Soundtrack to a Coup d’Etat
كاسترو، عبد الناصر، حركة عدم الانحياز، استقلال الجزائر، تيتو، نهرو، مالكوم أكس، مؤتمر باندونغ، تأميم قناة السويس، غيفارا، فانون، هو تشي منه، ديان بيان فو، سيزير، بن بركة… أسماء تشير إلى لحظة من القرن العشرين، امتدّت نحو عقدَين من الزمن، حيث اقتحم العالم الثالث الساحة العالمية لإرساء، ولو للحظة، «كونيّةٍ أخرى» تناهض الكونيّة الغربية، انطلاقًا من واقع الأكثرية المستعمَرة وليس الأقلية المستعمِرة. في هذه اللحظة، اهتزّ حكم «الرجل الأبيض».
إلى هذه اللحظة، يعود الوثائقي Soundtrack to a Coup d'Etat، للمخرج جون جريمونبريز، وبالأخصّ، إلى السنوات القليلة بين نهاية الخمسينات وبداية الستّينات، والتي شهدت استقلال عدد من المستعمرات في العالم الثالث ودخولها منتصرة إلى الأمم المتّحدة. على خلفية الصراعات الدائرة حول موسيقى الجاز ومحاولة استغلالها من قبل السياسة الخارجية الأميركية في حربها الباردة من جهة، ومن جهة أخرى، صعود ومن ثمّ اغتيال رئيس وزراء الكونغو باتريس لومومبا والذي شكّل النهاية المبكرة لأحلام ما بعد الاستعمار، يقدّم الوثائقي نبذةً عن هذه اللحظة التاريخية، والتي تتوّجت بـ«إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة» في عام 1960. في هذه اللحظة، استطاع التضامن العالم الثالثيّ، بالتعاون مع المعسكر الشيوعي، أن يكسر احتكار القرار من قبل الدول المستعمِرة سابقًا، والتي لم يجد ممثّلوها في الأمم المتّحدة إلّا الامتناع بوجه الإعلان.
وبعيدًا عن الإعلانات الأممية والاعترافات السياسية والاغتيالات، ما كان لافتًا في صور أرشيف هذه الحقبة، هو الوجوه. وجوه «زعران العالم الثالث»، كاسترو، عبد الناصر، نهرو، سوكارنو، وهم يقتحمون الأمم المتّحدة، ليفرضوا استقلال بلادهم ويسترجعوا حقّهم بالكلام، وجوه ضاحكة وشقيّة، تدرك أنّها كسرت الاستعمار، وتدخل الأمم المتّحدة لتقول نحن العالم. وفي وجههم، وجوه «الرجال البيض» في لباسهم الرسمي، والتي لم تُخفِ اشمئزازها وخوفها واستعلائها أمام هؤلاء الزعران الذين كانوا «إرهابيين» قبل بضعة أشهر من هذه الجلسة. في هذه اللحظة، فهم «الرجال البيض» أنّهم لم يعودوا وحدهم في العالم.
وإن كان للحظة.
من لومومبا إلى الشرع
بعد 65 سنةً، «أزعر» آخر من العالم الثالث، كان منذ أشهر «إرهابيًا» أيضًا، دخل إلى الأمم المتّحدة منذ أسبوع ولكن في ظروف مختلفة تمامًا. أحمد الشرع، القادم من سنوات نضال جهادي ضد الغرب بات رئيسًا لسوريا، وبالتالي ممثّلها في الأمم المتّحدة. عكس أسلافه من زعران العالم الثالث، خلع الشرع بدلته العسكرية ليرتدي طقم الوجاهة، وموّه كلامه ليرضي مخاوف خصومه السابقين، وقدّم التنازلات مقابل وعود سياسية واقتصادية. لسنا في عام 1960، و«الرجال البيض» استعادوا سيطرتهم التي انهزّت لبضع سنوات في منتصف القرن الفائت، تحت غطاء كونية أخرى.
دخول هذا «الأزعر» إلى الأمم المتّحدة لم يعكّر صفاء ذهن «الرجل الأبيض»، كما فعل دخول قادة العالم الثالث منذ 65 سنةً. بالعكس، كان دخولًا أكّد سيطرتهم، وأكّد أنّ أينما تبدأ المسيرة السياسية، النهاية واحدة، عند «الرجل الأبيض». وكما في فيلم My Fair Lady، فحص حكّام العالم هذا القائد الجديد، امتحنوه وطرحوا عليه الأسئلة، طالبوه بتنازلات وتسويات، قبل السماح له بالجلوس في غرفة الكبار. وكان تلميذًا كفوءًا، فتخلّى عن ماضيه، وتعلّم لغة الحوار الديبلوماسية، وعرض السلام مع إسرائيل، وطالب باستثمارات اقتصادية، وأبدى إعجابه بنموذج الخليج، ليبدو أنّه أصبح ممكنًا تلخيص تراث الجهاد الإسلامي بمطلب الاعتراف فحسب.
حكومات أوروبا تعترف بنفسها
إلى جانب حدث استقبال الشرع، كان هناك حدثًا أكبر في هذا الاجتماع الأممي، وهو اعتراف عدد من الحكومات الغربية بدولة فلسطين، بعد سنوات من الامتناع والابتزاز واستعمال الاعتراف كأداة تأديب وضغط على السلطة الفلسطينية. لم يأتِ الاعتراف متأخّرًا فحسب، بل جاء بعد إبادة دمّرت أي إمكانية لدولة، وبالتالي لـ«حل الدولتين» الذي يتمسّك به عرّابو الاعتراف. لكن عكس «إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة» والذي انتُزع من المستعمرين، جاء الاعتراف كهِبة من الحكومات الغربية تجاه تضحيات الفلسطينيين في إبادتهم.
لكنّ الأهم أنّ ما كان يتمّ الاعتراف به ليس دولة فلسطين، بل دور الحكومات الغربية بإعطاء الاعتراف، أي أنّ الاعتراف لم يكن موجّهًا للدولة المُعتَرف بها، بل جاء ليؤكّد دور المُعترِف. في هذه اللحظة، ذكّرت الدول الغربية أنّها ما زالت مصدر القرار، ما زالت هي تُحدّد أي دول يعترف بها وأي دول تبقى في المطهر الدولي. عادت وجوه «الرجال البيض» إلى الابتسام، بات استعلاؤهم شرعيًا من جديد، يحدّدون مصير بلد بعدما شاركوا في إبادة شعبه من دون أي حساب، واستطاعوا أن يصعدوا مجدّدًا إلى منصّة العالم لكي يلقوا خطاباتهم الأخلاقية عن السلام والعنف، من دون أي اعتراض.
«البياض الصريح» في وجه «البياض الضمني»
لكن كان هناك اعتراض.
لم يأتِ من قبل «آخر» البياض، أي هذا المكوّن الذي اقتحم الأمم المتّحدة في عام 1960، بل جاء من عمق «البياض» ذاته، من هذا البياض الصريح والصاعد، والذي لم يعد يريد الاختباء وراء خطابات «كونية» لتمويه سيطرته العرقية. ففي وجه «الرجال البيض» للمؤسّسات الدولية والحكومات الأوروبية، المتمسّكة بخطاب كوني يؤمّن سيطرتها الضمنية، صعد تيّار أوضح بعنصريته، وصريح برغبته في إخضاع العالم لمشيئته، ونابع من إحساس بالتفوّق العرقي، ويجد تاريخه في رواية صراع الحضارات الأزلي وإعادة ابتكار تراث يهودي–مسيحي متخيّل. انتهت مرحلة سيطرة البياض الضمنية من خلال خطابات كونية وإنسانية، وبات البيض فصيلًا كباقي الفصائل، لكنّه الأقوى.
كانت عودة «البياض الصريح» معلنة في نتائج انتخابات معظم الدول الغربية، والتي أشارت إلى صعود اليمين المتطرّف، وتحوّله إلى الحزب الحاكم الوحيد في بعضٍ منها. وآخر معقل متوقّع أن يسقط هو بريطانيا، حيث أشارت آخر الإحصاءات إلى أنّ اليمين المتطرّف بات على مشارف أكثرية مطلقة في الانتخابات المقبلة. وفي معظم هذه الحالات، كان الطريق واضحًا. ميل عام للرأي العام نحو طروحات اليمين المتطرّف، ثم تبنّي معظم سياساته من قبل اليمين الوسطي، قبل انهيار هذا اليمين ليصبح التطرّف هو الخيار الوحيد انتخابيًا.
سهّلت الإبادة الإسرائيلية صعود هذا «البياض الواضح» إلى الحكم. فقضت على مؤسّساته وقوانينه الدولية، وأظهرته على حقيقته، أي تناقض يراد منه أن يؤمّن السيطرة بلغة كونية. فدفعت «البياض الصريح» في حربه على الوسط ومؤسّساته وقوانينه وخطابه، متلاعبةً على ضعفه في إيقاف الإبادة من جهة وضعفه في حماية تراث يهودي–مسيحي من جهة أخرى. الإبادة كانت مختبرَ عودة «البياض الصريح» إلى الحكم. أمّا مهرجانه الأوضح، فجاء في تشييع شارلي كيرك في الولايات المتّحدة، حيث صعدت زوجته، مرتدية كل أطياف البياض الممكنة، ومخاطبة جمهورها بلغة فاشية مسيحية، باتت واضحة وباتت مقبولة.
المفوّض السامي الأبيض
أمّا في أراضينا حيث الاقتتال حول صخرة الروشة، تتمظهر عودة «البياض الصريح» في شكل المبعوث الأميركي، والذي يردّد التصاريح الخارجة من دفاتر الاستعمار. فمِن نعت الصحافيين بالحيوانات مطالبًا إيّاهم بشيءٍ من التحضّر، إلى تحليلاته الاستشراقية عن قبائل وقرى شرق الأوسط، إلى دعمه لفكرة الديكتاتور الخيّر كنظام حكم، وصولًا بمطلبه الواضح للخضوع لإسرائيل وتحويل المنطقة إلى ساحة تطوير عقاري، عاد «البياض الواضح» إلى المنطقة، من دون أن يتلطّى وراء أي شعار كوني كالسلام أو الديمقراطية أو حقوق الإنسان. مطلب خضوع للقوّة فقط.
بعد عقود من التشكيك بحكم الرجل الأبيض، قرّر هذا الأخير الانتقام من خصومه، فنزع خطابه الكوني، ليقول أنّه عرق كباقي الأعراق لكن مع قنابل نووية. هذا العالم لي، يقول الرجل المفتخر ببياضه، ولست في صدد التقاسم بعد اليوم. فالقرن العشرون كان استثنائيًا، وحان الوقت لطَي صفحته. الخضوع هو الطريق الوحيد.