قضية الأسبوع مغارة الفقمة
ميغافون ㅤ

ستُطاردكم الفقمة

التشهير في وجه التقاعس والنرجسية

25 تشرين الأول 2025

القضية

باتت القصّة معروفة، وحتّى مضجرة، تتكرّر كلّما انفجرت نرجسية إعلامية أو مقدّمة برامج أو صاحب نفوذ أو مطوّر عقاري، يُنَصّب نفسه فوق الطبيعة والبشر والمصلحة العامة، يختار قطعةً يشتهيها على شاطئ البحر، ثم يبحث عن شبكة العلاقات النتنة المستعدّة للانقضاض على الفريسة.

وتبدأ رحلة استغلال البيئة من أجل الأرباح أو الإشباع الذاتي، أو فرصة أن يستفيق صباحاً في منزله وهو يعلم أنّ هناك جنسًا حيوانيًا انقرض لإشباع جنون عظمته. تخيّلوا أنّكم ضيوفاً هنا، ومن صالون المنزل، تأتي صاحبة العقار، رولا بهنام، عارضة الأزياء والـ«فور كاتس» السابقة ومقدّمة البرامج والمهندسة والمُصمّمة، وتقول: «انظروا، هنا كانت تعيش فقمة، وهنا مغارة، وهنا شاطئ. خرّبتُ كل ذلك من أجل هذا المنظر من هذه الواجهة. حلو لا؟».

هذا عن العقار كما تراه صاحبته المستحدثة، كما تراه الخرائط والمصالح؛ لكن ماذا عن العقار من زاويةٍ أخرى، زاوية مَن يلجأون إليه حقّاً، زاوية ضحايا المشروع؟ العقار الذي يُبنى عليه مسكنٌ جديدٌ اليوم، يقع فوق مسكنٍ موجودٍ هنا منذ عقود، بل أكثر. تُعدّ هذه المغارة من أهم موائل فقمة الراهب المتوسّطية. في لبنان، تُرصدَ فقمة الراهب في هذه المغارة فقط. أمّا في المتوسّط عموماً، فيتزايد تواجد الفقم في جهة الشرق مع حركة نزوح نحو أسفل (من سواحل أوروبا إلى سواحل قبرص ولبنان والجوار) بسبب الأنشطة البشرية التي تُعرقل حياتها. وهذا ما يلقي مسؤوليةً مضاعفةً علينا كبلد. هذا عدا عن أنّ فقمة الراهب بالتحديد مصنّفة ككائنٍ «مهدّد بالانقراض»: عائلة فقمة الراهب تضمّ ثلاثة أنواع، الأوّل انقرض بالفعل وهو فقمة الراهب الكاريبيّة، والنوعان الثانيان شارفا على الانقراض، وهما فقمة هاواي الراهبة وفقمة الراهب المتوسّطية. والآن بالعودة إلى هذا الصالون، بات من الممكن لرولا أن تقول: «لي يدّ في انقراض نوع حيواني بأكمله، كي أستطيع التمتّع بهذا المنظر». 

نوع حيواني بأكمله يتمّ التضحية به من أجل نرجسية فرد. 

ما يحدث في عمشيت اليوم ليس مجرّد ورشة بناء فيها بعض الشوائب، وليس حملةً تضامنيةً مع حيوانٍ مهدّد بالانقراض. هو ملخّص عن منطقٍ يسود العلاقات في هذا البلد: علاقة العام بالخاص، علاقة المنفعة الفردية بالمصلحة المُشتركة، وعلاقة السلطة والمستفيدين منها بمَن تُمارَس عليهم هذه السلطة وعموم الناس والطبيعة والحيوانات والنباتات وما إلى هناك من ثروات لا تُقدّر بالمال ولا بالتفشيخ الاجتماعي.


الدولة المتقاعسة

الموضوع بدأ عندما قرّرت رولا بهنام أنَّ تملّكها عقارٍ خاصٍّ هو ضمانة كافية لتخريب كل ما في جواره، ووجدَت أنّ القانون لن يمنعها من ذلك، خاصّة مع تقاعس الدولة بالقيام بأدنى واجباتها. كما أنّها، بطبيعة الحال، وجدت الأزلام الجاهزين لتأدية هذه المهمّة.

  • الرخصة المشبوهة: «الدولة»، مثلاً، هي من أعطت الرخصة لمثل هذا المشروع من دون وجود دراسة أثر بيئي، علمًا أنّ العقار يحاذي الأملاك العامة البحرية ويتداخل مع مغارة فقمة الراهب المهدّدة بالانقراض عالميًا. ارتأى وزير البيئة آنذاك ناصر ياسين، لسببٍ مجهول، أن يمرّر المشروع، وانطلق التخريب.
    الكسل الإداري وقلّة الكفاءة: «الدولة» ذاتها لاحظت أنّ الورشة التي بدأت سنة 2021، توقّفت بعد حين، لوجود مخالفة جسيمة تتعلّق بالأثر البيئي. منذ أن توقّفت الورشة وحتّى اليوم، لم تتكبّد الوزارات المعنيّة عناء التدقيق بالرخص، ولا بالموقع، ولا الدفاع عن مصالح الدولة نفسها ومصالح ناسها.
  • قرار وقف الأعمال: «الدولة» ذاتها، وبعد أن صدر قرار وقف الأعمال، ما زالت تُماطل في تنفيذه. وزارة البيئة اعتبرت أنّ دورها انتهى مع إصدار بيان يطلب دراسة الأثر البيئي، ورمت الكرة إلى المدّعي العام التمييزي؛ والأخير رمى الكرة إلى وزارة الأشغال؛ وتلك ردّت له الكرة؛ ثم تعامى رئيس بلدية عمشيت عن كل هذه الكرات وكل ما يقع ضمن صلاحياته التي تتيح له إيقاف الورشة، وزار الموقع لتعبئة رصيده الاجتماعية واكتفى بـ«التشديد على احترام المعالم البيئية في البلد».
  • تجاهل المخطّط الشامل لترتيب الأراضي: ولكن أكثر من ذلك، وافق المجلس الأعلى للتنظيم المدني على ترخيص الورشة من دون دراسة وضعها ضمن المخطّط الشامل لترتيب الأراضي، وهذا ما يُبطل الترخيص لو حصل، إذ تجاهل المجلس «وبشكلٍ صارخ الدور الأساسي للأنظمة التوجيهية في حماية المصلحة العامة والبيئة».  «الخطيئة الأكبر تكمن في مخالفة المجلس الأعلى الصريحة للخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية الصادرة بمرسوم عام 2099، المرجع الأساسي للتخطيط في لبنان، والتي تُصنّف شاطئ عمشيت كشاطئ طبيعي ذي قيمة بيئية عالية ومناظر طبيعية يجب الحفاظ عليه». أكثر من ذلك، تقدّمت جمعية الأرض-لبنان بشكوى أمام مجلس شورى الدولة. أسقط المجلس هذه الدعوى شكلياً، بذريعة أنّ أصحاب الشكوى تجاوزوا مهلة الشهرين المفترضة لتقديم الشكوى (وهذا ما ينقضه المتشكّون). بالحالتَين، أُبطلَت شكواهم بالشكل — هل لمجلس الشورى أن يُجيب على المضمون؟
  • العهد الضائع: ثم ماذا عن وعود الرئاستَين؟ ألم يذكر جوزاف عون بند «الحفاظ على البيئة» في خطاب القسم؟ ألم يمضِ نوّاف سلام بالبند نفسه؟ ألا يرى الرئيسان الجريمة البيئية؟ (نتفادى ذكر الرئاسة الثالثة لأنّ البيئة في جنوب لبنان تشهد على التزامها منقطع النظير).

قانونياً، الأمور واضحة – لمَن لا يودّون الالتواء عليها أصلًا: الموقع مصنّف «منطقة حسّاسة بيئيًا»، ما يتطلّب بالضرورة دراسةً للأثر البيئي. لا تُمنح رخصة للورشة إلّا بعد استكمال الملفّ وتضمينه هذه الدراسة، وهذا ما لم تفعله السيدة بهنام. ينتهي الموضوع هنا. علاوةً على كل ذلك، أصدرت وزارة البيئة قرارها بوقف الأعمال، ويُفترض، بكل بساطة، أن تقف الأعمال. لكنّ رولا، وهي مهندسة معمارية لا بدّ أنّها وقعت يومًا ما على هذه القوانين، ومحاميها، يعرفان الدولة جيّدًا، وهذا ما حمّس صاحبة العقار على ارتكاب جريمتها البيئية والنوم هانئة البال.

تشكّل قضية مغارة الفقمة تكثيف لفشل الدولة على كافة مستوياتها، لتبدو غير قادرة على فرض أبسط الضوابط على قرار فرد واحد تدمير منطقة حسّاسة بيئيًا من أجل منزلٍ ذي إطلالة خلّابة. 


المصلحة العامة

هذه القضية ليست استثناءً.
يُفترض من الدولة وقوانينها تعريف المصلحة العامة والدفاع عنها في وجه الجشع والنرجسية الفردية. ومن أوضح الأمثلة لفشل الدولة في القيام بدورها، الشاطئ اللبناني والثروات الطبيعية التي تمّ التضحية فيها من أجل المنفعة الشخصية للبعض. ورغم الانهيارات الاقتصادية والكوارث الطبيعية وتدمير التراث، لا يبدو أنّ هناك حدود لهذه المنفعة التي باتت أقرب إلى حالة من النرجسية المَرضيّة، لا يردعها حتى إمكانية انقراض أنواع كاملة من الحيوانات. 

فبعض الأمور لا تحتاج قانونًا، خاصّة في ظل دولة متقاعسة إن لم تكن متواطئة. بعض الأمور تحتاج فقط إلى الحدّ الأدنى من البداهة والمنطق والمسؤولية. وهذا ما تفتقده الآنسة بهنام، وعموماً، هذا ما يفقده أي إنسان أمام الجشع والتفلّت. أمّا التفصيل الذي يفوت الآنسة بهنام، وإدارات الدولة المتواطئة معها، فهو التالي: أن يكون عندك ملكيّةً للعقار، لا يعني أنّك تملك حقّ التصرّف ضمن هذا العقار بلا ضوابط.

بهنام ليست وحيدة في هذا المجال، وقضية الفقمة ليست استثناءً. فقد سار على هذا الطريق التدميري الكثير من قبلها.

  • في الأسبوع ذاته، عادت قضية الإعلامية راغدة درغام التي نجحت في استكمال تعدياتها. ففيما قفزت بهنام عن دراسة الأثر البيئي وحاولت (حتّى الآن) المضيّ بورشةٍ «سليمة هندسياً»، فضّلت درغام أن ترتكب جملةً من المخالفات الفاقعة. أمس الأوّل الخميس، كشفت جمعيّة «نحن» عن دعوى قدّمتها بحقّ درغام، بعد أن ثبُتَ بتقريرٍ فنّي صادرٍ عن خبير محلّف، أنّ درغام تعدّت بالفعل على التراجع المطلوب، بالإضافة إلى المخالفات التي وثّقتها الجمعية من قبل.
  • وعلى بعد أمتار، يعود رمزي يزبك ليكرّر البناء المتعدّي على الأملاك العامة البحرية. ردَم البحر، وبنى منشأةً ومسبحًا، بموجب رخصة صادرة عن وزير الأشغال السابق علي حمية. الفاقع في هذه القضية ليس التعدّي فحسب، بل حقيقة أنّ جمعية «نحن» طلبت من وزارة الأشغال العامّة رخصة البناء لمراجعتها، منذ ثلاثة أشهر ونصف، من دون أن تتلقّى جوابًا حتّى اليوم، ما يعتبره القانون رفضًا صريحًا لتعاون الوزارة، ومخالفةً لحقّ الوصول إلى المعلومات؛ لأمر الذي يُعتبَر بدوره تهرّبًا من تحمّل الوزارة لمسؤوليتها، وتستّرًا على جريمة بيئية.
  • وعلى بعد كيلومترات، قرب محميّة صور الطبيعية، في منطقة الشواكير مشروع آخر يحاول قضم منطقة أخرى، حسّاسة بيئيًا، ومصنّفة «محميّةً طبيعيةً». المُخالف هذه المرّة؟ وزارة الدفاع اللبنانية.

هذه بعض الأمثلة الحديثة فقط. إن احتاج أحد إلى المزيد، مشوار على الطريق البحرية كفيل بإظهار كيف بات شاطئ لبنان مكوّنًا من منتجعات اسمنتية خاصّة ومنازل فاخرة ومكبّات للنفايات.  

في ظل تقاعس أو تواطؤ مؤسّسات الدولة وانعدام أي حس للمسؤولية عند الأفراد النرجسيين، باتت الفقمة رمزًا لمفهوم المصلحة العامة، كما باتت امتحانًا لنا كمجتمع عن الحدود التي يمكن أن نضعها أمام جنون الجشع الفردي.


لعنة الفقمة 

استمرّت الأعمال المخالفة في منطقة الشواكير فترةً من الزمن بعد صدور قرار قضائي بوقفها. ولكن بفضل الضغط من قبل الإعلام البديل، والصحافيّين الناشطين بالقضية مثل مهدي كريّم، والمجموعات الأهلية مثل «الجنوبيون الخضر»، تمكّن هذا التحالف غير الرسمي، من انتشال قرارٍ ثانٍ بوقف الأعمال، وأُوقفَت الأعمال بالفعل.

وقد تكرّر ظهور هذه التركيبة في كل القضايا المذكورة: جمعيات أهلية ومحلية وغير حكومية، وصحافة، وناشطون وخبراء… جهود «غير رسمية»، تتنظّم، تُنسّق، تضغط، وتلجأ أحيانًا إلى لغة التشهير باعتبارها السلاح الأخير لردع المخالفين والمتعدّين، وسط غيابٍ رسمي شبه تام، أو وسط تحرّك رسميّ لا يتحرّك إلّا بعد الضغط، ونادرًا ما يقود الحملة بذاته – مع أنّها حملة للدفاع عن مقوّمات البلد ككلّ.

بمواجهة هؤلاء، تعاود المافيا نفسها الظهور: تركيبة من إعلاميي بلاط، ومتعهّدي سلطة، وإدارات فاسدة، وطبقة نرجسية متسلّطة، تعتقد أن رفاهها الخاص أهم من الملك العام، وأفراد يعتقدون أن رفاهيّتهم أهم من حقوق الآخرين. فلم يجد محامي المتعهد حرجًا في الاعتداء على الناشطين البيئيبن ومحاولة مصادرة هاتفهم؛ والقيّمون على الورشة لم يجدوا حرجًا في تأنيب أحد الناشطين: «شو جابَك من بيروت لهون؟»، ثم الاعتداء على متظاهرة والتوعّد بـ«تكسير» هاتفها؛ أمّا مخفر الدرك فقد استدعى ناشطين حاولوا وقف الحفّارة بأجسادهم. 

التشهير هو سلاح الرأي العام، هو سلاح مجتمع يضطرّ إلى استعماله بعدما تقاعس القانون على حماية الحد الأدنى، وهو محاولة للحفاظ على ذاكرة ما، بعد طوفان النرجسية المدمرة. 

في مواجهة هذه الجريمة التي ستغيّر مجرىً طبيعيًا وتدمّر ثروات طبيعية، ليس لنا سلاحًا إلّا التشهير (القانوني، لمحبّي الاستدعاءات القضائية). تشهير يذكّر بأنّ هذا المنزل دفعت ثمنه مخلوقاتٌ كانت هنا قبلنا؛ وأنّ هذا المنتجع الذي تقصده قلّة، قد حرم الآلاف من بحرهم. لعنة الفقمة ستطاردكم.


في الختام، هذه القضايا تعبّر عمّا هو أبعد من القانون وسؤال العام والخاص. إنّها تفتح سؤال «القيمة». ما هي قيمة الأرض؟ قيمة البحر؟ قيمة مغارة فقمة؟ وما هي القيمة المسموح لفردٍ واحدٍ أن يستخرجها من قطعة أرض؟ وعلى حساب ماذا؟

أبعد من ذلك، ماذا يعني أن تحفر مغارة تطلّب تشكّلها ملايين السنوات؟ ماذا يعني أن تردم بحرًا؟ ماذا يعني أن تساهم في انقراض هذا النوع أو ذاك؟ ماذا يعني أن تحتكر منظرًا طبيعيًا؟

عدا عن كمّ النرجسية المَرضية الفاقعة الذي تحتويه، فإنّ هذه التصرّفات ليست من سمات البشر. عليك أن تملك قوى خارقةً للطبيعة، كي تُعيد تشكيل الطبيعة. ولا بدّ أنّ الآنف ذكرهم، قد شعروا أنّهم الله أو أكثر، لحظة تَسيَّدوا على الطبيعة.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
شكوى ضدّ مايكروسوفت بتهمة تخزين بيانات استخدمها الجيش الإسرائيلي
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي