍّ ثريّ بمئة وخمسين عاماً من التاريخ، وسكنت في ما يشبه متحفاً للقطع العتيقة والثمينة التي جمعها جدّها لوالدتها؟ أم هل كانت ضرورة فُرضت عليها منذ الساعات الأولى للحرب الأهلية، عندما راحت الميليشيات المتقاتلة تدمّر مدينتها الشاعرية والمُسالمة التي عاشت فيها طفولتها؟ لا شكّ أنه القليل من كلا الأمرين. أيّاً كان السبب، بعد توثيق جوسلين صعب للحروب في الشرق الأوسط لما يقرب من عشر سنوات، أصبحت الذاكرة هَوَسَها وانشغالها الأول.

مع نهاية الحرب الأهلية في لبنان، ذهبت جوسلين صعب في رحلة بحثٍ عن الصُّوَر. عن صُوَرٍ التقطها آخرون قبلها. 
أين هي الأفلام التي رَوَت قصص بيروت قبل هذه السنوات الخمس عشرة من الحرب الأهلية؟ إعادة السِّحر إلى المدينة من خلال السينما... كانت هذه هي فكرتها. ولمصالحة اللبنانيين والتوفيق في ما بينهم، كان من الضروري إعادة بناء مكتبة السينما اللبنانية. أطلقت جوسلين صعب مشروع «بيروت، ألف صورة وصورة»، وجمعت فيه مئات الأفلام التي صوّرها لبنانيّون أو شركات أجنبيّة في لبنان منذ بدايات السينما. كما قامت بترميم ثلاثين فيلماً عُرِضوا في جميع أنحاء العالم تمثيلاً للسينما اللبنانية. كان من المفترض لهذه المجموعة أن تكون أساس ونقطة انطلاق مكتبة السينما اللبنانيّة، ذاك المشروع الذي لم يرَ النور قط. مع ذلك، شكّلت المجموعة ركيزة فيلم كان ياما كان، بيروت قصّة نجمة الذي أنتجته صعب في العام 1994، والذي يَعبُرُ تواريخ وسرديّات الصُّوَر في لبنان ويأخذ المشاهد في رحلةٍ عبر الزمان والمكان، تماماً كما يفعل برنامج عروض أفلام لأي مكتبة سينمائيّة وطنيّة.

دفع هذا العمل الاستثنائي بالمخرجة إلى الغوص في أرشيفات العالم. ثمّ أتت لحظةٌ حاسمة وأساسيّة في مسيرتها. فقد سنحت لها الفرصة بإيداع أرشيفها الخاص في «الأرشيف الفرنسي للأفلام»، والمكوّن من أفلام 16 ملم كانت قد صوّرتها صعب كمخرجة مستقلّة.


عندما عَرَفتُ جوسلين صعب خلال السنوات الأخيرة من حياتها، كان الكثير من اللبنانيين يعرفون اسمها، ولكنّ أحداً لم يرَ أفلامها التي لم تكن متوفّرة. وكانت النسخات المتداولة سرّاً رديئة الجودة، إذ أن أعمال جوسلين صعب لم تكن تثير فضول الكثيرين. هي نفسها لم تكن تملك نُسخاً عن كامل أعمالها، ولم يكن دائماً من السهل عرض المُتاح منها على الشاشة الكبيرة. كانت المواد الأصليّة محفوظة بشكلٍ جيّد، لكنّ النُّسَخ المتداوَلة راحت تختفي حرفياً مع تطوّر التكنولوجيا والتقنيات.

مع تكفّلها نشر وترويج أعمال الفنانة بعد وفاتها، تولّت «مؤسسة جوسلين صعب» هذه المهمة العزيزة على قلب المخرجة والمتمثّلة بأرشفة الذاكرة الكامنة في مواقع التاريخ. تأسّست «مؤسسة جوسلين صعب» في فرنسا لأسباب لوجستية، وكان هدفها الأول ولا يزال هو إيجاد الوسائل لكي لا يتم ترميم أعمال الفنانة على أيدي مجهولين في مختبراتٍ أوروبيّة، وإنما في لبنان وعلى أيدي أشخاص قادرين على فهم الأُطُر التاريخية والجغرافية والسياسية لتلك الصور الاستثنائية، صورٌ لم تعرف عنها أجيال ما بعد الحرب إلّا القليل.

في البداية، انطلق هذا المشروع من اهتمام مشترك وتضامن يهدف إلى كتابة مغايرة للتاريخ من خلال الأرشيف. تمثّلت الخطوة الأولى بجمع تلك المواد، بدءاً بعمليّة بحثٍ وتفاوضٍ طويلة بهدف العثور على جميع المحفوظات الأصلية المُتاحة لجوسلين صعب. كان بعضٌ منها لا يزال بحوزة أرشيف التلفزيون الفرنسي، بينما تمّ تخزين بعضها الآخر ضمن مجموعات خاصة عمِلنا جاهدين من أجل استعادتها وضمّها إلى الأرشيف الفرنسي للأفلام. ولعلّ أحد أهم اكتشافات هذا البحث هو أنّ التوليفات الأصليّة للفنانة، في العديد من الأفلام (مثل بيروت خلص، بيروت مدينتي، قارب المَنفَى)، تختلف عن التوليفات التي كانت تُبَثُّ على التلفزيون في ذلك الوقت، والتي كانت صعب نفسها قد طرحتها في التداول لعدم حيازتها على نُسَخٍ لأفلامها. كما بقيت أفلام أخرى (مثل «نساء فلسطينيات» و«لأرواحٍ قليلة»)، غير مطروحة حتى لحظة وفاتها. هكذا، سمحت لنا عمليّة الترميم بتسليط الضوء على الأعمال الأصليّة للمخرجة اللبنانية، والتي ظلَّت غير معروفة، مُقتَطَعة، أو محظورة من قبل التلفزيون الفرنسي.

بعد ذلك، وبسبب نقص الدعم المؤسّسي، سعت المؤسسة للبحث عن شركاء لتنفيذ هذا المشروع. كان هدفنا هو ترميم واستعادة جميع أفلام جوسلين صعب، دون هَرَمِيّة أو أولويّة، وذلك من أجل إعادة إحياء كامل البعد التاريخي لمسيرتها السينمائيّة. أما هدفنا الثاني، فتمثّل في العمل مع أشخاص قادرين على فهم ماهية هذه الصور وقيمتها. من هنا شعرنا بضرورة ترميم هذه الأعمال في لبنان.

كان من الضروري تعويض النقص في التدريبات القائمة على أرشفة الأفلام في لبنان. لذا، قامت «مؤسسة جوسلين صعب» بتنظيم سلسلة من ورش العمل التدريبية بين أوروبا ولبنان للتدريب على ترميم الأفلام، بهدف بلورة خبرات دائمة في هذا المجال في لبنان، وبالتالي دعم وإغناء المبادرات العديدة الناشئة في هذا المضمار.

تمّ تدريب العديد من الفنّيّين الذين عملوا على ترميم 12 فيلماً لجوسلين. كما تمّت رقمنة المواد (غالبيتها عبارة عن شرائط مُفَرَّغة وشرائط مغناطيسية 16 ملم) في فرنسا، ولكن تم تنفيذ غالبية أعمال الترميم الرقمي من قبل لبنانيين اكتشفوا تلك الصُّوَر خلال عملهم، واكتشفوا معها تاريخاً كانوا يجهلونه عن بلدهم لبنان. تمّ الحفاظ على المواد الأصليّة في ظروفٍ جيدة، على الرُّغم من أنها كانت في الأصل متضرّرة للغاية. نتحدّثُ هنا عن توليفاتٍ أوّليّة أجريت في ضوء سرعة الحدث والحاجة الملحّة لبثّها على شاشات التلفزيون. تعرّضت الشرائط التي تمّ التلاعب بها مرّات عديدة للخدش، وأصبحت الألوان التي يفوق عمرها الأربعين عاماً متضرّرة وباهتة، والشرائط التي استخدمت في التصوير كانت ذات جودة غير متكافئة، الأمر الذي تسبّب في الحصول على قياساتٍ لونيّة متغيّرة ومتفاوتة.


اليوم، نكتشف هذه الأفلام كما لو كانت تُعرَض للمرة الأولى، بالتوليفات التي أرادتها المخرجة، مُنَظَّفة ومُستعادة من خلال أعمال الترميم التي أُجرِيَت عليها. وأخيراً، وبعد عقودٍ من مكوثها في الخفاء، أصبحت أعمال جوسلين صعب مُتاحة وحاضرة كشهادة أساسية وجوهريّة على تاريخ لبنان وعلى مسيرة سينمائية مثمرة وغزيرة لا تشبه غيرها في تاريخ السينما الوثائقية في المنطقة.

(ترجمة زياد شكرون) 

آخر الأخبار

الاحتلال محاولاً إذلال معتقلي مجمّع الشفاء الطبّي  
نادرة شلهوب كيفوركيان
19-03-2024
تقرير
نادرة شلهوب كيفوركيان
الأكاديميّة التي تنادي بإزالة الصهيونيّة
حدث اليوم - #فلسطين الاثنين 18 آذار 2024
مختارات من الصحف الإسرائيلية 18/3/2024 
الهوموفوبيا سلاح «شرعيّ» لمواجهة نواب بيروت المعارضين
بوتين يذكُر نافالني لأوّل مرة بعد الفوز بولاية خامسة