يوميات الحرب على لبنان
خالد صاغيّة

رسالةٌ متأخِّرة إلى علي

11 آب 2025

منذ دويّ جدار الصوت الأوّل، عرفتُ أنّ هذه الحرب ليست لي. كانت نُدوب انفجار المرفأ لا تزال محفورةً في جهازي العصبيّ. لم يكن الأمر سهلاً. أن أهرب، أن أختفي، أن أزول، أن أتلاشى إلى حين، منتظراً وقف إطلاق النار. كنتُ أعرف أنّي حين سأعود، سيكون العالم مختلفاً، وأكثر قسوةً، ولم أكن مخطئاً. قبل ساعاتٍ من وقف الأعمال القتاليّة، أو هكذا قيل، نفّذت إسرائيل غارةً على أحد مباني محلّة بربور في العاصمة بيروت. عنْونَت المواقع الإلكترونيّة: نجاة نائب في حزب الله من محاولة اغتيال، واستشهاد شقيقه. سرعان ما تبيّن أنّ ما من نائب مستهدف، وأنّ المغدور ليس شقيقاً لنائب، بل والدٌ للفنّان علي شرّي، وقد قُتِل بالغارة مع زوجته. حين تبلّغ ابنه الخبر، كان يستعدّ لعرض فيلم له في باريس عن حياة جنديّ شابّ مكلّف بحراسة حدود قبرص التركيّة. ألغت الغاليري العرض، واعتذرت من جمهورها.

لستُ صديقاً مقرّباً لعلي، لكنّي أعرفه منذ خمسة وعشرين عاماً، تبادلنا خلالها الكثير من ابتسامات الودّ وقليلاً من الكلمات. أغامر وأقول إنّ هذه هي العلاقات المفضّلة لديّ. أن تشعر بحبّ شخص ما تجاهك، وأن يشعر بحبّك أيضاً، من دون أن يتحوّل الأمر إلى معرفة عميقة أو صداقة. قرأت النعوة على الفيسبوك أكثر من مرّة: الدفن يوم الأحد 1 كانون الأول 2024 في روضة الإمام الهادي قرب نادي الغولف عند الساعة الواحدة ظهراً. التعازي يومَي الإثنين 2 والثلاثاء 3 كانون الأول 2024 في أوتيل راديسون بلو (Dunes) فردان من الساعة الرابعة وحتى السابعة مساء. حفظتُ العناوين والمواعيد جيّداً. ثمّ قرّرتُ أنّه من غير المناسب أن أذهب إلى الدفن، وسأكتفي بالتعزية. ارتديتُ بذلتي الرسمية صباح الإثنين، لكنّي لم أذهب. ثمّ ارتديتها مرّةً أخرى صباح الثلاثاء، ولم أذهب. لم أذهب. لم أعتذر. لم أتحجّج. لم أتّصل. لم أبعث حتّى برسالة صوتية. 

بعد ستّة أشهر على مقتل والديه، نشر علي على حسابه على إنستغرام صوراً لأمّه وأبيه وللعزاء وللدمار في بنايته، وكتب: إلى الذين كانوا يسألون، لا، لم أكن بخير. ولا أظنّ أنني سأكون بخير بعد الآن. لقد بدأت أتعلّم للتوّ كيف أعيش مع جبال من الألم الذي لا ينتهي، وأنا أحاول استيعاب هذا الرعب. هذا يفوق ما صُنِعنا لتحمّله. لكنني أقوم بما بوسعي. إن كنتم قد أظهرتم اهتمامًا، تعاطفًا، أو حتى اكتفيتم بالسؤال عنّي، شكرًا لكم. أما الباقون، فلا أطلب سوى هذا: كونوا لطفاء. كونوا لائقين. قرأتُ هذا النصّ الرقيق أكثر من مرّة. وقلتُ إنّ هذه مناسبتي لأعوّض غيابي المخزي عن الدفن والعزاء. تحرّك إصبعي مراراً ليضغط على الأزرار، ليضع قلباً، أو يكتب تعليقاً صغيراً أو حتّى رسالةً خاصّة، لكنّي لم أفعل. فضّلتُ أن أستمرّ في تجاهل الأمر برمّته كأنّه لم يحدث، لعلّه- ربّما- يكفّ عن كونه قد حدث حقاً. تذكّرتُ أنسي الحاج حين سئل ذات مرّة عن كتابة الأخبار في زمن الحرب الأهليّة. قال إنه كان يحاول أحياناً عدم نقل الأخبار المزعجة إلى الناس، «فربّما تنطفئ بهذه الطريقة… أو على الأقلّ هكذا أعتقد».

أعرف يا علي أنّي لم أكن لطيفاً، ولا لائقاً. وأنا أكثر خجلاً من أن أتمكّن من وضع عينيّ في عينيك بعد الآن. إلا أنّي، رغم ذلك، وجدتُ حاجةً ورغبةً بأن أُخبرك أمراً غريباً بعض الشيء. أشعر، في الواقع، أنّي بتُّ أكثر قرباً منك. هذا الرابط بيننا، الذي لم يُترجَم يوماً بأكثر من ابتسامة، بات من جهتي أكثر متانةً. لأنّي، منذ فقدانك لوالدَيْك، وأنا أفكّر بالأسباب التي منعتني من تعزيتك. وكي أكون صادقاً معك، فتح البحث عن تلك الأسباب أبواباً كنتُ أخالها موصدة. لكن، بمعنى ما، لقد اختلط فقدُك بعجزي. أحسبُ أيضاً يا علي أنّك، من جهتك، الأقدر على فهم ذلك، وأنتَ مَن كرّس جزءاً من حياته للبحث عن الأثر الذي لا يزول للحروب، عن العنف غير المرئيّ الذي يظلّل حياتنا. فالعنف ليس أن نُقتَل وحسب، بل أن نعجز أيضاً عن السير في جنازة.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
شكوى ضدّ مايكروسوفت بتهمة تخزين بيانات استخدمها الجيش الإسرائيلي
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي