البحث عن العدالة
منذ انتهاء الحرب الأهلية، والبلاد تبحث عن عدالة، وإن كانت لفظية، لجرائم الحرب الأهلية. بدلاً من ذلك، تمّ تمرير قانون عفو عام سنةَ 1991، مهّد الطريق لاستلام ميليشيات الحرب مفاصل الحكم، بشراكة مع مقاولي الإعمار وتحت وصاية سورية.
لم يكنْ هذا تفصيلاً، بل أسّس لثقافة الإفلات من المسؤولية وحوّل أيّ مطلب للعدالة إلى استحالة سياسية.
- سقطت تسوية الطائف، وتلاها اغتيالات وعنف ومطالبة بحقيقة وعدالة ومحاكم دولية. لكن في نظام سياسي اعتاد التهرّب من العدالة، انتهت هذه المرحلة بتسوية أخرى، ضحّت بمطلب الحقيقة من أجل صفقات عابرة للاصطفافات السياسية.
- لم تدُم الصفقات وجاء الانهيار المالي الذي كان متوقعًا لمن لم يصدّق أوهام «النموذج اللبناني»، ليعيد طرح مسألة العدالة. ارتفعت مطالب التحقيق والمحاسبة. لكن رغم بعض المسرحيات، بقي الانهيار من دون مسؤول، وكلفته متروكة على عاتق المجتمع.
- انفجر المرفأ، وتصاعدت مطالب العدالة مجدّدًا. لكن بعد خمس سنوات على الجريمة، ما زالت الحقيقة ضائعة، مع نجاح كل من هو مرتبط بهذا الملف بعرقلة التحقيقات.
- قام عهد جديد، رفع شعار الإصلاح والعدالة، لكنّ بعد مرور سنة، لا يبدو أنّ هناك إرادة أو قدرة على فرض هذه العدالة، ليشهد هذا العهد على عدد من حالات التهرّب من المحاسبة، أخذت أخيرًا شكل تسديد الكفالات للإفلات من العقاب.
تجربة تلو الأخرى، يبدو مطلب العدالة كأصعب مطلب سياسي في لبنان. فهو ليس مطلب محاسبة وعقاب وحسب، بل يطال أيضاً طبيعة السياسة في البلاد وثقافتها. وتفكّك البلاد ليس إلّا نتيجة فقدان العادلة كناظم للحياة العامة. ومع كل تفلّت من العدالة، يتعمّق تحلُّل البلاد أكثر فأكثر.
كفالة مقابل الإفلات من العقاب
في الآونة الأخيرة، وتحت ضغوط خارجية أو حاجات محلية، حرّك القضاء عدداً من الملفات، ما أوحى بأنّ مسار العدالة قد بدأ. لكن سرعان ما تبيّن أنّ هذه الآمال لم تكن واقعية، مع بروز تقنيات جديدة للتفلت من العقاب.
محمد خليل، المتورّط في ملف دواء السرطان المزوّر. رياض سلامة، مهندس أكبر نموذج احتيالي في تاريخ لبنان. رولان خوري، المتهم بهدر الأموال العامّة في كازينو لبنان عبر توزيع رخص محال القمار. ثلاثة أسماء تصدّرت ثلاث فضائح، قبل أن يُخلى سبيلها مقابل كفالة.
القاسم المشترك بين الأسماء الثلاثة، ليس خروجها من السجن، بل ظروف فتح ملفاتها القضائيّة، الذي فرضته سياقات سياسيّة محدّدة، لم تكن المحاسبة هدفها الأوّل، وكذلك عدم الجديّة في متابعة هذه الملفّات، بعد انقضاء الظروف التي فرضت تحريك القضايا.
وهكذا، كان الخروج من التوقيف، بكفالة ماليّة، نتيجةً بديهيّة لسياسة عنوانها الإفلات من العقاب.
رياض سلامة والعفو عن الجرائم الماليّة
لم يكن رياض سلامة المسؤول الوحيد عن الجرائم الماليّة التي أودت بمدّخرات اللبنانيين، وباقتصاد وماليّة بلدهم عامةً. غير أنّ فتح ملفّات رياض سلامة أعطى بعض الأمل بإمكانيّة فتح الصندوق الأسود، عبر التحقيق مع سلامة، مهندس النموذج الاحتيالي في مصرف لبنان، وفقاً لتوصيفات البنك الدولي.
تسارعت وتيرة التحقيقات القضائية في قضيّة سلامة منذ العام 2020، وصولاً إلى إصدار مذكرات توقيف دوليّة عام 2023. اشتدّت الضغوط الدولية على لبنان للتعاون مع هذه التحقيقات، فيما بدت السلطات اللبنانيّة مُحرَجة بعد بروز دورها في عرقلة عمل القضاء المحلّي في هذا الملف. جاء توقيف رياض سلامة، في أيلول 2024، كالمخرج المطلوب لتبرير الامتناع عن تسليم سلامة للخارج، ولتخفيف الضغط الخارجي عن السلطة اللبنانيّة. تمّ حصر التحقيق مع سلامة، بعد توقيفه، بقضيّة صغيرة وهامشيّة، قياساً بارتكاباته الكبرى التي يجري التحقيق بشأنها في الخارج. ثم مضت سنة كاملة من دون تقدّم التحقيق أو توسعته أو صدور الأحكام، فقضى القانون بإطلاق سراح سلامة لانقضاء الفترة القصوى المسموح بها للتوقيف الاحتياطي.
أكّد خروج سلامة حرّاً، بعد عام كامل من المراوحة في ملفّه القضائيّة، أن ثقافة الإفلات من العقاب ما زالت سارية، رغم مسرحية توقيفه. أكّد مشهد خروج سلامة أن كل الإجراءات القضائيّة التي اتُّخِذت محلياً، كانت مجرّد عراضات للتعامل مع ضغوط الخارج، والتحقيقات التي كانت تجري في أوروبا. انتهت الحاجة للمسرحية، وجاءت الكفالة لتؤكّد أنّ أمثال سلامة أكبر من أن يُمَسّ بهم في جمهوريّة الإفلات من العقاب.
رولان خوري وصندوق الكازينو الأسود
ليس الكازينو مجرّد مؤسّسة عاديّة في حسابات السلطات السياسيّة المتعاقبة. فهو بمثابة الصندوق الأسود للنظام، يوزّع الخدمات الزبائنيّة والعقود المربحة، ويموّل وسائل إعلامية. فجأة، وبعد عقود من العمل خارج أي محاسبة، تمّ توقيف رئيس مجلس إدارة الكازينو رولان خوري، بعد تحقيقات في ملف شركة «بيت أرابيا»، المتهمة بتشغيل منصة مراهنات غير شرعية عبر الإنترنت.
لم يأتِ توقيف خوري خارج أي سياق سياسي. فكان العهد الجديد يخوض معركة تطهير الإدارات العامّة من أبرز الرموز الموالية للعهد السابق، والتي لم تغيّر ولاءها السياسيّ بعد. وكان إقصاء رئيس مجلس إدارة الكازينو، العونيّ الهوى، عن إدارة الكازينو، أولويّة بالنسبة للعهد، بالنظر لحجم الموارد الماليّة والخدمات التي تمرّ عبر هذا المرفق العام.
مرّةً أخرى، لم تكن العدالة هي الهدف. فبعد انتفاء الحاجة السياسية للملاحقة، أُطلِق سراح رولان خوري، ربّما كرسالة تطمين لمن سيليه على رأس الكازينو، لجهة إمكانيّة الخروج من العرش لاحقاً من دون الخضوع للمساءلة والمحاسبة. أمّا العقود التي أعطاها خوري بشكل غير قانوني لأصحاب محال القمار في المناطق، فيمكن إعادة توزيع رخصها على أساس المشهد السياسي الحالي وتوازناته الجديدة.
محمد خليل وبيع الوهم لمرضى السرطان
كان خلاف محمد خليل مع دائنيه، بعد ضياع أموالهم، الشرارة التي كشفت النموذج الاحتيالي بأَسره. غير أنّ أخطر ما في هذا الملف لم يكن الجانب الإئتماني، ولا الجانب المتعلّق بالتهريب بحد ذاته، بل الجانب الصحّي. فخليل وزوجته كانا يبيعان مرضى السرطان أدوية مكلفة، لكن مزوّرة. كانا يبيعان الوهم لمرضى باحثين عن سبل النجاة من مرض بات يزداد تفشّياً جرّاء فشل الإدارة السياسية في ضبط التلوث في البلاد.
فور انكشاف الشبكة، ربط كثيرون ما بين عملها والقرابة التي تجمع محمد خليل بشقيقه، وزير الماليّة السابق علي حسن خليل. فتمويل الشبكة، والحصول على «استثمارات» كبيرة من دائنين باحثين عن أرباح سريعة، في عمليّة غامضة وغير مشروعة، كان يتطلّب ثقة بقدرة خليل على تهريب الدواء وبيعه. وهذا ما لا يتوفّر إلّا بشخص يملك حصانة وعلاقات سياسيّة لا يملكها تاجر دواء عادي. وعلي حسن خليل، كما هو معلوم، ما زال يملك أذرُعَه داخل وزارة الماليّة، صاحبة سلطة الوصاية على إدارة الجمارك.
فُرض على السلطات اللبنانيّة اتخاذ إجراءات أمنيّة متشددّة على المنافذ البريّة والبحريّة والجويّة، في أعقاب انتهاء الحرب الإسرائيليّة على لبنان، وتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار. كان المطلوب من هذه الإجراءات، بحسب الاتفاق، وقف تدفّق المواد القابلة للاستعمال في صنع الأسلحة التي يستخدمها حزب الله. غير أنّ الإجراءات ساهمت، في الوقت نفسه، في إسقاط العديد من شبكات التهريب في قطاعات مختلفة. سقطت شبكة تهريب دواء السرطان المزوّر، وارتفعت أصوات الدائنين الذين موّلوا هذه الشبكة، فتحرّك الملف وأُوقِف محمد خليل.
لكنّ التوقيف لم يدم، والعدالة لم تأخذ مجراها، وهذا ما أكّده خروج محمد خليل من السجن بكفالة ماليّة. كان إطلاق سراحه دلالة على الخفة في التعامل مع جريمة بحجم خداع مرضى السرطان، وجرّهم إلى الموت باستخدام الدواء المزوّر. ثمّة نظام حاصر هؤلاء المرضى بسياساته التي أدّت إلى انقطاع أدويتهم بشكلٍ متكرّر وإلى حرمانهم من التغطية الصحيّة اللازمة لتأمين الدواء الثمين وإلى ازدياد نسب التلوّث الذي يشكّل أحد أبرز أسباب تفاقم هذا المرض في لبنان. لم يكن هذا كافياً، فوجد البعض طريقة إضافية لاستغلال هذا الظرف. ووجدوا نظاماً مكّنهم من الإفلات من العقاب.
ثلاث قضايا تُظهر أن العدالة ما زالت مستحيلة، مهما كانت القضية. ثقافة الإفلات من العقاب باتت هي الناظم الأساسي للحياة العامة، وبات لها سعرٌ واضح إسمه الكفالة.