مسلمان في الولايات المتحدّة
الأول شاب، لم يتجاوز عمره الـ34. اشتراكي، خاض معركة انتخابية لرئاسة بلدية مدينة نيويورك بناءً على برنامج تقدّمي يعطي الأولويّة لخفض تكاليف المعيشة. فاز بالانتخابات ليصبح أول مسلم أميركي يتولى منصب عمدة نيويورك. مهاجر من أصول هندية وأوغندية، انسجم بالولايات المتحدة قبل أن يتجنّس. أخذ الإسلام إلى النوادي الليلية خلال حملته، وأعاد الاشتراكية إلى الموضة، واشتهر بابتسامته الساحرة وإتقانه استخدام أدوات التواصل الاجتماعي، ما جعله مرشّح الشباب الأميركي.
الثاني يكبر ممداني ببضع سنوات. إسلاميّ، خاض جهاده بين العراق وسوريا. بدأت مسيرته مع تنظيم «القاعدة» في العراق، قبل الانتقال إلى سوريا مع تأسيس «جبهة النصرة» التي تحوّلت إلى «هيئة تحرير الشام». قضى خمس سنوات في السجن بعد اعتقاله من قبل القوات العسكرية الأميركية في العراق، قبل أنّ تُدرجه وزارة الخارجية على قائمة «الإرهابيين الدَّوليين». من خلفية جهادية، تحوّل إلى ممثّل لإسلام معتدل، وبات رئيسًا للجمهورية السورية، في لحظة انتقالية يسودها العنف الطائفي وبوادر طغيان جديد.
الاعتدال والتقيّة
كان من المفترض أن يكون الأوّل نموذجًا لـ«المسلم الصالح»، هذا المسلم الذي يعرف كيف يدمج بين ديانته الخاصة والحداثة الثقافية والسياسية. أمّا الثاني، فمسيرته تلخّص ميزات «المسلم الطالح»: فكر جهادي، تنظيمات إرهابية، سجن، لوائح إرهاب، عنف وقتل.
لكنّ الصورة أتت معاكسة.
الأوّل وُوجِه بحملة تخوينية وشيطنة عنصرية من قبل اليمين الأميركي ورئيس جمهوريتهم، محذّرين من تحويل نيويورك إلى ملاذ للتطرف الإسلامي ولداعمي حماس. ولمواجهة صورته، اكتشف المعلّقون الإعلاميّون مفهوم «التقيّة»، ليتّهموا من يبدو بالظاهر كـ«مسلم صالح» بأنّه في الباطن إسلامي متطرف، يريد تدمير الغرب من داخله.
أمّا الثاني، فاستُقبِل في البيت الأبيض، كمشروع حليف جديد، رغم «سوء تفاهم» الماضي. فكانت الزيارة مناسبة لإعادة تدوير مسيرة رئيس الجمهورية الجديدة بعد عقود من «الحرب على الإرهاب» التي اعتبرت هذا النمط من المسلمين كائناتٍ لا تستحق الحياة. جاء مفهوم «الاعتدال» ليعيد تدوير «المسلم الطالح» إلى آخر أكثر قبولًا. فالاعتدال يتطلّب ماضياً متطرفاً ليعدل المرء عنه، وما من برهان على إتمام هذه العملية إلّا مطالبة هذا الشاب الخارج من السجون الأميركية الإدارة الأميركية بالقبول به والاعتراف بحكمه.
المسلم الصالح/المسلم الطالح
شكّلت ثنائية «المسلم الصالح/المسلم الطالح» منظور الغرب لفهم وأشكلة الإسلام بعد هجمات 11 أيلول، كما جاء في كتاب الأكاديميّ محمود ممداني «المسلم الصالح والمسلم الطالح: أميركا وصناعة الحرب الباردة وظهور الإرهاب» (ومحمود ممداني ليس إلا والد زهران ممداني). قسّمت هذه الثنائية المسلمين إلى فئتين، المعتدل/ العقلاني/ الحديث/ السلمي/ المتنور من جهة، والمتطرّف/ المتزمّت/ الرجعي/ العنفي/ القروسطي من جهة أخرى، أحدهما يمكن التحالف معه، أمّا الثاني، فلا يستحق الحياة. وجاءت هذه الثنائية كاستكمال لتراث طويل من الاستشراق استند إلى ثنائيات لتقسيم المسلمين، بين من يمكن التأقلم مع وجودهم، ومن باتوا يشكلون خطرًا لا مهرب من تدميره.
صعدت هذه الثنائية في لحظة دخلت فيها الثقافة في ميدان «الحرب على الإرهاب»، وأدّت إلى أشكلة الإسلام للبحث عما اعتُبر منابع عنفه المزمن. بدأت الأشكلة مع فتوى المرشد الأعلى للثورة الإيرانية ضد الكاتب سلمان رشدي في عام 1989، ثم ازدادت مع صعود مسألة الإسلام في الغرب وفشل مشروع السلام في المنطقة، قبل أن تنفجر مع هجمات 11 أيلول وما تلاها من حروب مع تنظيمات إسلامية، وتفاقم القضايا المتعلّقة بالوجود المسلم في الغرب.
تمّ استثمار الكثير في أشكلة شتّى جوانب الإسلام، من تاريخه إلى عاداته مرورًا بخطابه السياسي وممارسات أفراده، أشكلة شارك فيها العديد من المثقفين العرب أيضًا، المنضوين تحت لواء علمنة ليبرالية، رأت في الإسلام السياسي خصمها الأول. كما استثمرت الحكومات الغربية ومؤسساتها المدنية في «الاعتدال» الإسلامي، من مناهج تربوية إلى مؤسسات إعلامية، من أجل دفع المسلمين نحو قطب «المسلم الصالح» وإبعادهم عن خطر الوقوع بفخ «المسلم الطالح»، عملية يمكن تلخيصها بتحويل «الشرع» إلى «ممداني»، أي من سلفي جهادي يقاتل القوات الأميركية إلى مسلم يترشح إلى الانتخابات ولا يمانع أن يقوم بحملته في النوادي الليلة.
من ثنائية «المسلم الصالح/ المسلم الطالح» إلى ثنائية «هنا/ هناك»
لكنّ منظري «الحرب على الإرهاب» لم يحتفلوا بانتخاب «المسلم الصالح»، واستقبلوا «المسلم الطالح» بعدما سجنوه لسنوات. فبدا وكأن هذه الثنائية سقطت: «المسلم الصالح» أصبح بنظرهم غطاءً لــ«مسلم طالح»، و«المسلم الطالح» مشروع «مسلم صالح». فالثنائية فقدت دورها في اللحظة الراهنة، لتُستبدَل بإسلاموفوبيا واضحة، لا تحتاج إلى تلك التراكيب الخطابية.
سقطت الثنائية، أولًا، مع انتهاء صلاحية مشروع «تحديث الإسلام» ومن ورائه مشروع دمقرطة المنطقة. فمع النتائج الكارثية للحروب في المنطقة، والصعود السياسي للخليج الذي كان معارضًا لأي مشروع لدعم الديموقراطية في العالم العربي، تراجعت الحكومات الغربية عن مشاريع إعادة هيكلة المنطقة ومعها الإسلام، وعادت إلى سياسة دعم الحلفاء، مهما كانت طبيعة أنظمتهم، أي إلى سياسة أقرب إلى ما كان سائدًا في زمن الحرب الباردة.
يمكن للشرع أن يكون ما يريد طالما هو «هناك» يحافظ على مصالح الولايات المتّحدة.
سقطت الثنائية لسبب آخر، وهو صعود خطاب عنصري واضح في الغرب، بات يرى في المسلمين الموجودين على أراضيه خطرًا وجوديًا. ساهم صعود اليمين المتطرف في تحرير الخطاب من أي ضوابط قانونية أو جمهورية أو أخلاقية، ليتحوّل إلى مجرّد رفض لأي وجود مسلم في الغرب.
يمكن لممداني أن يقدّم صورة معتدلة عن الإسلام، لكن لا مكان له «هنا».
فبدل ثنائية «المسلم الصالح/ المسلم الطالح» التي كانت تعبّر عن منظور عالمي، صعدت ثنائية جديدة، تطهيرية، تقسّم العالم بين «هنا» و«هناك». «هنا» أرض الغرب، ولا مكان فيها للإسلام، مهما كانوا صالحين، أمّا «هناك»، فيسطفلوا بين بعضهم بعضاً.
قلق المسيطِر المستمرّ
لكنّ الخروج من النظرة الإصلاحية للإسلام، والتي باتت مرادفة للمشاريع الإمبريالية التي تلت هجمات 11 أيلول، إلى أخرى تطهيرية تريد الفصل بين الثقافات ومجالاتهم الحيوية، لا يعني تخلي الغرب عن موقعه المسيطر والذي ما زال يحاول «إدارة» العالم، مع ما يقتضيه ذلك من قلق حيال سيطرته. فرغم الخروج من مقاربة قسّمت المسلمين إلى صالحين وطالحين، مع ما يعنيه ذلك من عنف، ما زال عنف المسيطر هو السائد في العلاقة مع «الآخر المسلم»: تطهيره من «هنا» وتطويعه «هناك».
العنف ما زال سائدًا، ومعه القلق الذي أخذ شكل جنسنة الشابين. فالأول تحوّل إلى رمز على شبكات التواصل الاجتماعي، وزوجته إلى أيقونة يحتفي بها ليبراليو الغرب. أمّا الثاني، فلم يجد رئيس الولايات المتّحدة سؤالًا له إلّا عن عدد زوجاته، وذلك بعدما رشّه بالعطر.
في الحالتين، ما زال المسلم «سؤالا» للغرب، يراد منه تمثيل قلق هذا الغرب وتجسيده بكائنات يمكن إدارتها وتدميرها وجنسنتها.