تعليق سوريا
زياد ماجد

الشرط الديمقراطي والإعمار والاحتراب الأهلي

12 كانون الأول 2025

افترَضت كثرة من الكتابات السياسية التي رافقت وتلت سقوط نظام التوحّش الأسدي وفرار رأسه وأعوانه وأموالهم من البلاد، أنّ الديمقراطية ممكنة التحقّق راهناً في سوريا، وأنّ السعي لقيامها أو على الأقل لبناء بعض دعائمها يمكنه الاستقواء بالدول الغربية التي يريد الحكم الجديد نيل اعترافها بمشروعيّته لرفع العقوبات عنه، إيذاناً بإعادة الإعمار وإنقاذ الاقتصاد المتهالك. 

في المقابل، افترضت كتابات أُخرى أنّ سوريا مقبلة على حرب أهلية شاملة وعلى المزيد من العقوبات والعزل، وأنّ حكمها الجديد، الجهاديّ الخلفيّة، ليس سوى نسخة لم تتبلور بعد عن الأسدية ونموذجها الذي ابتنته على مدى نصف قرن.

والحقّ أنّ الافتراضَين انطلقا من عدّة تصوّرات لا أساس لها، أو لا صواب في اعتبارها خصائص ملزمة أو ماهوية، لا في ما يتعلّق بالداخل السوري ولا في ما يربطه بالإقليم والعالم.


الافتراض الديمقراطي

ففي الافتراض الأوّل، افتراض الأفق الديمقراطي والمشروطيّات الخارجية الداعمة له، ثمّة تجاهل لشطب الديمقراطية من الأدبيّات الرسمية الأميركية، منذ ولاية دونالد ترامب الأولى، في تعبير أشدّ صدقاً عن السياسات الفعلية أو «الواقعية» الأميركية في العلاقات الدولية. كما هناك تراجع للديمقراطية ذاتها في أوروبا الغربية، نتيجة صعود اليمين المتطرّف والعنصرية والهوس بالمهاجرين واللاجئين من جهة، ونتيجة الرقابة والقمع اللذين يواجهان منذ مدّة حركات التمرّد الاجتماعي، والتي وصلت إلى ذروتها مع الهجوم السياسي والأمني والقضائي في العامَين الأخيرين على حركات مناصرة الفلسطينيين (ومناصرة القانون الدولي) من جهة ثانية. ويُعطَف على ذلك، أنّ مشروطيّات دول الإقليم على الحُكم الجديد لا تمتّ بصلة إلى الديمقراطية وموجباتها. فلا الحريّات العامة أو الخاصّة، ولا صياغة الدساتير ونزاهة الانتخابات، ولا إحقاق العدالة الانتقالية أو إقامة نظم قضائية مستقلّة، مسائل يُدافَع عنها أو يُراد لها الانتشار في المنطقة، فكيف والحال إن أتى سياقها بعد ثورة كان وأدها والمساهمة في تحويلها إلى حرب استنزاف من الأهداف شبه المعلنة لأكثر الدول المنخرطة أو المرتبطة بها؟ وإن أضفنا الفاعل الإسرائيلي إلى كلّ ما ورد، إن لناحية عدوانه العسكري واحتلاله مناطق جديدة جنوب سوريا، أو لناحية تدخّله في المسألة الطائفية (ولنا عودة لها)، لوجدنا ما يكفي من عوامل تُقحم سوريا في معادلة إسرائيلية مفادها التطبيع كأبرز محفزّات العون الأميركي، بمعزل عن الكثير من الشؤون السياسية الأخرى.


افتراض الحرب الأهلية

أما في الافتراض الثاني، فثمة تبسيط أو جهل يمارسه مراقبون خارجيون وسوريون من أطياف وآفاق متنوّعة. ذلك أنّ المقارنات في ما يُعَدّ علوماً سياسيةً لا تُقام بين نظام عمره أكثر من نصف قرن، قضى 29 عاماً منها محتلّاً جزئياً أو بالكامل بلدًا مجاورًا، و9 أعوام في حربٍ ضروس ضدّ مجتمعه ثم 5 أعوام في إدارة للسجون والمؤسّسات العامة وتجارة المخدّرات في ظلّ احتلالَين روسي وإيراني وعزل غربيّ وتفتيت جغرافي مع تغييرات ديموغرافية، وبين حُكم جديد لم يتحوّل بعد إلى نظام، جسمه هجين هجانة الحرب التي خاضها وتحالفاتها وولاءاتها الضيّقة، وقدرته على تملّك السلطة وحصرها بدوائره مُستمدّة من وهج إسقاطه النظام السابق، ومن تعذّر بدائله الداخلية لانتفاء العصبيّات المجمّعة لكتل مقاتلين وبيروقراطيين (مخلصين أو انتهازيين) خارج أطره، ولعلاقاته الخارجية التي تُتيح له دعماً تركياً وسعودياً وقطرياً وإماراتياً وأميركياً وفرنسياً (وأوروبياً)، إلى هذا الحدّ أو ذاك، مع تطبيع روسيّ واتّصالات إسرائيلية باردة. وهذا كلّه يثبّت دعائمه تدريجياً وقد يحوّله إلى نظام ذي خصائص تسلّطية، لكنّها لا يمكن أن تُقارَن بالنظام البائد ليس لأسباب داخلية طائفية أكثروية-أقلّوية أو جيليّة فحسب، بل أيضاً إيديولوجية وعلائقية ومؤسّساتية واقتصادية، في لحظة لا تشبه لحظات الحرب الباردة ولا ما تلاها، ولا تشبه لحظة العام 2011 وما صاحبها من آمال وإرادات وما قابلها من عنف منظّم وتدمير أملاك وقتل تحت التعذيب وتهجير طال ملايين البشر.


الحاضر، بين ماضي التغيير وشبح العنف الأهلي

هل يعني الأمر أن ثمة انقطاعاً أو قطيعة تامّة بين اللحظات التاريخية التأسيسية في العقود الماضية وبين اللحظة الراهنة، أو بين إرادات التغيير في بداية الثورات العربية وأحوال اليوم المجتمعية؟ بالطبع لا. فما يجري اليوم هو في جوانب منه محصّلة لكلّ ما حصل في سوريا وفي صلاتها بالمنطقة والعالم خلال المرحلة المنصرمة. وهو في جوانب أخرى على ارتباط بموازين قوى، مفروضة من الخارج على داخل مُهشّم، قد تستمرّ لحقبة غير قصيرة أو تتبدّل قليلاً، لكن يصعب تصوّر تغيّرها جذرياً. وموقع إرادات التغيير في الخريطة السياسية اليوم على امتداد دول المنطقة يبدو هامشياً لأسباب ترتبط بالقمع الذي تعرّضت له، وبالتعب والشعور بالعجز من حولها، ولتعارضها مع الأولويات العالمية (وليس فقط الإقليمية) التي تفضّل الاستقرار على الإصلاح وتطبيع الواقع على احترام القانون الدولي وموجبات العدالة. 

يبقى موضوع الحرب الأهلية في أمر الافتراض الثاني، واستطراداً موضوع العنف الأهلي الذي هو بلا شكّ هاجس مشروع، بمعزل عن مزاعم طرحه ونواياها أو رغباتها. ذلك أنّ سوريا شهدت بعد ثلاثة أشهر من سقوط الأسد، وفي ظلّ مرحلة انتظار وترقّب ظلّت الانتهاكات فيها محدودةً، تدهوراً سريعاً في بعض المناطق، أدّى إلى مذبحتَين كبيرتَين ثم إلى عنفٍ متقطّعٍ لم تنتهِ حلقاته بعد. المذبحة الأولى حصلت بعد اشتباكات مع فلول النظام المخلوع في مناطق الساحل واستهدفت المدنيين العلويين في عشرات البلدات والأحياء المدينية لأسباب طائفية وانتقامية وترهيبية. والثانية حصلت بعد اشتباكات بين مسلّحين عشائريين وآخرين من الدروز في جبل العرب، واستهدفت بدورها المدنيين الدروز وبلداتهم وقتلت وجرحت وشرّدت الآلاف. تزامن ذلك مع عمليّات خطف لنساء، أكثرهنّ من العلويات، في جريمة متمادية ومتواصلة، ومع ممارسات تنكيل وحرق أملاك، ثم مع تصفيات واغتيالات طائفية في مدينة حمص ومحيطها ما زالت مستمرّة حتى الآن. وتشكّل أحوال جبل العرب المأساوية، حيث برزت قبل المذبحة ثم استغلالاً لها نزعات انفصالية ودعوات تعامل مع إسرائيل، مختبراً لاحتمالات اقتتال أهلي متجدّد أو لبحث قسري عن حلول «إدارية» يمكن أن يلتقي فيها البعد الطائفي بالبعد القومي الذي تعبّر عنه المسألة الكردية المعلّقة داخلياً وإقليمياً ودولياً وما تمثّله ترابياً واقتصادياً لجهة السيطرة على أكثر من 20 في المئة من الجغرافيا السورية وعلى مواردها النفطية والمائية. والحلول الإدارية هذه لا يمكن أن تكون من خارج اللامركزية الموسّعة و«بعض العدالة» التي تُبعد الحُكم الراهن مسافة شاسعة إضافية، إن اعتُمدت،عن النظام المركزيّ السابق.

على أنّ ما حصل لا يعني أننا أمام مشهديّة حربية معمّمة في سوريا أو أننا مقبلون عليها. فموازين القوى الداخلية والخارجية لا تسمح بذلك، والحُكم الجديد رغم تواطؤ أجهزته مع مرتكبي المذبحتَين، لا يستطيع اعتماد الحرب ولا يحتاجها لتثبيت مشروعيّته الخارجية. بل على العكس. فما انتزعه أو مُنِح له حتّى الآن منها يمكن أن يتضرّر إن فقد حجّة الاستقرار الداخلي. والحرب أصلاً لا تقوم من دون اقتصاد داعم لها، وهذا ما لا توفّره الظروف الإقليمية والدولية والمحلية حاضراً. 


ما يمكن قوله إذاً، بعد عام على سقوط الأسدية وأبدها، هو أنّ سوريا ما زالت في مسار تشير ملامح حُكمه إلى أنه سيُفضي إلى نظام فيه مقادير متفاوتة ومتعايشة من التسلّطية والطائفية والزبائنية والقبول ببعض الاختلاف السياسي والتنوّع المجتمعي، ومقادير واسعة من الليبرالية الاقتصادية والليونة والتكيّف في العلاقات الخارجية وما تفترضه من التزامات واتّفاقات لجذب الاستثمارات والمشاريع الكبرى. والأرجح أن هوامش التحرّك الفعّالة ستكون في محاولات التأثير بالمقادير المذكورة وتوسيع بعضها أو كبح بعضها الآخر، وبالعمل داخلياً وخارجياً على تصعيب جميع «مهام العنف»، ومنع مواردها المعنوية والمالية.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
قضية الأسبوع

المُطاوِع

ميغافون ㅤ
6,900 $ سيدفعها المشجّع الواحد لحضور مباريات فريقه في كأس العالم 2026، ما يُعادل 5 أضعاف أسعار الـ2022.
حدث اليوم - الجمعة 12 كانون الأول 2025 
5 أشهر على المجزرة: الحياة تعود إلى كنيسة مار الياس
12-12-2025
تقرير
5 أشهر على المجزرة: الحياة تعود إلى كنيسة مار الياس
رجّي: معاهدة السلام شوي بعيدة
أهالي الأسرى في السجون الإسرائيلية يعتصمون في بيروت