ما مِن مقال سياسيّ إلّا ويُختَتم بتوزيع النصائح يميناً ويساراً، كأنّما الكاتب واثقٌ من أنّ آذان الشعب والحكّام تصغي إليه. إنّها عادةٌ غُرِست في أعماق أدمغتنا منذ كنّا أطفالاً على مقاعد الدراسة: بعد المُحاججة وإبداء الرأي، عليك لزاماً أن تفتحَ أفقاً ما، أي أن تُسدي نصيحةً تُجيب بها على السؤال الأزلي: «ما العمل؟».
لكن ماذا لو لم يكن هناك ما يُفعَل– في لبنان على سبيل المثال، حيث الحياة السياسيّة مشلولة، وآفاقها مسدودة، فلا يُرى فيها إلّا تكرار الشيء ذاته مرّة تلو أخرى؟ حتّى في مثل هذه الحالة، يصرّ الكاتب السياسي، بعد أن يكون قد أغمّ قلبَ القارئ بتحليله السوداوي، على استلال عبرة أو موعظة من جيبه، فيرميها كيفما اتّفق في ختام مقاله، ماحياً بها كلّ ما سبقها من تشاؤم وقنوط.
لكن ماذا لو ذهبنا إلى الخلاصة المنطقية لغالبيّة المقالات السياسية التي تتناول لبنان– بل لجميعها؟ تلك الخلاصة التي تُطمَس مراراً وتكراراً تحت النصائح والإرشادات الورديّة المهذّبة؟
للقيام بذلك، علينا أوّلاً أن نستعرض ما تقوله تلك المقالات. وهذه ليست مهمّة مستحيلة أو بلا نهاية كما قد تبدو للوهلة الأولى. فالحقيقة أنّ هذه الكتابات متشابهة جداً في العمق، تكرّر الشيء ذاته، وإن اختلفت الأساليب، كأنّها كلّها تنويعات على مقال واحد خطّه كاتبٌ جماعيّ. لكنّ هذا ليس بعيبٍ، فالمقالات هذه، مهما تباينت انتماءات كتّابها السياسيّة، يستحيل عليها أن تأتي بالجديد يوميّاً، ذاك أنّها مجرّد انعكاس، ولو مشوَّه، لواقع سياسي غالباً ما يتّسم بجمود مذهل. فما الذي تقوله هذه المقالات حاليّاً، ولا تكفّ عن ترداده؟
- أنّ إسرائيل مستمرّة في الغارات والاغتيالات اليوميّة بلا رادع وإلى أجل غير مسمّى.
- أنّها قد تشنّ حرباً موسّعة في أي لحظة.
- أنّها شرعت في إقامة منطقة عازلة، والأرجح أنّها ستواصل ذلك.
- أنّ إعادة إعمار جنوب لبنان بعيدة المنال في السنوات القادمة.
- أنّ حزب الله لن يسلّم سلاحه شمال الليطاني.
- أنّ المفاوضات لن تفضي إلى نتيجة تُذكر، إمّا لأنّ ما تصبو إليه إسرائيل قبل أي شيء هو نزع سلاح حزب الله، وإمّا لأنها، على العكس، ترغب في أن يحتفظ بسلاحه ليكون ذريعةً لها لمواصلة اعتداءاتها وإقامة منطقة عازلة.
- أنّ الانقسام الحادّ حول مسألة سلاح حزب الله سيُبقي البلاد على شفير الفتنة الأهليّة.
- أنّ لا تعافي قريباً من الأزمة الماليّة والاقتصاديّة، إذ أنّ الحكومة إمّا عاجزة عن تحقيق أيّ إصلاحات فعليّة، وإمّا متواطئة مع المستفيدين من الوضع القائم، كما أنّ المساعدات الخارجيّة لا تعدو أن تكون سراباً.
- أنّ الانتخابات النيابيّة القادمة، مهما كانت نتائجها، لن تغيِّر شيئاً من كلّ ما ورد أعلاه.
- أنّ هذا المستنقع الراكد والآسن لن يتحرّك إلّا بفعل عامل خارجي حاسم، كاتفاق إيراني أميركي أو حرب إسرائيلية جديدة على إيران أو لبنان.
يجوز القول، بقدر من المبالغة، إنّ ما سبق يُشكِّل جوهر جميع المقالات السياسيّة التي تناولت لبنان خلال السنة المنصرمة، فيما كلّ ما عدا ذلك ليس سوى قشور. وإذا كان لا بدّ من استخلاص عبرة من كلّ هذا، فهي واضحة وضوح الشمس، ولا تمتّ بأي صلة إلى النصائح والمواعظ التي تَختَتِم تلك الكتابات، نصائح ومواعظ عشوائيّة ومتفائلة إلى درجة تجعل المرء يتساءل إن كان كاتبها شخصاً آخر غير الذي خطّ متن المقال. والعبرة هي التالية: لا شيء يمكن فعله. وهذا ليس رأي كاتب هذه السطور، بل الاستنتاج المنطقي لما لا تنفكّ تلك المقالات تكرّره في تحليلاتها.
لكن ماذا يعني عمليّاً أنه ما مِن شيء يمكن فعله؟
- أوّلاً، أنّه لا فاعليّة سياسيّة تُذكَر لأيّ منّا، أفراداً وجماعات وحكومة ودولة.
- ثانياً، أنّه علينا انتظار خضّة خارجيّة لتتبدّل أحوالنا: إمّا إلى الأفضل وإمّا إلى الأسوأ، لا أحد يدري.
- ثالثاً، أنّه علينا فكّ أيّ ارتباط عاطفي بالسياسة، ما دمنا لا نملك يداً في مجرياتها ولا أثراً في مسارها. فالأجدى النظر إليها بوصفها مسألةً عقليّة صرفة، حيّزاً للمراقبة والفهم لا للفعل.
باختصار، علينا التعامل مع السياسة كأنّها قدر يهبط علينا من علٍ. وهذا، مرّة أخرى، ما تريد تلك المقالات قوله ولكنّها تحجم عن الإفصاح به.