تعليق مصر
رشا عزب

هكذا فكّكت أجهزة الأمن المصرية حياة المعارضين 

أغلبهم بلا حسابات بنكية ويدفعون للدولة مقابل خروجهم من السجن

28 آب 2025

اتّجهت الأجهزة الأمنية لدعم الاقتصاد المنهار على طريقتها. وذلك، اتّساقاً مع منهجية «تقليب» كافّة طبقات المجتمع المصري، وحلب الغالبية العظمى من الفقراء المصريين، بمحاولةٍ لتعويض الهزائم الاقتصادية المتتالية التي أدّت إلى انهيار قيمة العملة وارتفاع التضخّم، وغرق البلاد بأجيالها (حتّى التي لم تولد بعد) في ديون كبرى، إلى جانب تحويل كل موارد وأصول البلاد إلى صناديق سيادية، يديرها الرئيس ومن حوله فقط، فيبيعون الجزر في النيل، والبحر، والشواطئ.

اتّجهت الأجهزة الامنية، لدعم الاقتصاد المنهار على طريقتها، إذ لم تُعاد هيكلة مصروفات الأجهزة الأمنية بالطبع، ولم تقلِّل الدولة ميزانية المستشارين في كلّ مؤسسة أو مكافآتهم الدورية والاستثنائية، ولم تنكمش ميزانيّات المراقبة الشرطية أو جيوش المخبرين العاملين لمراقبة رضا الجمهور عن الخدمات المقدّمة. والهدف ليس الرضا، بل كشف عدم الرضا وتخويف المتذمّرين والغاضبين من سياسات الحكم.

لم يحدث أي من ذلك لدعم اقتصاد بلادنا المنهار.
فالاتّجاه محدّد سلفاً صوب «العصف بالمعارضين»، وتصفية حياتهم الشخصية ونهب أموالهم القليلة التي تعرف الأجهزة أنّها كذلك، وكأنّ القرار الجديد الذي اتُّخذ منذ فترة هو عدم تكرار اعتقال بعض هذه الشخصيات ذات الصوت العالي، ولكن الاكتفاء بتفكيك حيواتها واستنزاف مواردها ومصادر رزقها. لدينا عدد كبير من المعارضين، لديهم حسابات بنكية معطّلة، وأخرى مراقبة، ويصل الأمر إلى حدود سرقة تحويلاتهم البنكية (كما جرى معي منذ عامين، مثلاً)، أو منعهم، بقرارٍ رسميٍ من إصدار أوراقهم الشخصية البسيطة مثل بطاقة الرقم القومي، فما بالنا بالحساب البنكي؟

بعد كل هذا الحصار، تأتي الكفالات المالية كتتويج لرحلة التقليب المستدامة، كعقاب على استمرار الكلام والاعتراض والمقاومة. وقد انزوَت حياة آلاف من المشاركين في أحداث الثورة، سواء نشطاء قدامى أو حديثي العهد بالعمل السياسي، نتيجة العقاب الاقتصادي الرادع لكثير منهم، ممّن فقدوا وظائفهم للأبد، وفقدوا فرصة الحصول على عمل في السوق الرسمي لوجود سوابق سياسية. فصارت الغالبية في الهامش، مسحوقة بسبب الحصار وموجات التضخّم، فانهارت بيوت وتشرّد أطفال وعانت سيّدات كثر من عقاب العائل.

ظهرت بعض الوساطات السياسية لعودة بعض المعتقلين السياسيين السابقين من الصحافيين والإعلاميين، إلى صحفهم القديمة التي اشترتها واحتكرتها «الشركة المتّحدة». ولنا أن نتخيّل المشهد، أن تكون عائداً من السجن، بسبب أفكارك، لتعمل مع مؤسّسات المخابرات الجديدة التي تديرها «الشركة المتحدة». ولكل صحافي ضابط أو مخبر مسؤول عن تحريكه. 

ثم تلاعبت الأجهزة بولاء الصحافيين، وأذلّت بعضهم حتّى الرضوخ، وجنّدت آخرين لحسابها. حاولت قلّةٌ العمل في صمت من دون ضجيج، ليس لمحاولة تصحيح الأوضاع، ولكن فقط لضمان فتح منازلهم وعدم تشرّد أبنائهم. أذكر أنّ هذه المحاولة قد أُطلق عليها في الأوساط الصحفية مصطلح «الدمج». وقد استوقفتني هذه الكلمة كثيراً أثناء الحوارات العابرة في نقابة الصحافيين التي تمتلئ زواياها بحكايات الصحافيين الذين لا يستطيعون ممارسة المهنة. بالمقابل، تواصل النقابة سعيها لإرفاق أسمائهم في تعيينات «الشركة المتّحدة»، في إطار ما أُطلق عليه اسم «لجنة الدمج والتأهيل بتنسيقية شباب الأحزاب». وأرى الآن بوضوح، أنّ كلمة «الدمج» هنا تعني الاستتابة ومحاولة السيطرة على العناصر الجامحة التي كان لديها ماضٍ جامح في مواجهة النظام. هذه اللجنة التي شابها ما شاب كلّ لجان الحوار الوطني وتنسيقية شباب الأحزاب التي هي في حدّ ذاتها محاولة دمج ثوّار تائبين إلى حضن الدولة الرخو. وكان عليهم استتابة آخرين ممّن أنهكهم اضطهاد النظام وصاروا جاهزين لعملية الدمج. تُحيلني هذه الفكرة إلى قصّة المعتقل شريف الروبي، أحد النشطاء المؤسّسين في حركة 6 أبريل. اعتُقل الروبي لسنوات، ثم خرج ولم يجد عمله، وتعثّر في الإنفاق على بيته. تحدّث شاكياً الحال، وطالب لجنة الدمج بتنفيذ وعودها، ثم ألقيَ القبض على الروبي مرّة أخرى حتّى لا يشوّه سمعة لجان الدمج المشكوك في دورها.

أما القلّة الخارجة عن الطاعة والتي لم تستطع لجان الدمج احتواءها، فلدى النظام خطّته الأولى الدائمة: العصف. والعصف أنواع وأشكال، وتبقى فكرة «تقليب المعارضين» واحدة من أخطر أدوات العصف هذه، قادرة على تحويل حياة البشر إلى جحيم. الكثير ممّن خرجوا لم يجدوا من حياتهم إلا فتاتها، بعد استيلاء القوّات الأمنية على أموالهم أثناء القبض عليهم. الأجهزة الإلكترونية التي يجدونها لا تعود. وفي بعض الأحيان، يخرج المرء ولا يجد منزله ولا سيارته ولا وظيفته. ولا توجد طريقة قانونية لاسترداد هذه الممتلكات الخاصّة التي تخفي بعضها القوات الأمنية، ولا تسجّلها في أوراق القضية كمضبوطات، كما حصل في وقائع القبض على زميلنا رسّام الكاريكاتير أشرف عمر، ولم تحتمل الأجهزة صراخ زوجته ومطالبتها بردّ مبلغ الـ300 ألف جنيه الذي استولوا عليه، ولم يسجَّل في تحقيق زوجها إلّا 80 ألف جنيه، فقبضوا على الدكتورة ندى مغيث هي الأخرى بتهمة نشر أخبار كاذبة، بكفالة قدرها 5 آلاف جنيه.

وأهالي المعتقلين الصامتين، كثر. تمنعهم ظروفهم من نشر كل الانتهاكات المتتالية التي يتعرّضون لها، حرصاً على ذويهم في السجون. هناك زوجة صحافي معتقل منذ سنوات، تُدير حياة العائلة وحدها، ما بين الزيارات وتربية الأولاد في ظلّ ضنك كبير. لديها وظيفة صغيرة تكاد تكفي زيارة السجون ومعيشة الأطفال. لدى زوجها سيارة، تعلّمت قيادتها لتوصيل الأولاد إلى المدارس، وتذهب بها إلى السجون البعيدة المترامية على حدود القاهرة حيث يقبع زوجها. منذ أيّام قليلة، تحفّظت القوّات الأمنية على السيارة، بحجّة أنها من ممتلكات زوجها، وتمّت مصادرتها.

ثم النماذج العبرة: استدعاء أحمد دومة منذ خروجه أربع مرّات أمام النيابة بسبب منشورات لا تعجب الضابط المسؤول عن ملفّه، وجعله يدفع كفالات لأربع مرّات متتالية؛ لينا عطا الله رئيسة تحرير «مدى مصر»، تمّ استدعاؤها خمس مرّات خلال السنوات الماضية لنشر موادّ صحفية، وفي كل مرّة تدفع كفالةً لتخرج؛ ماهينور المصري، متّهمة في أربع قضايا، ودفعت في الأخيرتَين كفالةً للخروج؛ أما صاحبة هذه السطور، وفي السنوات الماضية، فقدت منزلاً، ودفعت غرامةً وكفالةً، وسرقت الأجهزة الأمنية سيّارتها العزيزة المُكافحة «زقزوقة»! 

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
نعيم قاسم: تعيين مدني بالميكانيزم تنازل مجانيّ لإسرائيل
60,000 بطريق إفريقي ماتوا جوعاً
دول انسحبت من يوروفيجن اعتراضاً على مشاركة إسرائيل
شكوى ضدّ مايكروسوفت بتهمة تخزين بيانات استخدمها الجيش الإسرائيلي
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي