تعليق دولة حزب الله
سيلفانا الخوري

«تعافوا!»

جسد الجماعة ورأسها المفقود

1 تشرين الأول 2025

تعافينا!

سيمرّ وقتٌ طويل قبل أن نفهم تماماً أثر التروما التي خلّفتها جريمة الحرب التي هي عملية البايجرز على جمهور حزب الله. أكثر ربما من اغتيال نصرالله، وفي ما يمكن أن نقرأه اليوم بأنه تمهيد له، تلقّت الـ«بيئة» كما تُسمّى، في الآلاف من الأجساد الفردية، استهدافاً تجاوزت فيه الحرب حدود «الاشتباك العسكري» لتدخل في منطقة رمزية، التشويه الجسدي فيها استكمالٌ لتشويه الأرض بشجرها وزرعها وعمرانها. فيما كان الخطاب الرسمي للحزب يتوعّد تل أبيب وحيفا وما بعد حيفا، كان العدو راكناً هنا، في البيوت والجيوب وجوارير الغرف الشخصية. كان من جنس تلك الأغراض الصغيرة الأليفة التي نضيّعها تحت وسادة الكنبة أو فوق طاولة الصالون حتى نكاد ننسى وجودها. كان البايجر ساعةً، محفظةً، علّاقة مفاتيح، ريموت كونترول أخرى في دفء المنازل وفي جيوب الستر قرب القلوب المجاهدة. ثمّ رنّت الأجهزة كلها في الوقت نفسه وظهرت على الشاشات رسالة واحدة تطلب من حامليها أن يضغطوا الزرّ. ومثلما ننصاع لأجهزتنا وشاشاتنا الذكية، ضغطت الأصابع من دون سؤال. ففرقعت الأجساد في البيوت والشوارع والدكاكين. فُشارٌ نحن. فُشارٌ أجسادنا. فُشارٌ حيوات أبنائنا في هذا الجزء الملعون من العالم. نضغط مع عدوّنا على الزر نفسه وننفجر. 

«تعافينا»، قال الخطاب الرسمي بعد سنة من الأحداث فقدت فيها الجماعة آلاف العيون والأصابع قبل أن تفقد رأسها الرمزي: رأس الأب والملهم والقائد. بدا الأمر بمثابة أمر عمليات أكثر منه استنتاجاً فعلياً. حوالي ثلاثة آلاف إصابة فردية (يعني ثلاثة آلاف بيت. ثلاثة آلاف عائلة) تتلقى أمراً بالشفاء الجماعيّ العاجل، في قرار مركزي لإعادة الإمساك بالجماعة وسرديتها وذاكرتها. فجأةً، خرج المصابون إلى الإعلام وتوالت الصور والفيديوهات والأخبار: العيون المثقوبة والأصابع المبتورة وخرائط الوجوه وثيقة تستعيد زمن العقوبة القديمة حيث يصير الأثر على الجسد رسالة علنية. لكن أيضاً شهادة للكيفية التي يلتقي فيها الحداثي والتقني مع الوحشي وما قبل الحداثي، لينتج شكلاً جديداً من الحرب، الميدان فيها هو الجسد نفسه. ولنا في غزة، في أيتامها وأطفالها مبتوري الأطراف، نموذج النماذج.

استذكارٌ بطعم الحداد

لكن بالنسبة للجماعة، تحوّلت العملية إلى علامة تاريخية: ما قبلها ليس كما بعدها. ليس فقط في حسابات الحرب، بل في وعي الجماعة لذاتها، لهشاشتها، وفي إدراكها أن الحرب لم تعد اشتباكاً عسكرياً وحسب، بل كتابة وحشية على الجسد، كتابة تترك أثراً في الذاكرة والتاريخ.

العين: نافذة الروح والبصيرة. المعرفة، أو وهمها. الرؤية الفردية والجماعية. النور والعتمة.
الإصبع: القدرة والإشارة والطقس الديني. المسبحة والزناد. إصبع الأب القائد المطمئنة والمتوعّدة.
ويقال أيضاً coordination oculo-manuelle: التنسيق بين العين واليد. رؤية الطريق والإشارة إليه.

«تعافينا»، قال الخطاب الرسمي، وبدت الأنشطة الاستذكارية أقرب للاحتفال منها للحداد. في بيئة بُنيت عقيدتها على الحزن وطقوسه، اتُّخذ القرار هذه المرّة بطرد الألم من السردية ورفض الاعتراف بالهزيمة، والتوسّل بالقدرة الإنجازية للّغة: تعافوا! فتعافينا. وبدل أن يكون الجرح موضوع حداد، صار شعار قوة. هكذا يتبدّى التناقض: جماعة تشكّلت تاريخياً حول قداسة الحداد، وجدت نفسها غير قادرة على الحداد على جرحها الأحدث. فأصبح الإنكار أداة سياسية بامتياز، لأن الاعتراف بالألم كان ليفتح أسئلة محرّمة عن المسؤولية والمصير.

لكنّ الذاكرة ليست شأناً فردياً، بل تُبنى داخل الجماعة. وهي، خصوصاً، ليست مجرّدة، وتبقى في الجسد عبر الطقوس والحركات والعلامات. هكذا يتحوّل الجسد إلى سجلّ حيّ: الأصابع المبتورة والعيون المثقوبة والندوب الدائمة، كلّها علاماتٌ تحفظ الحدث وتعيد استدعاءه يومياً في كل حركة ناقصة وإشارة مبتورة وفضاء محدود. وهنا المفارقة، ففي الوقت الذي يعلن فيه الخطاب الرسمي «أننا تعافينا»، تغدو الأجساد المصابة نصباً تذكارياً، تصرّ على التذكّر وتعيد تفعيل الألم وتحفظ ما يحاول الكلام محوه. سردية الانتصار القسرية تكذّبها الأجساد في كل لحظة. فالعيون المطفأة تبقى مطفأة والأصابع المبتورة لن تنمو مجدداً والكلام يكذّبه الجسد.

صخرة الروشة

فكيف تُفصَل الذاكرة عن الجسد الحيّ؟ في الذكرى السنوية الأولى للأحداث، اختار الحزب أن يدير التروما عبر استراتيجيّتين أساسيّتين: إزاحة المكان من الضاحية إلى الروشة، وإعادة تأويل المعنى عبر تحويل الهزيمة إلى انتصار... على اللبنانيين.

كان طبيعياً أن تبقى مثل هذه الفعاليات في الضاحية، معقل حزب الله، حيث الجروح مفتوحة وحيث يعيش معظم المصابين. لكنّ اختيار منطقة الروشة، يكشف عن إزاحة متعمّدة للذاكرة. فالضاحية لا تسمح بالنسيان. هناك، البيوت مثقلة بصور الشهداء، والشوارع مأهولة بالأجساد المجروحة، والمكان نفسه يفرض الحداد. أمّا الروشة، فهي فضاء بانورامي، ومعلَم وطني طبيعي يمكن تحويله إلى شاشة عرض.

لكنّ الخروج من الضاحية إلى الروشة، فضلاً عن كونه هروباً من ذاكرة المكان المثقلة، كان أيضاً استعراضاً للقوّة في آخر مكان لا يزال بإمكان الحزب أن يُظهرها فيه: الداخل اللبنانيّ. هكذا بدت إضاءة صخرة الروشة بصور الأمينين العامين وإصبع نصرالله الشهيرة المرفوعة تحويلاً للصخرة من مشترَك لبناني حيادي إلى أيقونة حزبية مفروضة بالقوة، واستقواءً ولادياً على اللبنانيين الآخَرين الذين ما زالوا يعيشون بدورهم تروما الاغتيالات وأحداث 7 أيار وكسر ثورة تشرين وقمعها. فإذا بالجسد المصاب يتحوّل إلى شعار سلطوي، وبالذاكرة الجريحة يعاد تأويلها كسلاح سياسي داخليّ، وتقوية عزيمة الجماعة تصير نكئاً لجراح اللبنانيين الآخرين وتذكيراً بسيادته عليهم.

من معلمٍ طبيعيّ، أراد حزب الله تحويل صخرة الروشة إلى أيقونة حزبية. حاول أن يواجه التروما المركّبة لفقدان رأسه الروحي ولإصابات الآلاف من أعضائه عبر تحويل للرموز: من جسد جماعيّ جريح إلى صخرة مضاءة بصورة القائد. هكذا يُعَوَّض الرأس المفقود والأعضاء المبتورة بوصفهما علامات عن النقصان والغياب، برأس أسطوري فوق-طبيعي بديل هو الصخرة المضاءة بإصبع بحجم الوطن. 

لكنّ الرمز قادر دوماً على الانقلاب على محاولات تأويله. وبدل أن يعوّض استعراض الروشة فقدان الرأس والأعضاء، بدا كأنه يذكّر بغيابهم. فالروشة ليست كتلة صمّاء. إنها صخرة مثقوبة، مفتوحة من الداخل، عائمة على الماء، صلبة وهشّة في آن. حين أُضيئت بصورة نصرالله، بدا المقصود تنصيبها رأساً بديلاً، أيقونة للصلابة. لكنّ شكلها يفضح العكس: الرأس نفسه مثقوب، يحمل فجوة تشبه الثقوب التي تركتها البايجرز في وجوه المصابين. لم تمحُ الصخرة الجرح، بل بدت كأنّها تجسيد طبيعيّ للتروما الجماعية: كتلة تحمل فراغها في ذاتها، وحضورٌ يؤكّد الغياب، ورمزٌ للثبات مدموغٌ بالنقصان.

في بعض الصور التي انتشرت من «النشاط» على الروشة، بدا الجمهور واقفاً على مبنى مهدّم، يراقب العرض ويشارك فيه في الوقت نفسه، في مشهد يضاعف حضور الخراب بدل أن يمحوه. وفي البحر، عشرات القوارب والزوارق بالأعلام الحزبية، حول الصخرة وفي مواجهة المدينة. بدا المشهد كأنه حصار ذاتي بقدر ما هو حصار للبلد: أبناء يقفون فوق الخراب يطوّقون مدينتهم، في حركة دائرية تنغلق عليهم وعلى الآخرين على السواء.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً