عزيزي إلياس،
من الأوّل، وكما هو الحال كلّما أردت الكتابة عنك، أجد نفسي متورطًا في الكتابة إليك. فما زلتَ تعاند أن تتحول فينا إلى مجرد ذكرى وذاكرة.
مضى عام على وداعنا لك في مقبرة مار إلياس، عام حافل بالأحداث والتغيرات، لن أسردها هنا. فأنت قد تنبأت بالكثير منها. أريد فقط أن أخبرك عن بيروت، التي أسميتَها مدينة الغرباء، وشبّهتها بشجرة مقطوعة لا تطلب لنفسها شيئاً، وكتبتَ متماهيًا معها، ومخاطبًا نفسك من خلالها:
أنها أنت، تشبهك المدينة المنكسرة حتى نهاية الموت، لكنها لا تطلب الرثاء، لأن المراثي لا تستحقها، لا تطلب أن تعود لتحيا من جديد، لأنها لا تحب الموتى الذين لا يعترفون بموتهم، بل يكابرون فيسيئون إلى معنى الموت.
لن أسمح لنفسي أن أعاندك وأرثي بيروت، أريد فقط ان أخبرك وأُطمئنك أنّ بيروت، «بيروتك»، لم تكابر ولم تسِئ إلى معنى الموت، لكنها ببساطة الأشياء والمدن والبشر لم تمت. لأنها لا تعرف كيف تموت، وكيف تضع خاتمة للحكايات.
هل نسيت أنك كتبت ذات يوم في افتتاحية العدد الأول للملحق أنّ لا موت في بيروت وأن كل هذا الموت الذي حاصرنا خلال سنوات الحرب الطويلة، تحول إلى حكاية. وفي الحكايات لا وجود للنهاية.
لنبدأ إذا بواحدة من حكاياتنا الأزلية، حكاية الثمرة المحرّمة وأبونا آدم وأمّنا حوّاء. تقول الحكاية إنّ لا شيء في النصوص الدينية القديمة، بما فيها سفر التكوين، يشير إلى أن الثمرة المحرّمة في الجنة هي التفاح. القرآن لا يذكر التفاح بتاتاً، بل يذكر في سورة البقرة «الشجرة» التي نهى الله آدم وزوجته عن الأكل منها.
أغلب الظن أنّ فنّاني عصر النهضة الأوروبيين في العصر الوسيط ساعدوا من خلال رسوماتهم لقصص الكتاب المقدس في ترسيخ فكرة أن الثمرة المحرمة هي التفاح ليصبح هذا اعتقاداً شعبياً راسخاً وواسع الانتشار.
لن نسأل هنا إذا كان تفاح الجنة يشبه تفاح لبنان أم يشبه أكثر تفاح رسومات عصر النهضة؟ ولا إذا كانت أخبار التفاح اللبناني وصلت إلى فناني عصر النهضة عندما وضعوا رسوماتهم؟ ولا كيف صارت التفاحة صنوَ الثمرة المحرّمة في حكايتنا الشعبية هنا في المشرق.
لكننا سنسأل معك عزيزي إلياس لماذا استخدم محمود درويش في قصيدته الشهيرة بيروت استعارة «بيروت تفاحة»، هل كان يقصد يا ترى تفاح لبنان أو تفاح الجنة أو شيئا آخر؟
ولندعْك تخبرنا حكايتك مع هذه الاستعارة وكيف كنت تستمع ذات يوم إلى مقاطع مغنّاة من القصيدة برفقة ولديك الصغيرين عبلة وطلال. وعندما وصلت الأغنية إلى مقطع:
بيروت تفاحةْ/ والقلب لا يضحكْ/ وحصارنا واحةْ/ في عالم يهلكْ/ سنرقِّص الساحةْ/ ونزوّج الليلكْ.
قال طلال متعجباً: تفاحة! يعني فينا ناكلها؟
وانفجرت عبلة ضاحكة وحاولت أن تشرح لهما أن تفاحة لا تعني تفاحة، وقالت يعني متل التفاحة، فازداد الأمر التباساً.
وقال الياس إنّ التفاحة استعارة، والاستعارة تقودنا إلى قول شيء كي نعني شيئاً آخر.
في النهاية لم تستطيعوا أن توضحوا معنى استعارة التفاحة، لأن الأدب كما ذكّرتَنا هو محاولة الالتفاف على عجز اللغة عن تسمية الأشياء عبر اختراع أسماء جديدة ملفوفة بإيقاعات الحواس واحتمالات الكلام.
مع ذلك، لنحاول من جديد في احتمالات الكلام ومكر الاستعارات، في رواية «سينالكول» يخبرنا الراوي كيف كان كريم خلال إقامته الطويلة في فرنسا يحلم بالتفّاح اللبناني. كريم الذي لطالما اعتقد ان رائحة لبنان هي رائحة التفاح، لم يفهم معنى رائحة الطفولة إلّا في الغُربة. كان يرى صورة والده الصيدليّ، وهو يفتح كفّه، يسكب ملعقة من البنّ، يُضيف إليها نصف ملعقة من السكّر، يمزجهما، ثم يبدأ في لحس هذا المزيج الغريب بلسانه.
يغمض عينيه مترنّحًا أمام {قهوة الكفّ} كما كان يسمّيها، ثم يفتح البرّاد، يأخذ تفّاحتين حمراوين ويعطيهما لابنيه، ليمتزج فوح التفّاح برائحة البنّ في يد الصيدلي ويأمرهما بأكل تفّاحة، لأنّ تفّاح لبنان أفضل من كلّ الأدوية. ومن ثم يردّد بيتًا من شعر أبي نواس، يمتدح فيه الشاعر العبّاسي رائحة تفّاح لبنان التي لا يفوح الخمر الجيّد عند خلطه بالماء إلّا حين يشبهها:
سلافُ دنٍّ إذا ما الماء خالطها
فاحتْ كما فاحَ تُفّاحٌ بلبنانِ
لكن لا فتنة رائحة التفاح، ولا البن المعسل، ولا الخمر السلاف، ولا فوح الروائح في يد الصيدلي، ولا استعارة «بيروت تفاحة»، ستجنّب تفاح لبنان مجاهل السياسة وأهواءها.
ذات يوم من شهر أيلول العام 2016، غرّد الوزير جبران باسيل على حسابه في «تويتر»، أثناء مشاركته في اجتماع وزراء الخارجية في مقر الأمم المتحدة في نيويورك قائلا: تكلمت مع عدة دول ومنظمات دولية سابقًا، وحاليًا خلال وجودي في الأمم المتحدة، وزادت قناعتي أن تصريف التفاح يكون بإلزام منظمات النازحين بشرائه، مشيرًا في تغريدة ثانية إلى أن فرض تفاحة صغيرة لكل نازح سوري في لبنان لا يكفي، بل لا بد من شراء المزيد. ولا مزيد عندما يختنق فوح تفاح لبنان بالمزاودة السياسية الرخيصة!
كان صديقنا المشترك المؤرخ والمترجم الدمشقي فاروق مردم بك يحب أن يروي كلما أهديته علبة حلو من الشام، كيف أن المشمش المجفَّف والمحشو بالفستق، عندما يمتزجان سوياً في الفم، فإنّ طعم الفستق الحلبي مع طعم المشمش الشامي، يصنعان هذا المزيج الفريد الذي اسمه سوريا.
أما آل الأسد، فإنهم لم يكلفوا أنفسهم خلال فترة حكمهم الممتدة 55 عامًا، عناء البحث عن استعارة أو حتى تشبيه يليق بحكمهم الاستبدادي. فتناسوا عبق الياسمين وطعم المشمش وفتنة الفستق وسموا البلد بكل بساطة باسم عائلتهم وصار اسمها «سوريا الأسد»، سوريا بلا طعم ولا لون ولا رائحة، إلا رائحة الموت والدم والبراميل المتفجرة.
عندما سقط الأبد الأسدي، سارع ضعاف النفوس الذين يبغضون الاستعارات الملتبسة ولا يطيقون العيش خارج شعارات الأبد المصلتة كالسيوف على رؤوس معارضيهم، سارعوا إلى استبدال شعار «قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد»، بشعار «قائدنا إلى الأبد سيدنا محمد» لتبرير قهرهم وتجبّرهم، متناسين ما قاله أبو بكر الصديق للمشكّكين من الصحابة بوفاة الرسول:
أما بعد، فمَن كان منكم يعبد محمدًا ﷺ، فإنَّ محمدًا ﷺ قد مات، ومَن كان يعبد الله، فإنَّ الله حيٌّ لا يموت.
في رواية «باب الشمس»، تعود أمّ حسن من زيارتها الأخيرة لفلسطين حاملة غصنًا محمَّلاً بحبّات البرتقال من الجليل. يقطع خليل حبّة برتقال من الغصن كي يذوق طعم البرتقال الفلسطيني، فتصرخ أمّ حسن لا، هذه ليست للأكل هذه فلسطين. يخجل خليل من نفسه، ويعلَّق الغصن على الحائط في صالون بيته. حين يأتي يونس لزيارته ويرى الغصن المتعفّن، يهزأ منه ويقول له: كان يجب أن تأكل البرتقال. فالوطن يجب أن نأكله لا أن نتركه يأكلنا. يجب أن نأكل برتقال فلسطين ونأكل فلسطين والجليل.
قبل أن يأخذ الغصن ويرميه بالمزبلة ويقول موبِّخاً: يا عيب الشوم! ما هذه الخرافات التي تليق بالعجائز، بدل أن تعلّق بلادك على الحائط، أُكسر الحائط واذهب. يجب أن نأكل كل برتقال العالم ولا نخاف، فوطننا ليس حبّات برتقال، وطننا نحن.
يحدث أحياناً أن تغادر الاستعارة أبيات القصيدة وسطور الرواية لتعود إلى مخاتلة الحياة وملاعبتها. كلمة «بطيخ» التي تُستخدَم في اللغة العامية عندما نقول «بطيخ مبسمر» على سبيل التقليل أو السخرية من شيء لا قيمة له أو لا فائدة منه، بات لها اليوم بما توحي به وما تحيل إليه، مصير مختلف تماماً عن تعبير «بطيخ مبسمر».
فإسرائيل التي لطالما منعت فلسطينيّي الداخل من رفع العلم الفلسطيني كأحد رموز هويتهم الوطنية، دفعتهم للاستعاضة عنه بألوان حزوز البطيخ الأحمر، ببذره الأسود وقشرته الخضراء. وعندما أصبح التضامن مع الشعب الفلسطيني ورفع أعلامه تهمةً يعاقب عليها القانون في بعض البلدان الأوروبية، كما هو الحال في ألمانيا، صار البطيخ الأحمر فاكهة الناشطين المحرّمة والمشتهاة، تزيّن بألوانها الجدران والأعناق وتتدلى حلى من الآذان، رغم أنف تشريعات الدول وعبثية قوانينها.
أمام شاعرية الاستعارة وشاعرية نفي الاستعارة، في قصيدة محمود درويش، في روايات إلياس خوري، في دفق الحياة وألوان فاكهتها وفوح ثمارها، نسأل أنفسنا أي مكان اليوم للاستعارة في مقاربة نكبة فلسطين المتجددة، التي أسميتَها بالنكبة المستمرة، المستمرة والمتمدّدة في حيوات الناس، في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم. فها هُم فلسطينيّو غزّة بعد ثلاثة أعوام من الإبادة الجماعية، المستمرّة على مرأى ومسمع من العالم أجمع، يعيشون بلا وطن ولا طعام ولا خبز ولا برتقال ولا مستقبل ولا استعارة.
نعم لا استعارة، إلا الاستعارة الكونية لفلسطين بوصفها مرآة مهشّمة لهذا العالم، عالم التوحّش والهيمنة والإبادة الجماعية، عالم التوق للعدالة والحرية والمساواة.
لستُ أدري إن كان يوجد شعار بالعبرية يقول «قائدتنا إلى الأبد دولة إسرائيل». لكنّ هذا الشعار بات ينطبق على فهم الكثير من الإسرائيليين لمعنى ودور دولتهم التي تريد تأبيد الاحتلال وتأبيد يهودية الدولة وتأبيد القدس عاصمةً للدولة العبرية وتأبيد الموت والدمار من حولها.
يقول يونس في باب الشمس محاججاً ومستشرفاً:
ما هذا الشعار السخيف الذي يرفعونه، القدس عاصمة أبدية لدولة إسرائيل. كل واحد يتكلم عن الأبد يخرج من التاريخ، فالأبد ضد التاريخ، لا وجود لشيء أبدي، حتى الآلهة أكلناها، نحن العرب. صنعنا في جاهليتنا آلهة من تمر وأكلناها، لأنّ الجوع أهمّ من الأبد، والآن يأتون ويقولون إن القدس عاصمة أبدية، شو هالحكي الخرا، كلام تافه. وهذا يعني أنهم بدأوا يصيرون مثلنا، أي قابلين للهزائم.
ومن رحم الهزائم، يمكن للمدينة أن تموت بتفجير مرفأها، بقصف أحيائها، بموت روائيّيها وشعرائها، تموت المدينة إذا ضاعت منا الحكاية وتفككت الكلمات وذوت المعاني.
لكن كيف يمكن أن تموت الحكاية وفي سطورنا بعض من رائحة البرتقال ومن فوح التفاح ومن طعم المشمش بالفستق ومن مخاتلة البطيخ؟
عزيزي الياس،
ماذا أقول لك في النهاية؟ هل أقول مجدّداً «من الأوّل» كما فعلتُ غداة رحيلك؟
قد يكون الموت هزمك كما هزم مدينتك. لكنك كحال مدينة الغرباء لا تستطيب العيش في الموت.
كأنك تعيش وتموت في شخوص مدينتك وحكاياتها، تموت وتعيش في كتاباتك واستعارتها، تعيش في طعم حبّات صنوبرها وفوح تفاحها.
من الأوّل كما من الآخر.
أراك تضرب قدمك بالأرض... أراك تبصق وتمحو الزمان.
أراك في فوح التفاح، في رائحة البنّ على الكف.
أراك تأكل البرتقال، تتذوّق المشمش بالفستق، وترفع عالياً حزوز البطيخ.
أراك ولا أراك.
في الأول أراك، وفي النهاية أراك.
من الأول عزيزي الياس، من الأول.
ألقيت هذه الكلمة بالمكتبة الوطنية في بيروت، في الذكرى السنوية الأولى لرحيل الروائي اللبناني إلياس خوري