تعليق مصر
رشا عزب

صناعة الصمت

سجون المحتوى الرقمي في مصر

4 كانون الأول 2025

تنطلق الدولة المصرية من واقع أنّها العارفة المسيطرة على مسارات الكلام، القابضة على رقاب العباد، المتحكّمة في تشكيل الواقع وصورة هذا الواقع فى عيون المواطنين. تتمحور المؤسّسات الحاكمة بالضرورة حول رغبات الفرد، ولكن بالتحديد ذاك الفرد الذي يعتلي السلطة. يحاولون تنفيذ الرغبات والأحلام والأوهام في كثير من الأحيان، وبالفعل، الكثير من الأوهام. لذلك، نلاحظ جميعاً الفزع الذي ينتاب القيادة السياسية للبلاد، إذا اكتشفَت أنّ المصريين يعيشون حيوات أخرى غير التي يحبّها ويعرفها ويدركها هو.

ومن المدهش أنّه يعبّر عن ذلك صراحةً في كثير من  حواراته الموجّهة للجمهور، بأنّه لا يُحب ما تحبّون، ولا يروق له ما يسعدكم، وبالتالي، تعمل المؤسّسات بكفاءة لحصار كل أشكال الرغبات المتطرّفة للجمهور. من هنا دخلنا في عصرٍ لا تتحكّم فيه القوانين أو الدساتير، لأنّ «الصمت» هو دستور البلاد الذي يحاولون تمريره منذ 11 عاماً. ورغم إقرار دستورٍ جديد، فإنّه لم يرق للسلطة التي جاءت من خلال هذا الدستور، فتحاول الجمهورية الجديدة قتل هذا الدستور منذ اليوم الأول، والتخلّص منه، وتثبيت قواعد جديدة، مبنية على أحكام أخلاقية وقيَمية تدور حول وهمٍ جديد اسمه «قيم الأسرة المصرية». لم نعرف مصدر هذه القيم، أو الشروط المُعرِّفة لها، أو حتّى القواعد المنظِّمة لهذه القيم، لكنّنا ندرك أن هذه التهمة لاحقت كثيرين في المجتمع المصري خلال السنوات الأخيرة، بما فيهم كاتبة هذه السطور.

طالت الاستهدافات كلّ الألوان والأشكال، على اختلافاتنا الشديدة ومواقفنا المتباينة من السلطة القمعية أو السلطة الذكورية. كلّنا متّهمون أو مذنبون أمام قيَم الأسرة المصرية، كلّنا نذهب إلى المحكمة الاقتصادية، ندفع العمر أو الأموال ولكن المهم، هو الاستتابة: كيف يعلّمنا المجتمع أن نخضع لسلطانه. والسلطان لم يكن الفرد الحاكم فقط، بل الممارسات المنظّمة للسلطة القمعية. فذهبنا أفواجاً للتكفير عن ذنبنا في حق القيَم المجهولة للمجتمع المصري، مؤثّرون، نشطاء سياسيون، مروّجو منتَجات، حتّى الكتّاب والصحافيون.


ترى السلطة المستبدّة أنّ الخطر يكمن في أي حركة خارج الحدود المرسومة، تتربّص الجمهورية الجديدة بالمحتوى الرقمي، ولذلك يبدو الفضاء السيبراني الواسع، بمثابة الخطر الذي يلفّ الجميع. أصبح هو المساحة البديلة للممارسة الاجتماعية والثقافية المحاصَرة، وبديلاً للإعلام الرسمي الذي بدأ كديناصور وسينتهي صريعاً مثل الكائن الخرافي الرابض على النيل: ماسبيرو، هذا الصرح الذي تحكّم في الوعي الجمعي للمصريين والعالم العربي لعقود. واليوم، أكاد أجزم، أنّ الأجيال الحالية لا تعرف ماهية هذا المبنى وماذا يحدث بداخله حتّى الآن. ماسبيرو الذي قالوا عنه إنّه وُلد عملاقاً، لم يتبقَّ منه سوى مبنى عملاق، عبء مالي وإداري على الدولة وكتلة لافتة لذكرى السيطرة المطلقة على الإعلام.

ودائماً ما نسأل: كيف تواجه الجمهورية الجديدة كل التقنيات الحديثة للبثّ الرقمي بقوانين الديناصورات؟ إنّ المواطن الذي يمتلك الانترنت، يمتلك صوته، وكل أساليب الردع التقليدية ستقف في لحظة عاجزة عن فهم ما سوف تؤول إليه الأمور ذات يوم. بل وسوف يتّحد كل ضحايا هذا الحصار في لحظةٍ غير معلومة لهم ولنا، لتحرير الفضاء السيبراني بدلاً من تحرير الشوارع وحصار مؤسّسات الدولة والوصول إلى ميدان التحرير.

يحضر في ذهني الآن مفهوم عالم الاجتماع الفرنسي الفيلسوف جان بودريار عن «محاكاة المحاكاة»، وكيف أنّنا نعيش في عالمٍ أصبح فيه الواقع مجرّد انعكاس لنسخٍ أخرى، وأنّ هذه النسخ (المحاكاة) أصبحت أكثر واقعيةً من الواقع الأصلي نفسه، فكيف تقوى الأنظمة على مجابهة المحاكاة بقوانين العصور الوسطى؟


لنا أن نتصوّر، أنّ شابَّين يعيشان خارج القاهرة، من مدينة دمياط الساحلية— وهي مدينة معروفة بكونها مدينة منتجة، مشهورة بصناعة الأخشاب والأثاث، ومركز صناعي تاريخي فى شمال الدلتا، قبل أن تتعرّض لانتكاسة اقتصادية كبيرة؛ وبدلاً من أن تساعد الدولة الصنّاع والحرفيين، أنشئت مدينة صناعية بمليارات، من دون أن تعبّر عن واقع وطموحات السكان والصنّاع، ولكنّها تعبّر عن أحلام الرئيس.

على كلٍّ، لنا أن نتصوّر أنّ شابَّين قد خرجا من هذه المدينة، الأوّل مهندس والثاني طبيب، وقدّما بأبسط الإمكانات برنامجاً قوياً ومبتكراً، استخدما فيه المعامل الرسمية للمؤسّسات، للكشف عن طبيعة المنتجات الغذائية التي تغمر السوق المصري. وقد خرجت من البرنامج مفاجآت كبيرة وخطيرة، عبر استخدام قنوات شرعية تماماً. أنا شخصياً من جمهور الثنائي وأتابع الحلقات، وقبل أيّام ظهرت الحلقة الأخيرة والهامّة، الخاصّة بالكشف على عبوات مياه الشرب: النتائج أقل ما توصَف بأنّها كارثية، وتهدّد صحّة وسلامة المجتمع، وانتصرَت التحاليل لمياه الشرب غير المعبّأة والموجودة في الصنابير العادية في البيوت، وتبيّن أنّها أكثر أمناً على صحّة المواطنين. وفي اليوم التالي لنشر هذا المحتوى، أُلقي القبض على الشابّين من منازلهم بدمياط. ثم ازدادت التهم عبثيةً، مثل «التشكيك في المنتجات الغذائية»، وهي بحقّ، تهمة كافكاوية جديدة. فبعد التشكيك في الثوابت الوطنية، والتشكيك في المنجزات الاقتصادية، نصل معاً إلى التشكيك في سلامة الأغذية. وغداً، سوف يُلقى القبض علينا بتهمة إهانة المنتجات الغذائية.

ورغم أنّ الشابَّين قد فعلوا ما فعلوه للتأكّد من سلامة الأغذية، كان من المفترض بالدولة أن تتأكّد من نتائج التحاليل ومتابعة ماذا فعلت الشركات بصحّة المواطنين، ولكنها غير منوطة بكلّ ذلك لأنّها، ببساطة، تساند هذه الشركات من جهة وتشارك الرغبة العليا في «تخريس» هذا المجتمع، وألّا يكون هناك صوت سوى أصواتهم، ولا منابر إلّا منابرهم، ولا حقائق إلّا حقائقهم. وإنّ القوانين المطّاطية التي صنعوها، تناسب مجتمعات حمقاء، ولا زلت أرى أنّه من الصعب وصفنا بالحماقة. ربّما صرنا شعباً طيّعاً، في لحظةٍ مهزومةٍ، لكن من المؤكّد أنّه لن يتنازل عن أدواته الجديدة بسهولة، والصراع حولها ممتدٌّ لتحريرها كاملة.

أُفرج عن الشباب بكفالة 50 ألف جنيه، على أن تظلّ القضية قائمة في المحاكم، مثل المئات من قضايا المحتوى الرقمي التي استهدفت الفتيات والسيّدات في البداية وتحت غطاء وموافقة شعبية لتأديب النساء، ثم طالت الجميع كما نرى الآن.

ولعلّ أفضل ردٍّ على مفهوم جان بودريار عن «محاكاة المحاكاة» وأفضل ردٍّ على محاولات حصار ما لا يمكن القبض عليه أو حصاره، ما قاله له المعماري الفرنسي، جان نوفيل أثناء حوارهما المذهل «الأشياء الفريدة»: إنّه احتواء الشكل للشكل، انظر للحدائق اليابانية، هناك دائماً نقطة تلاشٍ، مكان لم نعد نعرف فيه ما إذا كانت الحديقة تنتهي أو تستمر. 

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
شكوى ضدّ مايكروسوفت بتهمة تخزين بيانات استخدمها الجيش الإسرائيلي
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي