تحليل نظام الكراهية
سيلفانا الخوري

عودة إلى قضية ماريو مبارك

عن رُهاب المجاز وانهيار التفكير الرمزي

17 كانون الأول 2025

حذف الكوميدي ماريو مبارك مقطع الفيديو الذي أثار حفيظة المؤمنين وأشباههم واعتذر من كل من جُرِحت مشاعره وشعر بالإساءة. كان قد تمّ استجواب ماريو حال عودته من كندا إلى لبنان بسبب دعوى رُفعت عليه تتّهمه بــ«التحقير والتجديف على اسم الرب يسوع المسيح علانية». هدأت الزوبعة بانتظار هدف آخر تجتمع ضدّه الجماهير التي تُغضبها نكتة ولا يستفزّها مشهد سواطير «جنود الرب» المجلوخة التي خرجت تتكلّم باسمها مدّعية الدفاع عن رموزها.

أعود إلى القضية لا من زاوية حرية التعبير، ولا من باب الدفاع عن الحق في التجديف، بل من باب اللغة وعلاقتها بالواقع وكيف أن ردة الفعل على النكتة تكشف أزمة عميقة، تتعدى مجتمعاتنا الصغيرة لتبدو عالمية. أزمةٌ في العلاقة باللغة، وفي القدرة على تحمّل الكلام حين لا يطابق نفسه، تتجلّى في تقديس المعنى الحرفي وقتل المجاز: وهي عرَضٌ من أعراض ميلٍ عام إلى تسطيح الفكر وتضييق الواقع وانهيار المستوى الرمزي في فهم العالم وتأويله.


المزح والمجازر

في الجدالات التي احتدمت حول نكتة ماريو مبارك، برز موقف للقسيس نبيل حبيبي الذي اختار الدفاع عن الكوميدي من زاوية لم يتفطّن إليها إلا قلّة. في الفيديو موضوع الاستهجان والمقتطع من عرض ستاند-أب كان قد قدّمه ماريو، يعلّق الأخير على العبارة الإنجيلية المعروفة «من ضربك على خدّك الأيمن فدرْ له الأيسر» فيقول إن المسيح كان على الأرجح يمزح في قوله، إلا أن الإنجيلي مرقس أخذ العبارة على محمل الجد فدوّنها. في صفحته على فيسبوك، ومن ضمن دفاعه عن حق الكوميديا في استخدام النص الديني وحتى في مساءلته، أثنى القسيس على تعليق ماريو مشيراً إلى أنه تفسير جيّد للعبارة الإنجيلية ومحقّ في اعتباره أن المسيح كان «يمزح» بشكل من الأشكال لأنه كان يتكلّم «ضمن سياق مبالغة»، أي مجازياً، أي من مسافة، لا من تطابق مباشر بين القول والمقصود، وأن الجملة لا يجب أن تُفهم بشكل حرفيّ. فهي لا تحمل تعليمات سلوكية بل صدمة رمزية هدفها زعزعة منطق العنف والانتقام. 

في الواقع، المشكلة مع المزاح هي في جوهرها عجز عن تحمّل اللغة حين لا تقول ما تقصده مباشرة. وحين نفقد القدرة على فهم اللغة المجازية، فإننا لا نُسيء فهم النكتة فقط (ومعها الفنون والآداب بعامة) بل نُسيء فهم النص الدينيّ أيضاً. فيتحوّل الدفاع عن النص المقدّس إلى قراءة حرفية تُفرغه من رمزيته، بينما، وللمفارقة، المسيح كما تصوّره الأناجيل لم يكن يتكلّم إلا بلغة مجازية قائمة على الأمثلة والتورية والاستعارة. 

لكنّ المجاز ليس مجرّد مجموعة صور بلاغية تزويقية تُضاف إلى المعنى بعد اكتماله. كثير من الباحثين في اللسانيات المعرفية يعتبرون أن فهمنا للعالم نفسه مبنيّ على الاستعارة. فنحن نفكّر بالزمن وبالحب وبالعنف وبالسياسة وبالذات، عبر انتقالات رمزية بين مجالات ومستويات مختلفة. من هنا، فإن رفض المجاز ليس مسألة لغوية فحسب، إنه موقف معرفيّ من العالم. 


الفهم الحرفي للعالم

في الواقع، يرتبط الميل إلى الفهم الحرفي ارتباطاً وثيقاً بنزعة أعمق إلى التبسيط تبدو إحدى سمات زمننا الأبرز. وأعني التبسيط بمعناه السلبي، أي إلى اختزال العالم في معانٍ واضحة ومستقيمة ولا لبس فيها. معانٍ تغفل عن رؤية أن الواقع مركّب ومتعدّد الطبقات وأن التناقض من طبيعة الأشياء. في هذا النمط من التفكير، يُطلب من الأشياء أن تكون شيئاً واحداً فقط، وأن تقول معنى واحداً لا غير. 

فما الذي نفقده فعلياً عندما تصير علاقتنا بالواقع حرفية فنستقبل أي انزياح لغوي، أي مبالغة، أي استعارة بردّات فعل عدائية وسوء فهم فوريّ؟ ما نفقده هو المسافة أولاً. وفي المسافة بين الواقع والقاموس تولد الفنون. والفنون هي التعبير عن قدرتنا على بلوغ مستوى رمزي في فهم العالم تكمن فيه خصوصيتنا الإنسانية. والكوميديا، ومثلها كل الفنون التي تنقذ اللغة وتنقذنا من تحجّر القواميس، تحرّرنا من الفهم الأحادي المغلق. تجعلنا نحتمل التناقض الذي هو جزء أصيل من الحياة. أما الميل إلى التبسيط المفرط والوضوح والمباشرة والتعليب، فهو شكل من أشكال الفاشية التي تستهدف أول ما تستهدفه هو اللغة، لأنها تمكّننا، عبر المجاز، من فتح ثغرات في الإيديولوجيات الدينية والسياسية المختلفة.


عالم يرتاب من الخيال

التفسير الحرفي للنصوص الدينية ليس جديداً، وله نماذجه في مختلف الأديان وكل الحقبات التاريخية. لكن وجهه الأخطر اليوم يبدو هذا النمط من المسيحية الأميركية، خصوصاً تلك المرتبطة بالخطاب الصهيوني الإنجيلي، والتي يروِّج لها في لبنان مَن يسمّون أنفسهم «جنود الرب». خطاب لا يتعامل مع النص بوصفه فضاءً رمزياً، بل بوصفه برنامجاً سياسياً يُقرأ حرفياً ويُطبّق بلا مسافة تأويلية. لا ينحصر تمثيل هذا الخطاب ببضعة زعران بالسواطير والعضلات المنفوخة، بل له أيضاً نسخ أكثر «تهذيباً» وتقليدية: مطاوعون ببذلات رسمية ولغة منضبطة يمسكون بمفاتيح السيستم ويقرّرون حدود الممنوع والمسموح.

لكن آفة التبسيط لا تقتصر على الدين، ولا على هذه القضية بعينها. نحن أمام ظاهرة عالمية تطال الخطاب العام برمّته. يكفي أن نتأمل النموذج اللغوي الذي رسّخه دونالد ترامب. بجمله القصيرة وقاموسه المحدود واختزاله الفجّ للواقع وعدائه لكل ما يتطلّب شرحاً أو طبقة ثانية من المعنى، رسّخ أسلوباً لم يبقَ حكراً على اليمين الشعبوي، بل تسلّل، بأشكال مختلفة، إلى خطاب اليسار أيضاً وإلى الإعلام وإلى النقاشات اليومية على وسائل التواصل الاجتماعي حيث بات التفكير الرمزي عبئاً والتعقيد شبهة.

قضية ماريو مبارك وقبله نور حجار وسواهما ليست إذاً قضية نكتة. إنها قضية لغة لم تعد قادرة على قول الشيء ونقيضه من دون أن تنهار. قضية عالم بات يرتاب من المجاز ويطلب من الكلام أن يقول شيئاً واحداً فقط. وفي عالم كهذا، لا تُحاكَم النكتة وحدها، بل يُحاكَم الخيال والفكر والفن وكل ما يجعلنا أكثر من كائنات مرهقة تفهم حرفياً وتعيش حرفياً ولا طاقة لها على التأويل.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 17/12/2025
تحليل

عودة إلى قضية ماريو مبارك

سيلفانا الخوري
حدث اليوم - الثلاثاء 16 كانون الأول 2025
16-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الثلاثاء 16 كانون الأول 2025
كيف تُعزَل المخيّمات الفلسطينيّة عن محيطها؟ مخيّم البداوي نموذجاً
16-12-2025
تقرير
كيف تُعزَل المخيّمات الفلسطينيّة عن محيطها؟ مخيّم البداوي نموذجاً
600 متراً اجتازتها قوات الاحتلال داخل الخط الأزرق لتفخيخ وتفجير ذخائرر في بلدة الضهيرة
شهيدان في غارتين على سبلين ومركبا