شاي تقيل وقرفة. فرنش برس. تركي. دبل اسبريسو. لاتيه. شاي أخضر. أميركاني. سبعة زبائن كلَّ صباح. أتعرّف عليهم يوماً بعد يوم، طلباً تلو طلبٍ، وموقفاً تلو موقفٍ. وهذه هي القصّة الرابعة عشرة من «الزاوية»، مقهًى ما زال قيد الافتتاح.
وصلت جنى إلى المقهى باكراً، قبل أن تسخن ماكينة القهوة حتّى. كنت لا أزال في المرحاض، وباب المقهى موصد من الداخل.
- افتح زياد هيدي أنا
- شو هيدي أنا… شو بطلع بالزلط؟ لحظة
- ما عم بسمعك افتح!
- ولك ما لحظة لحظة
خرجتُ مؤشّراً لها بالصبر. سبحان الله لا تأتي المصائب فرادى. فعلاوةً على أنّ جيراني مدسوسون، وأنّ فريد يواجهني بأقذر الأساليب، لا يُسمَح لي بقضاء لحظة في الحمام. ماشي.
- طوّلي بالك! ما في شي ما بينطر دقيقتين.
فتحتُ الباب فيما أشدّ حزامي.
- إيه شدّه بعد… كم قدح صرت قادحه هالقشاط؟
- واحد. شو كم قدح؟
- رح يصيروا تنين إذا ما منعمل شي مع فريد، هالمنيكة كلها فيها خربان بيوت زياد
- لاه طولي بالك شو خربان بيوت؟ كله أندر كونترول
أوهمتُ نفسي في الفترة الأخيرة أن الوضع تحت السيطرة، وحاولتُ جاهداً ألّا أُقلق جنى معي. لكن حان وقت المواجهة، وإنْ بتأنٍ. فمواجهة شخص مثل فريد لا تكون بأسلوبنا، بل بأسلوبه. ولكن هل سيكون ذلك على حساب القهوة؟
فريد ليس إلا عقبة مؤقّتة، ولكن المقهى هو الأساس، وهو آخر ما تبقّى منّي ولي. لم تعد لدي مشاريع أخرى في هذه الحياة؛ السنوات الخمسة الأخيرة سلبت مني كل ما أحب وكل ما أملك من آمال وأحاسيس. لم يبقَ إلّا جنى… وأنا.
- أوّل شي بدنا نحكي مع البلدية.
- حكينا… وما صار شي
- لا، قصدي نعرف كيف نحكيهم.
- شو بدك نعمل يعني؟ رشوة؟
- لا… بس إيه، حسن نيّة. تلفنلي سامي قبل ما توصلي وخبرني إنو البلدية فوتوله الكراسي - لفريد. يعني مش معو هني عالآخر… في شي
- شو بدك نعمل؟
- خلّينا نفكّر أوّل شي إذا فينا نعمل عزيمة هون.
- عزيمة زياد؟ من جمعة حكينا بدنا هالشهر نصمّد كرمال إذا صار ما صار.
- طيّب شو بدنا نعمل؟ بدي يجوا لهون، الريّس موسى والشباب.
- يجوا عشية.
- يعني منفتح عشية؟
- ليه لأ؟
- ليلة وحدة هيك؟
- ليش مش دايماً؟ ومنعزمهم يجوا ع افتتاح الدوام الليلي.
فكّرت بالموضوع… السهر نفسه نسهره في البيت، أمام الشاشة.
التعب، هو نفسه، علينا أن نتعبه الآن قبل فوات الأوان، قبل أن تستسلم خرزات ظهري.
- شو رأيك؟
تحمّست جنى، وجلست متربّعة على الكنبة كما لم أرها من قبل.
- منصير نفتح تسعة بدل سبعة ونص، منسكّر 12. وبالويكند متل ما بدنا، أو متل ما البلدية والجيران بيحملوا…
- يعني قهوة بالنهار وpub بالليل؟
- ايه ليه لأ؟
- بدنا نشوف كيف نعملها بلا ما نخوّف الجيران أو الريّس موسى.
- ايه بس كل القهاوي هيك… تطلع حواليك… شوف... كل شي بعد الستة بيقلب بيرة وطلوع
- «وطلوع»! ههه، كأنك مش شاربة بحياتك.
- هههه!
- أختاااااه! إحذري!
شعرتُ أنها الخطوة الصحيحة. نستميل البلدية من جهة ونخطو خطوة إضافية في المقهى… البار؟
- خلص؟
قالتها جنى محاولةً التأكّد من حماسي. أجبتها بحزم وابتسامة: خلص.
قفزَت عليّ وتعلَّقَت برقبتي. تذكّرتُ قهوة الريش.
- شو قولك رح يعمل فريد؟
- خليه يبكي بالزاوية.
- ههه. انتِ معك خبر انو إذا ما حبنا الريس موسى أكلنا خرا إيه؟
- اسكت اسكت. انبسط شي مرة بشي.