بعد كلّ ذلك
بعد أكثر من مئة عام على انطلاقة الثورة العربية الكبرى وما تخلّلها من اتّفاقيات سايكس بيكو ووعد بلفور وما تلاها من دخول القوّات الفرنسية إلى دمشق في أعقاب معركة ميسلون واستشهاد وزير الدفاع يوسف العظمة دفاعاّ عن بلده، وإسقاط قوّات الانتداب الفرنسي للحكم الفيصلي والحكومة المنبثقة عن المؤتمر السوري الأول؛
وبعد مئة عام بالتمام والكمال على انطلاقة الثورة السورية الكبرى في العام 1925 من جبل العرب بقيادة سلطان باشا الأطرش والدكتور عبد الرحمن الشهبندر في مواجهة الانتداب الفرنسي وطلبًا لاستقلال سوريا ورفضًا لتقسيم البلاد إلى دويلات طائفية؛
وبعد أكثر من سبعين عامًا على استقلال الجمهورية السورية والذي ناله الشعب السوري بالقتال والنضال والمفاوضات ودفع من أجله أفدح الأثمان، من سجون وتشريد وقصف وتدمير للمدن والقرى؛
وبعد سلسلة الانقلابات العسكرية ومصادرة الدولة الوطنية وخروج الجيش من ثكناته ورفضه المزمن في العودة إليها، وبعد تغوّل حزب البعث على الحياة السياسية، ومن ثم تغوّل آل الأسد على الحزب والدولة والمجتمع؛
وبعد 15 سنةً على قيام الثورة السورية، ثورة الحرية والكرامة، ثورة الربيع العربي والتنسيقيات والتظاهر السلمي، التي واجهها النظام الأسدي بالجيوش والطائرات والبراميل المتفجّرة والسلاح الكيميائي واستدعاء التدخّل الأجنبي، وقتل فيها مئات الألوف وهجّر الملايين وارتكب أبشع المجازر؛
وبعد تحوّل الثورة السورية إلى حرب أهلية تخوضها قوّات النظام إلى جانب فصائل عسكرية طائفية مدعومة إيرانيًا وروسيًا في مواجهة قوى إسلامية وسلفية جهادية متمركزة في الشمال والشمال الشرقي ومدعومة من تركيا، وصولًا إلى عملية «ردع العدوان» وانهيار الجيش الأسدي وحلفائه وسحب الغطاء الروسي عنه ودخول قوّات هيئة تحرير الشام إلى العاصمة دمشق من دون قتال وتنصيب أحمد الشرع من قبل الفصائل العسكرية رئيسًا للمرحلة الانتقالية؛
بعد كلّ هذا وذاك، يرتفع اليوم العلم الإسرائيلي في بعض المَسيرات الشعبية في محافظة السويداء الثكلى اليوم بدماء أبنائها، الذين قتلتهم غيلة وظلمًا قوّات الأمن العام والفصائل العسكرية المكوّنة للجيش السوري الجديد وفزعة العشائر. وتعلو الأصوات المطالِبة بالانفصال التام عن الدولة السورية وفتح معابر دولية إلى المحافظة، في الوقت الذي يشكر فيه الشيخ الهجري، شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز، بنيامين نتنياهو رئيس وزراء دولة الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين، لوقوف دولته إلى جانب دروز السويداء وإيقاف الأعمال العدائية بحقّهم نتيجة قصفها للأرتال العسكرية المتقدّمة باتّجاه المحافظة وتدميرها لمقرّ وزارة الدفاع في قلب العاصمة السورية دمشق.
مسؤولية الحاكم
كيف ولماذا وصلت بنا الأمور إلى أن يستعين بعض دروز سوريا بإسرائيل في مواجهة من يُفترض أنّهم يتقاسمون معهم ذات الانتماء الوطني؟
وماذا يعني حقيقة هذا الانتماء وبماذا يفيد عندما تكون حياتك وحياة أولادك وأحفادك مستباحة من بعض «شركائك» بالوطن وبدعم وتسهيل من السلطة الممسكة بزمام الدولة السورية بعد سقوط نظام الأسد، والمنحدرة من السلفية الجهادية.
هذه ليست أسئلة فلسفية ومقاربات منطقية وأخلاقية تنتظر من يتأمّل فيها ويجيب عليها، ولكنها مسائل سياسية ووجودية، ملحة ومصيرية، تُخاض وتُقرَّر على أرض الواقع، وتخصّ انتماءات الناس وهوية أوطانهم، تخصّ حياة البشر وأرزاقهم، تخصّ مستقبل البلاد وسلامة أراضيها، وتخصّ شكل سوريا القادمة وإمكانية بقائها.
لقد أسقطت عمليّة «ردع العدوان» العسكرية نظام الأسد وأتت بهيئة تحرير الشام إلى سدّة الحكم ونصّبت السيّد أحمد الشرع رئيسًا انتقاليًا للبلاد. ومن هنا فإنّ المسؤول الأول عن هذا الوضع هو الحكم المسيطر على قرار الدولة والقائم بفعل «إعلان النصر». الحكم الذي عمد إلى الاستئثار بالسلطة وحل الأحزاب والكيانات السياسية والمدنية ووزّع المناصب والغنائم على رجالاته وتورّط في قرارات سيادية خاطئة وفرّط بإمكانية الوفاق الوطني وأدار ظهره لكل المطالب والبيانات التي دعت إلى المشاركة الشعبية وإعادة العمل بدستور 1950 وترسيخ دولة القانون وفصل السلطات، وتقصير الفترة الانتقالية وتكريسها بانتخاب مجلس تأسيسي يضع دستورًا دائمًا للبلاد.
الدور الإسرائيلي
لم تمضِ ساعات قليلة على سقوط نظام الأسد المدوّي في 8 كانون الأوّل 2024، حتى نفّذت إسرائيل ضربات جوية واسعة، تعتبر الأكبر في تاريخها، تمّ على أثرها تدمير 80 بالمئة من قدرات الدولة السورية العسكرية. برّرت إسرائيل هذه الهجمات بأنّها تهدف إلى تعزيز أمنها ومنع وقوع الأسلحة المتقدّمة في أيدي من وصفتهم بـ«جماعات إرهابية»، في إشارة ضمنية إلى أن هذه الأسلحة كانت من وجهة نظرها في أيدي أمينة أثناء حكم بشار الأسد.
وسارع الجيش الإسرائيلي بعد سقوط الأسد إلى إعلان نشر قوّاته العسكرية في المنطقة العازلة على الحدود السورية وصولًا إلى قمّة جبل الشيخ الاستراتيجية، فيما أعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلغاء «اتّفاق فك الارتباط» بين البلدين الموقَّع عام 1974.
ولم تمضِ أسابيع قليلة حتى خرج علينا وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر بتصريحات أشار فيها إلى أنّ التفكير في دولة سورية واحدة مع سيطرة فعّالة وسيادة على كل مساحتها أمر غير واقعي، معتبرًا أن المنطق هو السعي لحكم ذاتي للأقليات في سوريا وربما مع حكم فيدرالي. كما تمّت عدّة زيارات لرجال دين دروز سوريين إلى إسرائيل للمشاركة في احتفالات دينية في مقام النبي شعيب وبموافقة السلطات الإسرائيلية.
أما نتنياهو، فعاد وأعلن بوضوح في 23 شباط 2025 خلال أحداث أشرفية صحنايا أن منطقة جنوب دمشق وصولًا إلى محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء مناطق منزوعة السلاح وأنّ الدولة العبرية لن تتسامح مع أي تهديد للطائفة الدرزية في جنوب سوريا. أما وزير المالية الإسرائيلي سموتريتش، فقالها بوضوح في 29 نيسان 2025: سننهي هذه المعركة بينما تكون سوريا قد تفككت [...]، ومئات الآلاف من سكان غزة في طريقهم إلى دول أخرى، والمختطفون قد عادوا.
في مواجهة هذه النوايا الإسرائيلية، المعلنة منها والمبيّتة، لم تجد الحكومة السورية أفضل من أن تدير ظهرها لمطالب الكثير من أهالي السويداء وفعالياتها السياسية والدينية التي كانت تطالب بإشراك أهل المحافظة في إدارة شؤونهم الداخلية وفي تعيين محافظ وقائد للأمن العام من أهالي المحافظة، إضافة طبعًا إلى المطالب الوطنية التي تخص المشاركة السياسية ودولة المواطنة وصياغة دستور وطني جامع من قبل مجلس تأسيسي منبثق من الإرادة الشعبية.
لا بل أنّ الحكومة السورية وبدلًا من أن تتفاوض مع أبناء شعبها في كل المناطق وتعيد النظر بمخرجات ما سُمّي بمؤتمر الحوار الوطني و بالإعلان الدستوري وبأُسس المرحلة الانتقالية التي تركّز كل السلطات بيد الرئيس خلال مرحلة انتقالية تمتدّ لخمس سنوات، فضّلت التفاوض مع الإسرائيليين في العاصمة الأذربيجانية باكو من خلال لقاء جمعَ، في 12 تموز، كلًّا من وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر.
أما الطامة الكبرى بعد هذا اللقاء والتطمينات الإسرائيلية الكاذبة التي أُعطيت خلاله، هو أنّ هذه الخدعة انطَلت على السلطات السورية التي قرّرت بدء الهجوم العسكري في منتصف تمّوز في محاولة لإدخال قوّات الجيش والأمن العام إلى السويداء بحجّة فضّ الاشتباكات التي اندلعت بين البدو والمجموعات الدرزية المسلّحة، ليتوقّف بعدها الهجوم والمجازر بحق أهل السويداء، بفعل القصف الإسرائيلي لوزارة الدفاع السورية ومحيط القصر الجمهوري وانسحاب ما سُمّي بفزعة العشائر وتهجير عشرات الألوف من البدو من قرى السويداء، وتعالي الدعوات التي تطالب بالانفصال والقطيعة مع دمشق، وغياب أي سياسة وطنية جامعة تجاه أهل السويداء، كما كان الحال تجاه أهل الساحل، تَجبر الضرر وتضمد الجراح وتدفع باتّجاه مسار واضح للمشاركة السياسية وللعدالة الانتقالية ولمحاسبة المجرمين ولبناء الدولة الديموقراطية بالاستناد إلى الوطنية السورية الجامعة والمنفتحة.
مسؤولية السلطة الحاكمة عن المآل الذي وصلنا إليه اليوم، لا ينفي عن بقية السوريين، فرادى وجماعات، تحمّل قسطهم من المسؤولية في محاولة إخراج البلاد من المأزق الذي وضعت فيه ودفعت إليه في الاختيار بين التطبيع مع الاحتلال والتقسيم والحروب الأهلية المزمنة، وبين التطبيع مع المجزرة والإقصاء والتطرّف الديني. فبين سيّئَين لا يكفي أن نرفض الاختيار بين الأسوأ والأقل سوءًا، ولا يعني أن نسكت عن مسؤولية السلطة ونتساهل مع ما ارتكبته من قتل وانتهاك الحرمات واستباحة البيوت، ولا يعني أن نبرّر ونقبل لمن لوّح بعلم دولة الإبادة الجماعية وشكَر رئيس وزرائها، بل علينا اجتراح الحلول والبحث عن المخارج التي تؤسّس من جديد للعيش المشترك وللمشاركة الشعبية والتحوّل الديموقراطي نحو دولة المواطنة والمساواة.