لماذا يرفض حزب الله تسليم سلاحه؟ سؤالٌ قد يبدو ساذجاً بالنظر إلى الأسباب البديهيّة العديدة التي تدفعه إلى الامتناع عن ذلك، ولعلّ أبرزها: الإملاءات الإيرانية، الاحتلال والعدوان الإسرائيليّان، الخطر المستمرّ الذي تمثّله الدولة العبرية، السعي إلى الهيمنة داخليّاً، والتصعيد لرفع سقف التفاوض.
ثمّة سبب إضافي، لعلّه الأكثر بديهيّة، يستحقّ بعض التأمّل، وهو أنّ حزب الله، منذ تأسيسه، تنظيمٌ مقاوم. هدفه منذ البداية، اقتداءً بالثورة الإسلامية الإيرانية وبوصفه جزءاً منها، محاربةُ إسرائيل والإمبريالية الأميركية؛ ليس من أجل استعادة كامل الأراضي المحتلّة والدفاع عن لبنان وحسب، بل سعياً إلى تدمير الدولة العبرية وتحرير المنطقة من أيّ هيمنة غربية. هكذا يرى حزب الله نفسه ويُعرِّف دوره منذ تأسيسه وحتّى الآن؛ هذا هو جوهر الجانب غير الديني من عقيدته، إذا جاز التعبير، وهو ما يفترض بالضرورة امتلاك السلاح.
السلاح، إذاً، في صميم هويّة حزب الله، فيكاد يستحيل تخيّله كتنظيم غير مقاومٍ أو كحزب يقاوم باعتماد الوسائل السياسية والثقافية فحسب. تخلّيه عن السلاح هو بالتالي تخلٍّ عن هويّته، بل انتفاء لعلّة وجوده. فحتى لو خسر في الحرب الأخيرة الجزء الأكبر من ترسانته العسكرية، ولم يعد ما تبقّى منها صالحاً للاستخدام لا داخليّاً ولا لمواجهة إسرائيل، يظلّ لهذا السلاح وظيفة أساسيّة: التعريف بحزب الله كتنظيم عسكري مقاوم. أمّا التحوّل إلى حزب سياسي صرف، فليس بالأمر اليسير، بل قد يكون مستحيلاً، إذ يقتضي منه إعادة اختراع نفسه بالكامل.
لذلك، حين يقول النائب محمد رعد إنّ «تسليم السلاح انتحار» أو «الموت ولا تسليم السلاح»، فهو على الأرجح لا يهوِّل ولا يبالغ، بل يعبّر حرفيّاً عن قناعته. السلاح هو طوطم القبيلة التي تتعرّف من خلاله إلى نفسها، فلا شيء يضمن أنّ نزع هذا السلاح لن يؤدّي إلى تفكّك حزب الله تدريجيّاً حتّى زواله. للصاروخ والبندقيّة وظيفة رمزيّة قد تفوق أهميتها وظيفتهما الحربية: فالصاروخ والبندقيّة هما ما يؤمّن لحمة الجماعة والشعور بالانتماء إليها.
لذلك أيضاً، حين يلوّح نعيم قاسم بخراب لبنان في حال جرت محاولة نزع السلاح، فهو لا يهدّد وحسب، بل يعبّر عن خوفه العميق من الانهيار الذي قد يصيب تنظيمه. السلاح هو ما يتيح لحزب الله إنكار الهزيمة المدوّية التي مُني بها في الحرب الأخيرة. طالما حافظ على هويّته، أي استمرّ في الوجود كتنظيم مقاوم مسلّح، يستطيع الادّعاء– بل وحتّى تصديق– أنّه لم يُهزَم، مهما كانت الخسائر فادحة. لكن إذا جُرِّد من سلاحه، سيكون مرغماً على الإقرار بالهزيمة الكاملة، هزيمة مطلقة لا رجعة فيها.
الأرجح، إذاً، أنّ حزب الله يعيش حالةً من الهلع، فالمسألة المطروحة وجوديّةٌ تتعلّق ببقائه. لا يمكن توقُّع ردّ فعله إذا صدر قرار تنفيذيّ بنزع سلاحه، لكنّ لجوءه إلى العنف يبقى احتمالاً وارداً. فقد يرى نفسه محاصراً في الزاوية، مُهدَّداً بخسارة كل شيء: هويّته وكينونته وعلّة وجوده، فيقرّر حينها خوض المعركة الأخيرة، حتّى لو كانت ستفضي إلى فنائه وربّما فناء لبنان أيضاً– «معركة كربلائية» على حدّ قول نعيم قاسم.
لذلك كلّه، ينطوي قرار الحكومة بنزع السلاح غير الشرعي على قدر من المقامرة، على الرهان بأنّ حزب الله لن يستخدم العنف دفاعاً عن سلاحه ووجوده، أو أقلّه بأنّ العنف الذي قد يلجأ إليه سيظلّ محدوداً. صحيح أنّ احتمال اندلاع حرب أهليّة منخفض نسبيّاً، لكنّه ليس مستحيلاً. علينا الإقرار بهذا الواقع: أنّ قرار الحكومة قد يشكّل تهديداً جسيماً للسلم الأهلي. وحده المستقبل كفيل بأن يبيّن لنا ما إذا كان هذا القرار متهوِّراً أم صائباً.