قضية الأسبوع الحرب على لبنان
ميغافون ㅤ

سنة على الحرب المفتوحة

للخروج من «حصر السلاح» و«الاستراتيجية الدفاعية»

20 أيلول 2025

حربٌ فصلت بين عالمَين

تمرّ اليوم سنةٌ على أسبوعين كانا كفيلَين بتغيير مجرى الحرب، ومن خلفها موقع لبنان. تسلسل الأحداث بات معروفًا: البايجرز، ومن ثمّ الأجهزة اللاسلكية، ومن بعدها الاستهدافات التي طالت الهيكلية الأمنية لحزب الله، وأخيرًا، اغتيال الأمين العام حسن نصرالله، ثم خلفه هاشم صفي الدين. وبعد هذين الأسبوعين، لم يعد الأمر فعلاً «حرب إسناد»، وأخذت تتآكل «معادلة ردع». والنتيجة: آلاف الشهداء والجرحى وإعادة احتلال مناطق جنوبية وسيطرة مطلقة على الأجواء ودمار لا يُحصى واستمرار الاستهدافات رغم اتّفاق وقف إطلاق النار.

لكنّ الحرب، رعم نتائجها الأليمة داخليًا، كانت أوسع بكثير من حدودها اللبنانية. تبيّن أنّها محطة في حرب أكبر تخوضها إسرائيل لإعادة هيكلة المنطقة، بدءاً من الإبادة المستمرّة والمتصاعدة فلسطينيًا، مرورًا بإعادة احتلال لبنان وسوريا، والحروب على إيران واليمن، وصولًا إلى فرض مبدأ استهداف أي بلد عربي، حتى وإن كان تحت «حماية الخليج» أو حليفٍ للولايات المتّحدة. حرب أوسع باتت، خاصة بشقّها الإبادي، تغيّر معالم العالم بأكمله، وليس إلى الأحسن.

سنة على أسبوعين غيّرا لبنان، ومن حوله العالم، ومعهم، كامل المفاهيم السياسية التي سادت من قبلها. سنة تفصل بين عالمين، ما زلنا نستكشف طبيعة العالم الجديد، ومدى قدرته على الشرّ. 


دولة (ساقطة) في دولة (ساقطة)

سنة على أسبوعَين غيّرا السياسة في لبنان. سقط حزب الله من موقع المهيمن، وإن كان ما زال لاعبًا أساسيًا. سقط النظام السوري، وإن كانت ما زالت العلاقات مع الجار معقّدة. سقطت الهيمنة الإيرانية، وتمّ استبدالها بزيارات استعمارية أميركية. سقطت الممانعة، وصعد مكانها خطابٌ تطبيعيٌ خطير. وفي وسط كل هذه التحوّلات، موضوع السلاح، والذي بات اليوم مجمّداً بين قرارات جلستَي مجلس الوزراء كشبح يطفو فوق الساحة الداخلية. شكّل هذا الموضوع لسنوات نقطة الخلاف الأساسية في السياسة اللبنانية بين معسكرين، لم ينتبها أنّهما باتا خارج العالم الجديد، ينتميان إلى عالم بات فاقد الصلاحية، مثل شعار «الدولة في الدولة» الذي استُعمل لوصف هيمنة حزب الله على السياسة اللبنانية.  

فمن جهة، يحاول حزب الله «المتعافي» أن يكابر على الواقع، متمسّكًا بسلاح بات خارج المعادلة. ويضع أي نقاش للسلاح ضمن حوار عن «الاستراتيجية الدفاعية»، والذي شكّل في الماضي مرادفًا لسيطرته السياسية على البلاد. أمّا اليوم، فيعني تأجيل الموضوع إلى أجل غير مسمى. فقبل طرح موضوع «الاستراتيجية الدفاعية»، كان من المفيد من حزب الله، المنهمك بورشات إعادة التأهيل، أن يقدّم قراءة نقدية لنتائج الحرب وفشله في إدارتها، وربّما نقد ذاتي حيال «الاستراتيجية الدفاعية» السابقة، لإقناع الشريك المدعو إلى هذا الحوار بجديّة الطرح.

ومن جهة أخرى، من يريد «حصر السلاح» انطلاقًا من مبدأ «بناء الدولة من خلال استعادة سيادتها»، والذي بات عليه مواجهة حقيقة أن هذه السيادة لم تعد موجودة، سواء أكان على الأرض جنوبًا، أم في السماء على كامل الأراضي، أم فوق الحدود والمعابر، وبين زيارات المبعوثين الأميركيين وشروطهم التعجيزية. كما عليه مواجهة مخاوف العديد بالخطر الإسرائيلي في ظلّ حكومة إبادية وتوسّعية، لم تخفِ مطامعها اللبنانية. 

سنة على هذين الأسبوعين، ما زال الفريقان يعتقدان أنّه لا يزال بإمكانهما فرض منطقهم المنقوص على العالم، لينتهي الخلاف بينهما إلى حفلة ابتزاز تدار بين طرفين هامشين، تلعب في الوقت الضائع للسياسة.


من الجنوب ولبنان إلى جنوب لبنان

بين هذين الخيارين المتصارعَين، هناك خلاصة أخرى للحرب. خلاصة تتعدّى مخاوف الطرفين وخطابهما، لتجد في المجتمع منطلقها السياسي، وليس في دولة تبحث عن سيادتها أو في «استراتيجية دفاعية»، تحمي السلاح من أجل السلاح. وهذه الخلاصة هي مخاوف الجنوبيين. فمن أخطر آثار الحرب هو انشطار المجتمع وتعميق انقساماته، وقد تجلّى ذلك في فصل الجنوب عن باقي لبنان، أو الشيعة عن باقي الطوائف، أو«لبنان تحت العدوان» عن «لبنان إلى جانب العدوان». وهذا الانشطار المتزايد، يتحمّل مسؤوليته كافة الأفرقاء المتصارعين حول السلاح.

لبنان الرسمي والجنوب

تتقاسم الحكومات المتعاقبة ذنب إهمال توطيد علاقتها بأهل الجنوب. قبل مجزرة البايجرز وتوسيع إسرائيل للحرب في 23 أيلول الفائت، فشلت «خطّة الطوارئ» التي وضعتها حكومة نجيب ميقاتي في حماية أهالي الجنوب أو مساندتهم. لم تكن هناك خطّة إجلاء تحفظ كرامة المستهدفين، بل هجّر جيش الاحتلال الإسرائيلي أكثر من مليوني شخص حُوصروا على الطرقات أكثر من 12 ساعةً بعد ترك منازلهم. حتّى بعد وصول المهجّرين إلى المدارس التي فتحت أبوابها بمبادرات محلية، لم تؤمّن الدولة اللوازم الأساسيّة للعائلات التي خرجت بملابسها. فشلت الحكومة مجدداً بإدارة توريد السلع التي انقطعت مع توسّع الحرب، من حليب الأطفال إلى أدوية الأمراض المزمنة. ولم تضبط الحكومة بدل إيجارات البيوت التي ارتفعت إلى ضعف قيمتها الطبيعيّة، فضلاً عن امتناع استقبال العائلات النازحة من الجنوب في بعض «المناطق الآمنة»، بحججٍ طائفيّة ومناطقيّة.

تبنّت السلطة الجديدة، وليدة اتّفاق وقف إطلاق النار الذي لم تلتزم به إسرائيل للحظة، نفس سياسة الإنكار. سلّمت الحكومة الجديدة بالشروط الخارجية التي ربطت إعادة الإعمار بنزع السلاح، ما عزّز الشرخ بينها وبين أهالي الجنوب. إذا لم تستطع الحكومة فعلاً المباشرة بإعادة الإعمار لأسبابها السياسيّة، كان بإمكانها صياغة برامج تعويض للمتضرّرين من الحرب أو تأبين شعبيّ للشهداء المدنيّين على الأقل. كان يمكن للحكومة الجديدة أن تعامل أهالي الجنوب كمواطنين لبنانيّين، لكنّها فضّلت اتّخاذ مسافة تجاههم كي تصدّر صورة لبنان الآمن الجديد المزدهر المحايد منزوع السلاح، كي تجلب بالتالي الاستثمارات والأموال. لكنَّ الحقيقة هي أنَّ لبنان ليس آمناً إذا لم يكن جنوبه آمناً، لبنان ليس آمناً والمسيّرات الإسرائيلية تحوم يومياً فوق بلداته الجنوبية وتصطاد كلّ يوم ضحيّة من مواطنيه تحت ذريعة تصفية عناصر من حزب الله.

لبنان مستعّد للسلام، والجنوب للحرب

الحكومات جزء من خطاب سياسي وإعلامي أوسع فشلَ في اعتبار أو رفضَ اعتبار أن الحرب كانت على لبنان عموماً، فاعتبر أنّها تطال من هم أصلًا خارج الوطن ودوائر التعاطف والتضامن التابعة له. فقبل 17 أيلول، تمّ تأطير الحرب رسميّاً كـ«مناوشات» عسكريّة بين حزب الله وإسرائيل. كانت تلك الحرب التي لم يسمّها أحدٌ حرباً. وبقيت آلاف العائلات مهجّرة من الضيع الحدودية لأكثر من سنة. وعند استهداف حاملي أجهزة البايجرز، لم يطلب لبنان رسمياً المحاسبة على جريمة الحرب هذه التي أفقدت الآلاف عيونهم وأيديهم. وعندما انهمرت الصواريخ الإسرائيلية على منازل المدنيّين في الجنوب، كانت حرباً على «الجنوب» فقط، وليس على لبنان. ومع توسّع الاستهدافات التي طالت المدنيّين والعسكريّين والمهجّرين أينما كانوا، سُمّيت بحربٍ على «الشيعة». 

نجح المخطّط الإسرائيلي في تعميق الفصل بين الجنوب/ الشيعة/ المناطق العازلة من لبنان/ الإجماع الطائفي/ المناطق الآمنة، ما يمهّد إلى خلق خارطة جوار إسرائيل الذي تحلم بها حكومته المتشدّدة، أي بؤر مطبّعة من جهة و«مناطق عازلة» من جهة أخرى، تدار بالعنف والتطوير العقاري والتهجير السكّاني. وربّما من أكثر الدلالات على الانفصام الذي بات يسود علاقة «لبنان» بالـ«جنوب» كان تصريح رئيس الجمهورية الأخير، والذي لم يقرّ أنَّ «الاعتداءات» هي بالفعل حرب يوميّة بطيئة، بل أعلن، ومع اقتراب الذكرى السنويّة للحرب، أنّه جاهزٌ للسلام ضمن مبادرة السلام العربيّة، خلال قمّة الدوحة الطارئة. فكما في سوريا، هناك بلدٌ يُحتلّ جزء منه فيما يطالب الجزء الآخر بالسلام مع المُحتلّ نفسه، متجاهلًا أنّ هذا المعتدي لم يعد يريد سلاماً منذ زمنٍ طويل.

«البيئة الحاضنة» كتاريخ هذا الانشطار

لم يبدأ هذا الانشطار مع الحرب، وليس هو مجرّد نتاج مجتمع طائفي. بدأ مع قرار حزب الله في بداية الألفية عزل الجنوب والبقاع، أي المناطق الشيعية، عن أي إجماع قد يخترقهما. تمّ ابتكار مفهوم «البيئة الحاضنة» لتبرير تسكير الطائفة وضرب التنوّع فيها وقمع الاعتراض، حتى بات احتكار تمثيلها السياسي من المقدسّات الحزبية للثنائي الشيعي. طارد المعترضين، خونّهم كـ«شيعة السفارات»، منع الاعتراض الشعبي من الامتداد لأكثر المناطق حرمانًا في عام 2019، ووجد في تخوين «الآخر» مادّة لشدّ العصب الطائفي. 

ورغم هزيمته العسكرية، ما زال حزب الله يستثمر في هذا الشرخ، والذي قد يكون من آخر «أوراقه» السياسية. فساهم «الثنائي الشيعي»، الذي تحوّل «ثنائياً وطنياً» بعدما وجد نفسه محشوراً، بهذا الشرخ عبر وصم الحكومة بالعدو، غير مكترث بحقيقة أنّه مشارك بالحكومة وبصياغة خطابها. وتمسّك حزب الله بسرديّة النصر التي لن تنصاع لمحاولات السلطة الجديدة بانتزاعها. فضّل خطاب المعارك الكربلائيّة وتبليط البحر بدلاً من مراجعة علنيّة وصادقة أمام جمهوره للحرب التي ضعضعت قوّته العسكريّة والسياسيّة. فالمطلوب، بالنسبة للثنائي، إبقاء حالة العزلة والانقسام الداخلي، لكونه يقدّم مصدر دعم في لحظة الحرج هذه، كما يمنع التوتّر المتصاعد أي مراجعة فعلية لسلوكيات الحزب ووعوده. 

رغم الصراع المحتدم على الساحة السياسية، هناك مشترك بين الأطراف كافّة، وهو قبول حالة العزل والانقسام الداخلي، والتي تعفي كل الأطراف من البحث بجدّية بمسألة العقد الاجتماعي الذي يجمعنا. ويغذّي هذا الانقسام الحلول «النصفية» المقدّمة، والتي لا تجد تناسقها إلّا في تجاهل «الآخر» ومخاوفه.


عقد اجتماعي جديد، أو إعادة تسخين طبخة عفنة

سنة على أسبوعين غيّرا لبنان، ما زالت الساحة السياسية تخلو من أي مراجعة سياسية لما حصل، أولًا من طرف حزب الله وثانيًا من طرف خصومه الذين ما زالوا يردّدون خطابًا، لا يصلح إلّا من خلال تجاهل واقع اللا-سيادة وخطر إسرائيل والانقسام الداخلي. لكن ليس الجميع في حالة تخبّط، فهناك صعود لخطاب سياسي، كان خافتًا بالماضي، يرى في إعادة إحياء فكرة «السلام» اليوم مدخلًا لإعادة رسم معالم السياسة الداخلية. وهو خطاب يرى في نتائج الحرب تأكيدًا لمسيرة سياسية لا ترى كمصدر لمشاكل لبنان إلّا «الدخيل»، فتضع هزيمة حزب الله في سياق اتّفاق القاهرة ومن ثمّ هزيمة منظّمة التحرير الفلسطينينة، وفي سياق اتّفاق الطائف ومن ثمّ خروج الجيش السوري وسقوط النظام البعثي، أي في سياق تأكيد رواية طرف في الحرب الأهلية، كان قد راجع بعض مواقفه، قبل أن ينقلب على هذه المراجعات في لحظة نشوته هذه.

في مواجهة حزب الله وركام مشروع هيمنته، وفي مواجهة خصومه وبذور مشروع جديد للهيمنة، لا بد من التمسّك بمقاربة تبدأ من ضرورة عقد اجتماعي جديد، يخترق الاحتكارات الحزبية، ويرفض حالات العزل والتخوين، ويواجه كافة مشاريع الهيمنة. عقد اجتماعي يشكّل مصدر شرعية أي مشروع سياسي وحكومة إصلاح، ويقدّم السياق الداخلي للبحث بمسألة السلاح. خارج هذا العقد الاجتماعي، والذي يعارضه حزب الله وخصومه، خلاصة الحرب لن تكون انتصارًا لأي طرف أو هزيمة لأي مشروع، بل ستكون مجرّد انشطار أوسع وتفتت أعمق.

سنة على هذين الأسبوعين، ربّما علينا أولًا قبول فكرة أن هناك حربًا طالتنا جميعًا، وأنّنا خسرنا جميعًا.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً