تعليق بيروت
مريم شعيب

بيروت: بذرةُ خوفٍ وخوخٍ في حنجرتي

25 آب 2025

وداعًا بيروت، أقولها بلا حسرة. منذ خمس سنوات، وقلبي بين يدَيّ أحاول إعادته إلى مكانه، ثمّ أتقيّؤه. تُهديني المدينةُ شعورًا دائمًا بالغثيان، تتبسّم بعجرفة، ولا تقدّم لي فرصةً للاستقرار أو وقتاً للفعل، أيّ فعل. 

سأترك بيروت وأرحل. ولكلّ مَن سألنَني وسألوني لماذا، ولكل مَن يفكّر وتُفكّر بالأمر ولا يـ/تجرُؤ على الإفصاح به، سأقدّم أسبابي الواضحة للرحيل: أزمة سكنٍ ولااستقرار مكانيّ دائم يتبعه شعورٌ بالتشرّد، اغترابٌ داخل المدينة، وظروف عملٍ كادت تُجرّدني من إنسانيتي، توحّش بيروت بسطحية علاقاتها وفأس السرعة خاصتها. 

قررّتُ الرحيل حينما سألتُ نفسي: لماذا هذا الاغتراب كله وما الذي يعنيه؟ بعد خمس سنوات من «العيش» هنا، لِمَ لا أملك سكنًا مستقرًّا وحقًّا بالسكن اللائق كمُستأجرة؟


بيوت بيروت: لماذا هذا الترحال القسري المستمرّ؟

أتحسّس بذرة الخوف والخوخ التي نَمَت في حنجرتي واستقرّت فيها خمس سنوات. أنتشلها أخيرًا، وأتحرّر من فأس مدينةٍ حاولتُ العيش فيها بينما حاوَلَت هي قتلي أو تشريدي. مئةُ عامٍ من العزلة، مئة عامٍ من الخبرة، أما في تجربتي فأقول: مئة عامٍ من بيوت بيروت، وما في بيت متل الخلق. لأن البيت بالضيعة. 

جرّبتُ كل أنواع البيوت والإيجارات التي قد تخطر في البال: الفواييه، الشقق المشتركة، الاستديو، الإيجار المستقل، وغيرها. كما جرّبتُ العيش مع أصدقاء، وغرباء، ومع نفسي. ولم يُفلح شيء. لم أجد مقوّمات السكن اللائق، أو بعبارة أبسط لم أجد «البيت» في المدينة. نقّلتُ أغراضي في كراتين مرّاتٍ عديدة، قسرًا، إلى الحدّ الذي أصبح فيه هذا المشهد يُشكّل صدمةً نفسيةً بالنسبة لي، ومجرّد التفكير فيه، يُذكّرني كم كنتُ مشرّدةً في بيروت ومتروكة بالمعنى الحرفي. لا استقرار ولا حقوق لي كمستأجرة.

تنقّلتُ بين ستّة بيوت خلال خمس سنوات بعد انتقالي الكلّي إلى المدينة. رقمٌ صعب، يعكس اللااستقرار واللاعدالة المكانية في المدينة. هذا الترحال ليس فرديًا، هذه الأزمة ليست شخصية. هناك أزمةٌ فعليةٌ للسكن في لبنان. تتجلّى في المدن واختبرتُها في بيروت، مع غياب سياسة عامّة وشاملة لتأمين السكن اللائق وغياب قانون شامل للحق في السكن، ومضاربات السوق العقارية. محنة لبنان السكنية: التقرير السنوي المرفوع إلى الأمم المتحدة، استديو أشغال عامّة، 25 نيسان 2023، وصلت نسبة الشغور في العاصمة إلى 23% وبقي حوالي 65% من الشقق الشاغرة غير مباعة، مقابل 35% يحتفظ بها أصحابها دون تخصيص استعمال لها، فيما بلغت النسبة التي تستحوذ عليها تكاليف الإيجار وخدمات السكن 85% من مجمل دخل الأسر المقيمة في بيروت، مقابل انخفاض قيمة المداخيل مع الأزمة الاقتصادية وانهيار سعر صرف الليرة، ما دفع المستأجرات/ين للانصياع إلى الواقع المرير. بالإضافة إلى ذلك، هناك عقود إيجار لمهل قصيرة (سنة مثلًا بدلًا من ثلاث سنوات) لا يمكن خلالها ضمان حيازة السكن أو المطالبة بترتيبات سكنية لائقة. ولا ينتهي الأمر هنا، بل إن كل ما سبق، تسبّب بإخلاءات جماعية بحسب البلاغات التي تلقّاها «مرصد السكن» في التقرير الدوري الذي نشره استديو أشغال عامة لفترة حزيران - كانون الأوّل 2023. وقد كانت أسباب تهديد المستأجرات/ين تتعلّق بتكلفة السكن، وبممارسات أو ظروف ضاغطة غير متعلّقة بكلفة السكن، وإيجار متراكم، وتعديل قيمة بدلات السكن الشهرية، وطلب فسخ العقد. كما رفعت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان من بدلات الإيجارات السكنية في بيروت أو ما سُمّي «المناطق الآمنة»، حيث تَراوحت ما بين 600 و1,300 دولار أميركي شهريًا.

مع كل إيجارٍ وبيتٍ جديدٍ في بيروت، كنت أصطدم بالواقع نفسه، أنني كمستأجرة، لا أملك حقًا واضحًا وقانونيًا، وتعبيري عن رغبتي بسكنٍ لائق (مطبخ بحجم طبيعي وليس في غرفة النوم، شقةٌ يدخلها نور الشمس، وحقٌ بالحيازة على الأقل مدّة ثلاث سنوات مع عقد إيجارٍ عادل يحفظ حقّي ويحميني من الترحال القسري كل سنة أو أقل)، كان يُقابَل بالسخرية من المُلّاك.


العمل، السرعة والعلاقات: وحش الاغتراب في المدينة

من السهل أن يُفهم شعور الأشخاص بغربة معينة داخل مجتمعاتٍ وثقافاتٍ قد لا تُشبههن/م وتحت مظلةٍ أوسع، هي مظلة نظامٍ يعمل لتعزيز هذه الغربة والفردانية. لكن، لماذا كان شعوري بالاغتراب أكثر توحشًا في المدينة منه في القرية تحت النظام نفسه؟

عند بداية انتقالي من القرية إلى بيروت، أذكُر أني فعلتُ كل ما فعلت كي أتناسب مع الجو العام، كي لا أبدو خارجةً عن المألوف أو «غريبة». ساعدتني لهجتي البيضاء على ذلك، ما عدا بعض الكلمات التي أخذتُها من أصدقائي وصديقاتي في جنوب لبنان. اعتقدتُ أنّ اللهجة هي الأساس، وقد يُشبه نمطُ عيشنا في البيت نمطَ العيش في بيروت، فأهلي ترعرعوا بين المدينة والقرية، وما زلتُ أذكر لهجة جدّي البيروتيّة التي اعتادها من أصحابه في المدينة. أعترفُ أن المدّة الفاصلة ما بين هذياني بـ«بيروت الحلم والحرية» و«أنا غريبةٌ هنا!»، كانت طويلةً بعض الشيء. أعطتني المدينة كل إشاراتها لنبذي، لكنّني تجاهلتها، وأصرّيتُ على «بيروت الحلم والحرية» كأيّ فتاةٍ جامعيّة تركتْ القرية حديثًا. حتّى أدركت هَول الاغتراب الذي أعيشه.

فأس السُرعة: تلاحقني المهامّ ولا أقوى على إنجازها. كل شيء أسرع منّي هنا، وهذا بطريقة ما، يخلق قلقًا عميقًا ووجوديًا بداخلي، ألّا أتمكّن من اللحاق بأيّ شيء. هذا القلق مخيف، أن يفوتكِ القطار والجميع، وتظلّين أنتِ تحاولين المشي وحيدةً. أحاول أن أُسرع مرارًا وتكرارًا وأُحقّق في لعبة السرعة هذه «إنجازًا» لا يحتفي به أحد. المدينة تجلٍّ لنظامٍ وعالمٍ تملكه وتقوده وتتحكّم به السرعة. وهذا بالطبع يُرعبني ويُغرّبني أكثر. ففي عالم السرعة، أنا الخاسرة دومًا. يستقرّ الاغتراب كوحشٍ ضخم على ظهري، وعندما ينزل ليرتاح قليلاً، لا يتوقّف عن ملاحقتي بفأس الوقت والسرعة، ليجعل من البطء حلمًا مستحيلًا، حتى نَفَسي، آخذه على عجل.

العلاقات: لماذا لم يتجلَّ بالنسبة لي هذا المفهوم واضحًا في القرية؟ ببساطة لأن التعاون الاجتماعي أوسع وأكبر في القرية، ولأن العلاقات الاجتماعية ما زالت في مرحلةٍ أقلّ توحشًا، مقارنةً بما هي عليه في المدينة. مِن أتفه الأمور، أنّني في القرية، كنت أتكلّم وحسب، لا يحمل أحدٌ ما أقوله على أيّ محمل، يتلقّونه ككلام مجرّد، أمّا هنا؟ قد تجدين اقتباسًا في مقال لِما سبق أن قلتيه قبل ثلاث سنوات تعليقًا على حادثة ما، وقد يُبنى عليه مواقف وتحليلات معمّقة لشخصيتك. العلاقات في بيروت تشبه المدينة وعجلتها، تبدأ وتنتهي في آن، ولا تحمل أي أفق. يمكنك أن تدعو شخصًا غريبًا لشرب كأسٍ في بار لكن لا يمكنك أن تدعو صديقةً مقرّبة لجلسة فضفضة؛ «الكل اللي فيه مكفّيه»، هذا شعار المدينة. تعيش في غدٍ، حتى لا تدرك هَول اليوم. هذه القسوة كلها، قسوة المدينة وناسها عليّ، جعلت منّي فُتات شخصٍ كانت… جعلت منّي غريبةً في سجنٍ كبير، خيّطَتْ من بقايا خوفي قلقًا لا ينتهي وكتمَتْ على نَفَسي. أنكرتني.

العمل: الاغتراب، بالمعنى النظري، لا يعني فقط أني «لا أتناسب» مع هؤلاء الناس أو نمط عيشهم، بل إنّه مفهوم اقتصاديّ اجتماعيّ، ويعني الوقوع قسرًا في عجلة الإنتاج الرأسمالية: مفهوم «الاغتراب»، Emil Øversveen, Capitalism and alienation: Towards a Marxist theory of alienation for the 21st century, European Journal of Social Theory, June 2021, بحسب كارل ماركس، يتجلّى حيث يكون الإنسان فردًا اقتصاديًا معزولًا، ومن هنا تُطبَّع الرأسمالية كنظام اجتماعي. وفي هذا السياق يتجلّى الاغتراب مع سوء ظروف العمل، عدد ساعات العمل الطويلة، تقليص حقوق العاملات والعمال شيئًا فشيئًا مثل الضمان الصحّي، العطل السنوية، ساعات الراحة والعطل المَرَضية المدفوعة مع اندثار أشكال التضامن الاجتماعي والحياة الاجتماعية، إذ تنشأ مسافة واضحة بين الفرد العامل ومحيطه جرّاء تدهور حالته النفسية ومزاجه و/أو اختلافه الثقافي والاجتماعي عنهم/ن. بعبارة أخرى، ينشأ الاغتراب من نتائج العمل الحي والتطوّر التكنولوجي، وإزالة الحواجز التقليدية والمكانية والطبيعية، وتنويع الاحتياجات، من سرعة المدينة، من علاقاتها، ولكن فقط بقدر ما يُجسَّد في شكل نظام رأسمالي نُعيد إنتاجه باستمرار فيُنتج معدلات هائلة من الوحدة والعزلة والاغتراب عن الذات. وبالتالي، لا ينشأ الاغتراب من المواجهة بين الفرد والمجتمع ككائن خارجي، بل إن الاغتراب هو تعبير عن تناقض متجذر في التنظيم الاجتماعي للإنتاج. 


بيروت من حلم الحريّة إلى وحشيّة الواقع

لا يمكنني أن أحصي عدد النصوص التي كتبتها متغزلةً ببيروت، طبعًا، قبل انتقالي إليها. ولا يمكنني أن أعُدّ الكتب والقصائد والمقالات المكتوبة التي قرأتُها عن بيروت. ويمكنني أن أتذكّر نفسي حين تخيّلتُ حياتي في المدينة، وأعدتُ المشهد في رأسي. كانت حلمًا أنشدُ فيه حرّيتي من «قمع» القرية و«رجعيّتها». حاربتُ كثيرًا لأنتقل إلى بيروت، كانت حلمًا قد تحقّق ولم يستغرق الأمر إلّا قليلًا كي يستحيل كابوسًا مُرعبًا لا أملك خيار الاستيقاظ منه.

بدأَت بيروت تكشف لي عن أنيابها بعدما أغرتني بشبح الحريّة والاستقلال الماديّ، تبعهما مسؤوليات لا تنتهي لم أسمع بها قط حينما كنتُ في القرية. مثلًا: شُحّ المياه ندى عبد الرزاق، بلد الينابيع عَطَّش مواطنيه: جبران يكشف لـ «اللواء» عن سبب تقنين المياه في بيروت والمناطق اللبنانية، جريدة اللواء، 4 شباط 2025، 
بيروت تواجه أزمة غير مسبوقة... والمواطن يتحمل العبء الأكبر!، ليبانون ديبايت، 6 تموز 2025،
، شراء مياه الخدمة والشرب، كابوس بيوت بيروت والترحال القسري المتكرّر، اختلاف العلاقات الاجتماعية عن طبيعتها في القرية واعتماد المصالح كأساسٍ لها وغيرها. 

أرى بيروت، اليوم، كسجنٍ كبير، مثل سجون أوروبا، مع تعذيبٍ أكبر، يُعطونك سريرًا وغرفةً صغيرة وحياة، وتكون هذه حياتك. لكن الفرق أنه في بيروت لن «يُعطيكِ» أحد غرفة صغيرة، عليكِ استئجارها، ويمكن أن تتعايشي مع عملٍ استبدادي، وأن تعاني من قمع وظلم لتعيشي في هذا السجن الكبير الذي يُسمّى «بيروت» وفي هذه الغرفة التعيسة. آه، ووحيدةً أيضًا. وحظًا سعيدًا بإيجاد «الحياة».

داخل هذا الكره شيء لا أفهمه، فبيروت أعطتني شيئًا؛ أكثر من دروس وأقل من حياة، أكثر من تعذيب وأقل من استعباد، أقل من فن وأكثر من لوحة، أكثر من شخص وأقل من وحدة. دائمًا في اللافهم، لكنّها يقينًا في اللاعودة وفي الاستقرار بعيدًا عنها، فقد أدركتُ أخيرًا وحشيّة الواقع فيها. بيروت جعلتني أكثر عنفًا، أكثر عدائيةً، أقل رحمةً وتعاطفًا، أكثر فردانيةً، أقل صبرًا. هذا الواقع الممزّق والدامي كجثة، يبدو صعبًا، لكنه حقيقي. 

يبدو قراري بالعودة إلى القرية في جنوب لبنان اليوم متهورًا في ظل العدوان الإسرائيلي المستمر. وقد تبدو استقالتي من عملي فعلًا غير مسؤولٍ أو ناضج للبعض، هذا الجزء الظاهر من الصخرة فقط. لكن أنا؟ أراه أفضل خياراتي، أن أخلع الغلّ عن قدمي وأمشي، أيُعدُّ المشي جريمةً في عالم الحداثة والحضرية؟

لذا، وبناءً على كل ما سبق، أختار اليوم الرحيل عن بيروت، والعودة إلى قريتي. فمهما كان الأمر صعبًا و«جنونيًا»، لن يكون أصعب ممّا واجهته في المدينة. أتخيّلُني في المشهد الأخير في الضيعة، بعدما استمعتُ أخيرًا إلى جسدي، تحرّرتُ من فأس المدينة، أخلع كل ثيابي، أسبح، أجد الشمس الأبدية على سريري تُشرق في وجهي، أستيقظ كأن العالم ملكي. لا وحش يلاحقني بفأس الوقت ولا عجلة. يخيط البطء لي فستانًا من الضحكات والراحة. أعرف البيت من الزهر على المجلى ورائحة المردكوش على الشرفة، تقطف تاتا المردكوش والنعناع، تُقطّع البصل، تضع البرغل البلدي وتزيد الكمّونة الجنوبيّة، تُحضّر لي أشهى فراكة في الدنيا بعدما دعَكَتها بيديها. أتحسّس الخوخة التي كانت في حنجرتي، أُخبّئها في الأرض، لتحمل قصة مدينةٍ عشتُها، وأتساءل: كيف لي أن أكره بيروت وأُحبّ شجرة الخوخ التي تركَتَها؟

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً