تعليق مصر
رشا عزب

افتتاح المتحف المصري الكبير

بين الفخر والجوع

6 تشرين الثاني 2025

لقد رأيتُ الفخر والجوع، العظمة والإفلاس، الإبهار والفزع — كلّهم في حفلة واحدة.

بدأت مصر فكرة إنشاء المتحف الكبير في منطقة الأهرامات حين كنت في بداية المرحلة الجامعية في مطلع الألفية. أذكر الاحتفاء بالفكرة من قبل العاملين بقطاع الآثار، الذين أشرفوا لسنوات على استخراج آثارات لا تعرض، بل تُودع في المخازن التي صارت مكتظّةً ومنهوبةً وغير آمنة. وعلى 5 سنوات، أنجزت الدولة مركزاً للترميم من دون أن تتقدّم خطوةً في بناء المتحف، إلى أن قامت ثورة يناير التي اتّهموها بتوقيف كل شيء. ثم عاد الاهتمام السياسي بالمتحف، وشُكّل مجلس الأمناء سنة 2016، لتبدأ رحلة البناء.

تحتاج مصر إلى المتحف بلا شك، تحديداً بعد عقودٍ من نهب الآثار المصرية. ملايين القطع بيعَت، وشُكّلت شبكة تجارة واسعة حول العالم، وضمّ المنهل الأساسي مقابر ومخازن مهملة. وما تحتاجه هذه الحضارة المنهوبة، متحفٌ كبيرٌ للترميم والتخزين والعرض في منطقة الأهرام، إنّما، مَن يحتاج إلى الحفلة الباذخة؟ هل يستطيعون إعلان تكاليفها للشعب؟ ومن أي مخصّصات في موازنة الدولة؟ في كلّ الأحوال، سنعرف يوماً كم دفعنا، إن كان المؤرّخون قد استطاعوا تقدير تكاليف حفلة الخديوى اسماعيل، عنوان البذخ في القرن التاسع عشر.

يوم 1 تشرين الثاني، قرّرت مصر أن تبهر العالم بحفلةٍ باذخةٍ بطول البلاد وعرضها. وفي صباح 2 تشرين الثاني، طلبَت قرضاً جديداً لسداد عجز الموازنة. وقد أعلنتها الصحف بصيغةٍ كوميدية: «موافقة مجلس النواب للحصول على قرضٍ جديدٍ من الاتّحاد الأوروبي لسداد عجز الموازنة». كأنّ للمقترض قراراً. لا يوجد أبلغ من هذا الواقعة، كي نبدأ حديثنا عن ثمن «الفخر وإبهار العالم».

أفضل ما قيل في هذه المناسبة، قالته سيّدة على مواقع التواصل: لدينا رجل في شارعنا، كلّ شهر، ينظّم حفلة كبيرة ويدعو الجيران والأهل ويدفعون النقطة، يجمعها وينفقها على مزاجه، ثم يترك لزوجته وأهل بيته عملية تسديد كل هذه النقطة والإنفاق على البيت، حتّى صاروا مديونين لكلّ المنطقة، وتتحوّل حياتهم إلى جحيم. وختمت قولها: مش لاقي اللقمة وعامل حفلة.

يدفع المصريون 88% من بنود الموازنة العامة، على شكل ضرائب قاسية وعنيفة. أي أنّ هذه البلاد العظيمة المحتفِلة المتخصّصة في إبهار العالم، ليس لديها مشروعات ربحية تنفق منها على نفسها. بل هي تعتمد بشكلٍ أساسيّ على جيوب المواطنين. ومن جيوب المواطنين المخلصين، تمّ الإنفاق على المتحف الكبير، بالإضافة إلى القروض اليابانية التي سنسدّد نحن أيضاً قيمتها.

من جهتي، أوافق على إقامة المتاحف من ضرائبي، فأنا شخصياً أذهب إلى المتاحف في كلّ بلد أزوره. ولكنّي، ومثل الملايين، لم نوافق ولا نحتاج إلى الحفلات لتعظيم فرص الترويج للمتحف، فحتّى روّاد السياحة الثقافية حول العالم، وهم الفئة المستهدفة للمتاحف، لا يتأثّرون بهذه الحفلات. لن يأتي سائحٌ لزيارة مكانٍ واحدٍ فقط في البلد مهما علت قيمته. حتّى المتاحف المهمّة والتي نحجز بعضها قبل موعد الزيارة بأسابيع، لم يعرفها سائحٌ من حفلةٍ مبهرة. تجربة السائحين في البلاد، قيمة المعروضات، فكرة تصميم المتحف، سهولة الحركة، الأمان، عدم التعرّض للإيذاء… هذه هي الأسباب التي تدفع السائح لزيارة أي بلد.

أما بالنسبة لأهل البلد، فهل كانوا يحتاجون إلى إحساسٍ بالفخر، لمواجهة أحاسيس أخرى تطغى عليهم، مثل الفقر وقلّة الموارد وضعف الصحّة والعمل في وظيفتَين للحصول على وجبة بروتين واحدة في الأسبوع؟ وأم سعيد التي تزحف من قريتها في قليوب شمال العاصمة إلى وسط المدينة، هل تحتاج إلى أن تأخذ إجازةً إجباريةً ليومين من عملها في بيع الخضار، لأنّ الجميع مرتعدٌ من نقص المواصلات والتعليمات الأمنية المشوّشة والتصريحات المهينة للشعب التي صدرت من إعلاميي النظام لإخلاء الشوارع قبيل الحفلة؟ ومؤمن، مدرّس الثانوية الذي يعمل على سيارته كوظيفةٍ ثانية، فهل احتاج إلى أن يتوقّف عن العمل ليوم ونصف اليوم، بسبب عجزه عن تحديد منطقة آمنة للعمل من دون التعارض مع خطة سير الوفود التى لم تُنشر إلّا قبيل الحفل بساعات؟ الأمر الذي أمكنه أن يؤدّي إلى حبس سائقي السيارات لساعات في أماكنهم، كما جرى بالفعل صباح اليوم الثاني للاحتفال، حيث تعطّلت المحاكم والطرق.


إنّه التناقض الصارخ، كثيمة متأصّلة للحكم الاستبدادي في مصر: جوعنا يواجه فخرنا؛ عظمة البلاد في مقابل الديون والاقتراض الدائم؛ الإبهار الذي يأتي مرافقاً الفزع. كل هذه الثيمات، واستخدامها كثيراً على مرّ العصور مع اختلاف الحكّام، تؤكّد فعاليّتها في التشويش على حقيقة المشاعر الجماهيرية. شيءٌ يشبه حالة «الزار» العتيقة، أو التيه الذي يحدث في الموالد مثلاً. تتوه مشاعر الفرد وسط الهيستيريا الجماعية الراغبة بالفرح أو الانعتاق من لحظات البؤس ولو قليلاً. أن تخرج هائماً تحتفل أمام شاشة. أو أن تنضمّ إلى آخرين في الميادين، ترقص بأوامر عليا، جائعاً مفلساً تحتفل بما لا تدركه أو تملكه، ولكن بما تتمنّاه وتريده. ولكن عمر هذه الحالة يظلّ سريعَ المفعول، وعلى وزن المثل الشعبي «الفخر مدهون بزبدة، يطلع عليه النهار يسيح».

لاحظنا، من مقاعد المتفرّجين، وهي مقاعد حُجزت للشعب، أنّ كل القيم مهدورة من أجل حفلة مبهرة، مع الاعتذار لنجيب محفوظ، ولكن أي نوع من الإبهار المتناقض الذي حصلنا عليه؟ انبهر الملايين في مؤتمر افتتاح المتحف بتصدّر اثنين من رجال الأعمال المُدانين بأحكام قضائية سابقة، أحدهما مدانٌ بقتل مطربة شهيرة، وآخر بالفساد للاستيلاء على المال العام. جلسا بأموالهما في صدارة افتتاحٍ عالميٍ، كما رُوّج. انبهر المتخصّصون، من قدرة النظام على الدفع بهذه الوجوه إلى صدارة مشهدٍ ثقافيّ وفنّي بالأساس. أين علماء الآثار المصريين أو الدوليين؟ أين مهندس ومصمّم المتحف؟ أين الأسماء المصرية البارزة في الثقافة والفنون؟ لا إجابة. هذه هي حقيقة رؤيتهم، زكائب وأكياس من الأموال بجوار الأهرامات. هذه هي حضارتهم الجديدة.

وفي الصورة الخلفية، انبهرنا كالعادة بكلّ الطاقات البشرية والفنّية والمهارات في الفنون المختلفة التي عملت لسنوات ليخرج هذا المتحف إلى النور، بالرغم من عدم وجود أي رؤية بصرية للحفل. مجرّد اسكتشات وتكوينات بصرية مزعجة، أقرب لحفلات العلمين. لم يبقَ سوى الطاقة البشرية المصرية التي هي ملاذنا، ولولاها لكنّا قد حصدنا الفناء بسبب الاستبداد المتتالي وإهدار موارد البلاد المستدام على مرّ العصور. الناس في بلادي هم المجدّدون، وهم المَنهوبون. أما الإدارة السياسية، فهي تستغل ما تنجزه طاقتنا البشرية للتسويق  لنفسها. تمنح الحفلة لمن تشاء، وتخوّن غير المحتفلين. فلماذا لا تحتفلي يا أم سعيد؟

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً