تعليق الحرب على لبنان
سيلفانا الخوري

الإهانة مرآة للهزيمة اللبنانية

28 آب 2025

اهدأوا قليلاً. في اللحظة التي يصبح فيها هذا الوضع فوضوياً وحيوانياً سنغادر. تريدون معرفة ما يحدث، تصرّفوا إذن بتحضّر، تصرّفوا بلطف، تصرّفوا بتسامح، لأن هذه هي المشكلة في ما يحدث في المنطقة...

فعلياً، لا جديد في عبارة توم برّاك. لكنها تكثيف خطابي لطبقات متعدّدة من العنف والسلطة والهيمنة. فكلامه ليس مجرّد زلة دبلوماسية، بل لحظة يتداخل فيها الخطاب الاستعماري الكلاسيكي الذي لطالما أعاد إنتاج ثنائية المتحضِّر/البدائي، وخطاب ترامبيّ يجعل من الفظاظة والتسطيح أسلوباً لا يقتصر على شخص الرئيس الأميركي بل ينسحب على كل الجهاز السياسي الذي يحكم من خلاله. وأخيراً وليس آخراً، فإن عبارة برّاك تبدو امتداداً للذل والمهانة اللذين يعيشهما اللبنانيون منذ سنوات، وذلك حتى في عزّ اللّحظات التي كان فيها الحديث عن الشرف والكرامة بحد ذاتهما عنواناً سياسياً. هكذا، فإن تعليقه على صخب المراسلين الصحافيين وفوضاهم في المؤتمر الصحافي الذي أقيم في القصر الجمهوري بدا نموذجاً للمهانة بوصفها جزءاً من بنية العلاقات الاجتماعية والسياسية اللّبنانية، داخلية كانت أم خارجية.


خطاب استعماري بلباس ترامبي

لم يكتفِ تعليق برّاك المهين باستهداف المشهد الإعلامي في لحظة مخصوصة، بل سرعان ما انزلق إلى حكم حضاريّ شامل: هذه هي المشكلة في ما يحدث في المنطقة. لم نعد في القصر الجمهوري اللبناني ذات ثلاثاء 26 آب من عام 2025، بل بتنا في الشرق الأوسط بأسره. هذه القفزة من الخاص إلى العام ليست اعتباطية، إنها في صلب الخطاب الاستشراقي الذي يجعل من حادثة عابرة برهاناً على «طبيعة» شعوب المنطقة وتبريراً للسلوك الاستعماري حيالهم. 

فمنذ القرن التاسع عشر، برّر الاستعمار الأوروبي وجوده من خلال خطاب «الرسالة الحضارية». اختُزل الشرق إلى فضاءٍ غرائزيّ لاعقلانيّ يحتاج إلى ترويض وتمدين. وأُنتجت «معرفة» عن الآخَر باعتباره الهمجيّ والانفعاليّ وغير المنضبط، لتكون أداة للهيمنة وتساهم حتى في تشكيل تصوّر هذه الشعوب عن نفسها. لكن الخطاب الاستعماري الكلاسيكي كان يعرف كيف يغلّف العنف بلغة تنويرية: تعليم، إصلاح، تحديث... لغة هي نموذج للعنف الرمزي، أي السلطة التي تتخفّى في ثنايا الخطاب وتجعل الخاضع/ التابع/ المهيمَن عليه يتعامل مع العنف المسلط عليه على أنه لمصلحته. لكن عبارة برّاك لا تُتعب نفسها بالتزويق والتزيين: أنتم حيوانات ومشكلتكم غياب التحضّر والتسامح. في الواقع، نحن هنا في قلب زمن دونالد ترامب. لا أقنعة، لا زخارف بلاغية، لا كياسة أو دماثة شكلية، فقط قوة وقحة وفظة وفجّة تُعامِل الخصوم والحلفاء بالمنطق نفسه، منطق المهانة والتهديد. لغة الصفقات التجارية لا الدبلوماسية والعلاقات الدولية بمعناها التقليدي. لغة السوق... السوقية. 


مفارقات الاستعمار الجديد

وهنا تحديداً تكمن المفارقة الأخلاقية. يطالب برّاك الصحافيين وعبرهم كل أبناء المنطقة وبناتها، بالتحضّر واللطف والتسامح، ولكنه يفعل ذلك بأشد العبارات فظاظة. فإذا ما عرّفنا التحضّر بأنّه القدرة على التواصل المتّزن والإصغاء والاعتراف بالندّية والدماثة، يكون برّاك هو الذي يتصرّف بما يناقض التحضّر والإنسانية ويمارس أسلوباً هو النقيض المباشر للقيم التي يتّهم شعوب هذه المنطقة برمّتهم بافتقادها.

مفارقة أخرى أساسية لا بد من الإشارة إليها وهي الانزياح في اللغة الأميركية الذي يكشفه كلام برّاك. فتاريخياً، لم يكن الخطاب الأميركي يستعمل ثنائية «المتحضّر/البدائي» التي تميّزت بها الإمبراطوريات الأوروبية الكولونيالية. فالولايات المتحدة، ذات الجذور البروتستانتية- البيوريتانية، آثرت دوماً صياغة العالم عبر ثنائيات أخلاقية كبرى: الخير في مواجهة الشر، والحرية ضد الاستبداد، والديموقراطية مقابل الديكتاتورية. هذا ما ميّز خطابها في الحرب الباردة، وما عاد بقوة بعد 11 أيلول مع تعبير جورج بوش الابن عن «محور الشر». غير أنّ تصريح توم برّاك يستبدل الثنائيات الأخلاقية المعتادة بلغة أقرب إلى الإرث الاستعماري الأوروبي: الفوضوي/ المتحضّر، الحيواني/ الإنساني. يمكن فهم هذا الانزياح على أكثر من مستوى. أحدها هو أنه لم يعد ممكناً تسويق رواية الخير والشر خاصة بعد سلسلة الإخفاقات في العراق وأفغانستان. إن فشل مشاريع «نشر الديموقراطية» يؤدي إلى إعادة استدعاء لغة تلقي اللوم على الشعوب نفسها وتحاول إقناعنا أن المشكلة ليست في الهيمنة الأميركية بل في «طبيعة المنطقة». 


حيوانات «سويسرا الشرق»

هذا من جهة مُطلِق الإهانة. لكن، وعلى المقلب الآخر، من أين يتأتّى هذا الشعور الجماعيّ بالغضب والحزن حتى عندما يتّخذ شكل نكران كامل (على غرار مَن سمعوا anomalistic بدل animalistic)؟ في الواقع، إن جزءاً من عنف العبارة يكمن في أنّها تصيب جرحاً دفيناً في سيكولوجيا المجتمعات المستعمَرة وهي الرغبة في الحصول على الاعتراف من المستعمِر. فاللبناني، مثل غيره من شعوب الأطراف، ينشد نظرة الآخَر الغربي ويقيس قيمته من خلالها. لذلك تأتي الكلمة جارحة، لأنها تحبط توقّعاً دفيناً للمديح والاحترام. الغضب هنا ليس رفضاً للإهانة وحسب، بل انعكاس لخيبة داخلية: كنا ننتظر إعجاباً، فإذا بنا نُواجَه باحتقار صريح.

يُضاف إلى ذلك بُعدٌ آخر يتعلّق بالاقتصاد الريعي- السياحي الذي بات جزءاً من هوية اللبناني وتصوّره عن نفسه. فمنذ نهاية الحرب الأهلية، واللبنانيون يحاولون استعادة صورة لبنان على أنه «سويسرا الشرق»، بلد السهر والبحر والحرية. في ظل الفساد والدمار والاغتيالات والتبعيات السياسية وسوء الأحوال المعيشية والثقافية المتفاقم، ظل اللبنانيون يعتنقون هذه الصورة عن أنفسهم ويحاولون تصديرها للآخَر. في هذا السياق، يصبح «إعجاب الأجنبي» جزءاً من هوية اللبناني. وحين يقول مبعوث أميركي إننا «حيوانات»، ينهار هذا الرأسمال الرمزي الذي نحاول تسويق أنفسنا عبره. المهانة هنا ليست سياسية وحسب، بل وجودية خصوصاً.

لكن المهانة أيضاً غير غريبة عن حياتنا اليومية. لم تقع بوصفها حادثاً عرضياً أو استثناء. فمنذ سنوات لم يعد ممكناً إحصاؤها واللبنانيون يتعرّضون لها باستمرار من حكّامهم وزعمائهم: فسادهم، خطاباتهم المليئة بالعنف والتحريض والاستغباء، لامبالاتهم بآلام الناس وحياتهم وكراماتهم. لقد اعتدنا العيش مع الإهانة حتى صارت جزءاً من علاقتنا بالسلطة. لذلك حين يصفنا مبعوث خارجي بـ«الحيوانات»، فالصدمة ليست في أن يُقال لنا هذا الكلام وحسب، بل في أن نُجبَر على مواجهة الحقيقة التي نعيشها أصلاً. كل ما يفعله الخارج هنا هو أن يعكس ما نعيشه في الداخل: حقيقة أن زعماءنا هم مستعمِرونا الأصليون.

في النهاية، ما قاله توم برّاك لم يكن مجرد تعبير فَظّ. إنه تكثيف لعقود من الخطاب الاستعماري مطعّم بفجاجة ترامبية وموجّه إلى مجتمع مأزوم يعيش الإهانة من الخارج والداخل معاً. الجديد ليس في المضمون بل في مباشَرَته وفي قول الاستعلاء جهاراً وبلا تزويق. فاللبنانيون يبدون اليوم وأكثر من أي وقت مضى عالقين في موقع المُهان، سواء أكانت الإهانة أميركية أم محلية. وكلام توم برّاك لحظة تذكّرنا بأن خطاب الهيمنة لا ينحصر بالعلاقات الدولية، بل هو في صلب البنية العميقة لعلاقتنا بالذات وبالآخر، وأن كسر حلقة الإهانة يتطلّب أولاً إعادة بناء سيادتنا من الداخل قبل الخارج.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
نعيم قاسم: تعيين مدني بالميكانيزم تنازل مجانيّ لإسرائيل
60,000 بطريق إفريقي ماتوا جوعاً
دول انسحبت من يوروفيجن اعتراضاً على مشاركة إسرائيل
شكوى ضدّ مايكروسوفت بتهمة تخزين بيانات استخدمها الجيش الإسرائيلي
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي