بلد مُغلَّف بالنايلون
هناك تقسيم مألوف في البيوت التقليدية، بين شقّ عام، مخصّص للزيارات، وآخر خاص، لا تدخله إلّا العائلة. عادة يكون الحيّز العام من أفضل الغرف في المنزل وأوسعها، وإن كانت أقلّها استعمالًا، فيُعتنى بها بدقّة لكي تحافظ على رونقها. هي «صورة» المنزل، ما يراه القادم من خارجه. هي المنزل كما يريد صاحبه تخيّله لولا فوضى عائلته.
بين زيارة وأخرى، يبقى هذا الشقّ مغلقًا لتفادي استهلاكه من قبل العائلة: غرف معتمة، فرشها مغلّف بالنايلون، شبابيكها مسكّرة، بينما تنحشر العائلة بأكملها في الشقّ الخاص من المنزل، مع ضجيجها وكركبتها وحياتها اليومية.
عند زيارة ضيف غريب، يُفتتح الصالون العام، تُشطف أرضه، يُقلع النايلون عن فرشه، تُفتح شبابيكه، لتقديم أفضل «صورة» ممكنة عن المنزل، وبالتالي عن صاحبه. أما كركبة البيت، من أطفال وأغراض وعجزة وحيوانات، فيتمّ حشرها بالغرف الداخلية، إلى جانب مشاكل العائلة وعنفها وضعفها وتناقضاتها وأسرارها. لبضع ساعات، يحلو لصاحب المنزل تخيّل نفسه في «صورة» هذا الصالون، مرتب، نظيف، مُتقَن، مدروس، حتى لحظة رحيل الضيف، وانفجار كل ما تمّ ضغطه في الغرف الداخلية وخروجه إلى العلن، بحثًا عن فتافيت من «الصورة»، قبل أن يتمّ قمعها مجددًا وتسكير الصالون عليها.
حتى موعد الزيارة التالية…
زيارة إلى «البلد الصورة»
شكّلت «الصورة» دائماً هاجسًا للبنان، وأداةً تأديبية لكل من يخرج بعض الشيء عنها. «الصورة» كالصالون، دورها إغراء الخارج وتأديب الداخل، حتى باتت أهمّ من هذا الداخل، مهما ابتعدت عن واقعه. و«الصورة» أخذت أشكالًا مختلفة من لبنان الرسالة إلى دوره المفترض، مرورًا بتعايش طوائفه، أو استثناء نظامه السياسي أو حياته الليلية. هناك «صورة» لكلّ زائر، في بلد اعتاد دوريًا على تبرير وجوده للخارج والداخل معاً.
وإلى هذه «الصورة- الصالون»، جاء البابا لاوون الرابع عشر في زيارته للبنان، ومُنِع أن يرى أي شيء خارجها.
فعلى مسار البابا، الطرقات فارغة ونظيفة ومزفَّتة. شركة أوجيرو أعلنت تقديم خدمة إنترنت 5G في المناطق التي ستستضيف الزائر، وكانت شركة كهرباء لبنان قد سبقتها وزادت ساعات التغذية الكهربائية للمناطق ذاتها. حتى جيش الاحتلال شارك في بناء هذه الصورة، فعلّق تحليق دروناته فوق مسار البابا.
تكاتف الجميع لكي تبدو الزيارة مرتّبة. نُزِع النايلون عن بعض فرش البلاد، وشطفت طرقاته، وأزيل الغبار والركام عن «الصورة» لنتخيلها واقعًا، وإن لبضعة أيام.
أما «كركبات» البلد، فحُشِرت بالمناطق الخلفية، من حرب إلى درونز ودمار وطوفان طرقات وأزمة مالية وانهيار مؤسَّسَتيّ وتلوث بيئي وعنف مذهبي وصخرة الروشة وأزمة السلاح. وربّما كانت اللحظة الوحيدة التي هدّدت «الصورة» هي شهادة عاملة فلبينية مهاجرة، أظهرت «حقيقة» ما يختبئ وراء «الصورة». فسارعت الترجمة لتأديب مغزاها.
علينا أن نحافظ على الصورة حتى تنقضي الزيارة ويغادر الزائر إلى بلاده، حينها يتنفّس لبنان الرسمي الصعداء، وتعود كركبات البلد إلى حياتها المعتادة.
لم يعد هناك من داخل
المشكلة ليست بوجود «الصورة». المشكلة هي أنّه لم يعد هناك إلّا «الصورة».
لم يعد لبنان إلّا واجهة، صالون استقبال، يُعاد تأهيله جزئياً قبل كل زيارة، ليعود إلى مساره الانهياري بعد نهاية الزيارة. فقبل زيارة البابا، كان هناك زيارة المغتربين الذين شكلّ وجودهم لحظة هدوء سياسي ريثما يستعيد الاقتصاد بعضًا من عافيته. وبين زيارات المغتربين، هناك المبعوثون الغربيون وتهديداتهم وضغوطاتهم، والذين باتوا يشكلون الإيقاع الوحيد للسياسة اللبنانية.
في لحظة الانهيار الداخلي التام ومع توحّد الخارج بعد انتهاء مرحلة الانقسام الإقليمي، باتت التبعيّة للخارج مطلقة. و«الصورة» كل ما لدينا لنقدّمه.
فالبلاد تعيش من زيارة إلى أخرى. وبين الزيارات، فراغ سياسي واقتصادي، مجرّد انتظار. وكأن من يقطن هنا بات مقتنعًا بأن لا دور له، لا في السياسة ولا في الاقتصاد. البلاد صالة استقبال، وإذا لم يكن هناك زائر، فلا داعي حتى لإضاءتها. القاطن هنا بات عبئًا. فمن غير المستغرب أن تقفل كل البلاد جراء الزيارة، فهي أصلًا بلاد تعيش على الزيارات.
«صورة» قديمة
تكمن المشكلة بالصورة الرسمية، وقد باتت خارج الزمن. لبنان الرسمي بات قديمًا ومهرغلًا، مهما تمّ تزفيت الطرق وتحديث المباني وتسريع الانترنت. فولكلور السيادة لا ينفي أنّ ممثليها يحكمون بلدًا مفلسًا، وباتوا أضحوكة عند الخارج، وليسوا مؤهلين حتى لكي يكونوا وكلاء هذا الخارج.
أمّا إعلامه الذي كسر أرقامًا قياسية بعدد المحاورين الذين استقبلهم بتغطيته المباشرة، فكان برهانًا عن هذا التعلّق المريض بـ«الصورة» على حساب الواقع، وكأن دور هذا الإعلام، بعد انهيار الداخل، هو مجرّد الاستثمار بهذه «الصورة» إلى ما لا نهاية.
أمّا «الصورة»، فمن الصعب تصديقها: الكلام عن سلام والحرب على الأبواب، عن التعلّق بالأرض والهجرة باتت قياسية، عن التعايش وصخرة الروشة كانت كفيلة بإشعال حرب أهلية، عن الدور بعد انهيار النظام السياسي.
«الصورة» باتت جزءاً من المشكلة. فإذا كان أفضل ما لدينا لتقديمه، أي «الصورة»، مهترئًا، فهذه دلالة عن كم بات وضعنا صعباً.
ما بعد الزيارة
أن تكون «صورتنا» وواقعنا مهترئين، لا ينفي أهمية زيارة البابا، كما لا يلغي توق من يقطن هنا بالتمسّك بأي إمكانية للنجاة، مهما كانت غير واقعية ومهما أخذت شكل حمامة واكبت سيارة البابا لبعض الدقائق.
لكنّ الجميع يدرك أن مفاعيل الزيارة ستنتهي مع إقلاع الطائرة.
ستنتهي بسبب حرب قادمة، قرّر الإسرائيليون تأجيلها، جراء حسّ حسن الضيافة في دول احتلالهم.
ستنتهي بسبب أزمتنا «الدنيوية»، والتي ما زالت عالقة عند النقطة نفسها قبل تزفيت (بعض) طرقات لبنان.
ستنتهي بسبب الأزمة السياسية، والتي باتت مراسم استقبال البابا جزءا منها.
ستنتهي بسبب توق الكنيسة إلى القمع بعد ويك-أند الانفتاح والتعايش، مع عودة المونسيور عبدو أبو كسم إلى لعبته المفضلة كواشي الكنيسة.
ربّما كان علينا، بعد الزيارة، إعادة تقييم هذه «الصورة» التي لم تعد تقنع الخارج. ربّما كان في هذا دافعٌ لتحرّر الداخل منها.