تحليل انفجار المرفأ
نادر فوز

انفجار 4 آب

مسار العدالة ومسار العرقلة

4 آب 2025

جريمة من دون عقاب

مرّت خمس سنوات على المجزرة، ولا نزال بانتظار التحقيق والعدالة.

من هذه السنوات، هناك أكثر من ثلاث ضاعت فعلياً نتيجة التعطيل والعرقلة في سياق مسار السلطة للإفلات من العقاب والمحاسبة ولحماية المدّعى عليهم من سياسيّين وضباط أمن وموظفين. سنوات طويلة جمعت كل أشكال البلطجة والتشبيح، وصولاً حتى إلى القتل: 

رفض رسمي لملاحقة المدّعى عليهم. حصانات نيابية ووزارية. تدخّلات سياسية لمنع التبليغات القضائية. تعسّف في استخدام الحق والإسهاب في تقديم الدعاوى ضدّ المحقق العدلي. التطييف ومحاولة تقسيم أهالي الضحايا. التهديدات المباشرة بـ«القبع». التوظيف الإعلامي لتشويه التحقيق وصورة القاضي. اشتباك أهلي مباشر. هرطقات قضائية لاستبدال القاضي. تزوير وانقلاب قضائي.


عودة التحقيق بعد العرقلة

لكن في الأشهر الستّ الأخيرة، تبدّل المشهد. 

عاد المحقّق العدلي على رأس عمله، وحدّد جلسات لاستجواب مدّعى عليهم. تراجع النائب العام التمييزي، جمال الحجّار، عن انقلاب سلفه غسّان عويدات، المدّعى عليه في الملف. مثُل هاربون من التحقيق أمام البيطار، سياسيون وضباط أمنيون، باستثناء اثنين: 

  • الوزير السابق غازي زعيتر الذي تسلّح بحصانته النيابة وطالب بإحالته إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، رغم أنه في الشهر الأخير، يتمّ محاكمة وزيرين سابقَين أمام القضاء العدلي، أمين سلام وجورج بوشيكيان.
  • المدعي العام السابق، غسّان عويدات، منظّم الانقلاب على التحقيق، والذي يطالب بملاحقته أمام هيئة قضائية خاصة، مكملاً تمرّده على سلطة البيطار: أنتَ غير ذي صفة وغير ذي صلاحية.

كيف تمّ الانتهاء من العرقلة؟


الوهم الذي انقلب على الموهومين

ثمة ما تغيّر خلال هذه الأشهر.  

انتهت الحرب الإسرائيلية. تبدّل المشهد الداخلي نسبياً. انتُخب رئيس للجمهورية. شُكّلت حكومة. موجات مبعوثين دوليين. حديث عن «لبنان جديد». وآخر عن عقوبات. أضعفت هذه التغيّرات الطاقم السياسي، بالحدّ الأدنى بالشكل والقدرة على التأثير والبلطجة، وترافق ذلك مع وهم قائل إنّ المحقق العدلي «مدعوم»، وذلك في معرض حالة «التبدّل» الجارية. 
ومن إيجابيات هذا الوهم أنّه فَرَط عصابة المعرقلين وأضعفها أيضاً، وأولهم المدعى عليهم في الملف من ضباط أمنيين وسياسيين. طوني صليبا، عباس إبراهيم، حسّان دياب، نهاد المشنوق، غسان خوري، قاضيان من قضاة العجلة، ضباط وموظفون في الجمارك. جميع المدّعى عليهم، باستثناء زعيتر وعويدات، مثلوا أمام البيطار.

قد لا يدوم هذا الوهم، لكنّه هو الوهم نفسه الذي ساهم في الماضي بعرقلة التحقيق، يوم أعلن وزراء الثنائي وحلفاؤهم من المدعى عليهم عدم التعاون مع التحقيق. يوم أطلّ الأمين العام السابق لحزب الله، حسن نصر الله، لشتم المحقق العدلي. يوم دأب الثنائي على شقّ صفوف أهالي الضحايا والشهداء. يوم نزل مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في حزب الله، وفيق صفا، إلى قصر العدل وهدّد البيطار. يوم افتعل الثنائي معركة الطيونة.
الوهم جزء من السياسة في لبنان، هو مصغّر وإشارة لموازين القوى. توهّم البعض بأنّه من الممكن الانقلاب على التحقيق، حتى انقلب الوهم عليهم.


جريمة الانفجار وجريمة عرقلة التحقيق بالانفجار

دامت العرقلة سنواتٍ بفعل مساعي الثنائي، وتحديداً حزب الله. 

عرقل حزب الله التحقيق من باب التخوّف من توظيفه لملاحقة مسؤولين فيه بالملف، أو تحميله مسؤولية الانفجار، بالتزامن مع ضخّ إعلامي وآخر مضاد حول هذه الاتهامات. لكن في لوائح الادّعاء التي حدّدها بيطار والتي استجوب المدعى عليهم بناءً عليها، ليس من بين هؤلاء أي شخصية في حزب الله، أقلّه حتى الساعة. ورغم ذلك، أخذ حزب الله مهمّة العرقلة في صدره لتأمين الحماية للمدعى عليهم ومحاولة تكريس منطق الإفلات من المحاسبة. 

فبغضّ النظر عن وجود أو عدم وجود علاقة  لحزب الله في الانفجار، تبرّع الحزب في تحويل هذه القضية إلى موضوع إشكالي من خلال إدخالها في ثنائيات السياسة اللبنانية: مع أو ضدّ حزب الله. عوّدتنا السلطة السياسية على هذا النمط من الانقسام أقله منذ 2005، لا بل منذ الطائف. بينما المطلوب فعلياً، في هذا الملف تحديداً، إبعاد هذه المقاربة السياسية الضيّقة إلى أبعد حدّ، وطرح أسئلة أخرى، أكثر أهمية: ما الجوانب التي شملها التحقيق؟ هل استبعد فعلياً فرضية العمل الأمني (باختلاف العسكري)؟ هل يكشف سرّ دخول شحنة النترات إلى المرفأ؟ هل وجد جواباً حول كمية المواد التي انفجرت؟ وتلك التي لم تنفجر أو تبخّرت؟

هناك مسار عدالة لجريمة الانفجار ومسار عدالة لجريمة العرقلة. الأول ينتظر تحقيق البيطار، أمّا الثاني، فبات واضحاً للجميع. 


ماذا الآن؟

في المسار الأول، يُنهي المحقق العدلي بعض الجوانب الأخيرة المتعلّقة بالتحقيقات ليختتم التحقيق ويحيله إلى النيابة العامة لمطالعته، قبل إحالته إلى المجلس العدلي. عملية قد تحتاج إلى أشهر من المطالعة ومراجعة المحاضر والوثائق حتى تتمكّن النيابة العامة من إبداء رأيها فيها، وهو رأي غير مُلزم للمحقق العدلي. هذا المسار الطبيعي الذي يجب أن ينتهي إليه التحقيق في قضية 4 آب. 

أمّا في المسار الثاني، فالعرقلة لم تنتهِ فعلياً، إذ أنّ القضاء لم يُسقط بعد دعوى اغتصاب السلطة المقدمة من المدعى عليه غسان عويدات. والبتّ فيها أساسي على اعتبار أنّ أي قرار يصدر لصالح عويدات يُمكن أن يطيح على الأقلّ بالتحقيقات التي استكملها البيطار منذ كانون الثاني 2023. والانتهاء من هذه الدعوى ينتظر أن تقوم الهيئة الاتهامية التي تشكّلت في نيسان الماضي، بالنظر بالاستئناف المقدّم من عويدات لتصحيح ادعائه على البيطار. وهذه الهيئة لم تتسلّم الملف بعد ولم تنظر فيه، منذ 3 أشهر. 
أما عشرات دعاوى النقل والردّ والمخاصمة الأخرى، فقد سبق لبيطار أن تجاوزها بالاجتهاد القضائي الذي أصدره في 2023. لكنّ القرارات الإيجابية المنتظرة عن الهيئة العامة التمييزية ومحاكم التمييز لإسقاط هذه الدعاوى، تُشكّل دفعاً إضافياً لبيطار وشرعية عمله. وإذا صدر القرار الاتهامي اليوم، لن يكون المجلس العدلي قادراً على النظر فيه، بسبب الشغور داخل المجلس. فالحكومة لم تعيّن بعض أعضائه، في خطوة مطلوبة ربما بانتظار البازار السياسي الاعتيادي في تعيينات مماثلة. 

نقف اليوم أمام أول تحقيق جدي يقوم به القضاء اللبناني في قضية وطنية بهذا الحجم، قد تنكشف فيها الحقيقة عن المسؤولين عن المجزرة. فيفتح القرار الاتهامي، مع صدوره، الباب أمام أول إمكانية لمحاسبة السلطة السياسية عن جريمة، منذ انتهاء الحرب الأهلية. ويعني ذلك أنّ مساءلة السلطات المتعاقبة عن أفعالها وارتكاباتها بات ممكناً، وأنّ «الإفلات من العدالة»، باختصار، بات مفهوماً يمكن كسره.    


مع صدور قرار المحقق العدلي، لا يكون البيطار قد كشف الحقيقة، أو جزءاً منها، في جريمة انفجار المرفأ. بل يكون قد رفع تحدياً في وجه السلطة اللبنانية بأكملها: فهل هناك «عهد جديد» قادر على تطبيق شعارات حملها عن الإصلاح والعدالة ومحاسبة المرتكبين، أم أنّ شعار «الإفلات من العدالة» ما زال هو الطاغي، وإن بلباس جديد؟

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
شكوى ضدّ مايكروسوفت بتهمة تخزين بيانات استخدمها الجيش الإسرائيلي
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي