مراجعة سينما
سيرين ساقي

فيلم «فتنة في الحاجبَيْن»

لحظة اقتران الجمال بالرعب

8 أيلول 2025

يُعَدّ لبنان منذ سنوات واجهةً للسياحة التجميلية في المنطقة، حيث تتكاثر فيه عمليات التجميل، خصوصاً مع بروز ظاهرة قروض التجميل التي كانت تمنحها المصارف اللبنانية قبل الانهيار المالي. وعلى الرغم من الأزمة، شهد لبنان في الآونة الأخيرة انتشاراً واسعاً لمراكز وصالونات التجميل غير المرخص لها، ما يؤكد استمرار سطوة فكرة الجمال التي تجسدها تلك العمليات والإجراءات. اتخذت إجراءات التجميل في لبنان حيزاً غير مسبوق يستحق أن ننظر اليه عن كثب، بصفته علامة بارزة من علامات التطبيع مع جماليات ما بعد الحداثة.

الملصق الرسمي لفيلم «فتنة في الحاجبين» (2024) للمخرج عمر مسمار، بإذن من الفنان.

وهذا ما فعله الفنان التشكيلي عمر مسمار عندما تيقّن من فرادة النموذج التجميلي اللبناني، فخصّص له فيلمه الطويل الأوّل «فتنة في الحاجبين»، الحائز على جائزة المساهمة الفنيّة المتميّزة في مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية (IDFA). غير أنّه لم يكتفِ بمعالجة هذا الموضوع بطريقة تقليدية، بل أدخلنا إلى حرم صالون تجميل بيروتي، مثبّتاً كاميراه عند تقاطع الرعب والألم على الوجوه المحقونة، وذلك على خلفية الحرب الوشيكة في لبنان عام 2023، حيث تزاوج الرعب التجميلي مع الرعب الحربي وسط تفشي جماليات متناسخة على نحوٍ يبعث على القلق في أفضل الأحوال. 


الوجه

نانا (آنا كارينا) تبكي في فيلم «لتعيش حياتها» عند رؤية معاناة جان دارك (رينيه جان فالكونتي) على الشاشة في فيلم «آلام جان دارك».

في مقاربةٍ دقيقة، شبيهة بنظرة الجرّاح، يحدّق مسمار في جماليات هذه الوجوه، مولياً أهمية متزايدة لملامح الرعب التي بانت عليها تحت وطأة الألم. فمن ناحية التصوير، ارتكز المخرج في فيلمه الوثائقي على سلسلة من الصور/ الانفعال العاطفي (image-affection)، وفقًا لتعريف الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز في «سينما الصورة الحركة»: إن الصورة/ الانفعال العاطفي هي الصورة المضخّمة، والصورة المضخّمة هي الوجه، واضعاً الزبائن الذين يتوافدون على سرير بوبا، خبيرة التجميل، تحت مجهر كاميراه. فجُلّ ما نرى من بوبا هو أناملها التي تُحدث «الشلل المرغوب» على وجوه مضخّمة على الشاشة، غيّر الألم معالمها. 

يعتبر دولوز أنّ وظيفة الصور/ الانفعال العاطفي هي انتشال الصور من إطارها الزماني والمكاني بغية إبراز الانفعال العاطفي في أنقى حلله، بل يذهب أبعد من ذلك ليُنشئ ارتباطاً صريحاً بين الصور/ الانفعال العاطفي والرعب (la terreur)، بحيث يقول في إحدى محاضراته إنّ أفلام الرعب تتميّز بنسبة عالية من الصور/ الانفعال العاطفي.

وواقع الأمر أنّ الزبائن يبدون وكأنّهم بكّاءات تحت وقع حقن الفيلر والبوتوكس التي تنهال عليهم بلا هداوة، بحيث يُعيدنا المشهد تارةً إلى وجه آنا كارينا الدامع في فيلم «لتعيش حياتها» (Vivre sa vie, 1962) للمخرج جان لوك غودار، وطوراً إلى وجه رينيه جان فالكونتي المفجوع في الفيلم الفرنسي الصامت «آلام جان دارك» (La Passion de Jeanne d'Arc, 1928) للمخرج كارل تيودور دراير أو «الفيلم الانفعالي العاطفي بامتياز» كما يحلو لدولوز أن يسمّيه. ليس من الغريب عندئذٍ أن تقول إحدى الزبونات ممازحةً إن الفيلم سيكون أشبه بفيلم رعب كلما دنا مسمار من مواضيع دراسته. أمّا بوبا، من جهتها، فلا تكتفي بمديح قدرة زبائنها على تحمّل الألم حرصاً منها على سعادتهم، بل تنعت دموعهم بدموع التماسيح إن لزم الأمر، تحت شعار اللي بدو يتجمّل بدو يتحمّل، علّهم يعتادون الألم كما اعتادوا الصدمات السياسية. فيستوقفنا في هذا الإطار، ما تتفوّه به إحدى الزبونات عن عمل بوبا الذي لا يقتصر على المظهر الخارجي وحسب، بل يشمل أيضاً النفس البشرية على حدّ قولها، معتبرةً أنّ إجراءات بوبا التجميلية تحفّز نفسية عملائها ما يجعلهم يخرجون سعداء من صالونها حتى لو حقنتْهم بالماء والملح.  


الحرب

لقطة من فيلم «فتنة في الحاجبين» (2024) للمخرج عمر مسمار، بإذن من الفنان.

يتخطى الرعب في «فتنة في الحاجبين» الوجوه المكبّرة داخل الصالون، إذ نستشفّه أيضاً في ضبابية المشهد السياسي خارج نطاق الصالون. يقترن رعب الوجوه المحقونة الدامية بالرعب الاستباقي الناجم عن الحرب التي كانت تلوح في الأفق اللبناني بُعَيد أكتوبر 2023. غير أننا نلمس في أسلوب المخرج البصري تقبّلاً غير مشروط لهذه الوجوه، إن كانت في ذروة الرعب أم في ذروة الغبطة إثر هذه الإجراءات، ما يجعل الزبائن يكسرون «الجدار الرابع» بكلّ سلاسة، فتتشعّب الأحاديث الداخلية على مرأى ومسمع منّا. وتنال الحرب حصة الأسد فيها. فالحروب والصدمات المتتالية ضارة نافعة لبوبا بحيث أنّها تعزز انطواء الأفراد على ذواتهم بقدر ما تعزز نزعاتهم النرجسيّة. وغالباً ما يغدو الانشغال المفرط بالنفس، أي ما يقع ضمن سيطرتنا، آلية الدفاع الأولى في وجه الفظاعة. لكن بوبا لا تنكسر أبداً أمام تلك الفظاعة، بل تجني ثمارها. بالحرب بيقشط وجّنا أكتر، على حدّ تعبيرها. فبالنسبة لكثيرين، يكون الهروب من الحرب إلى إجراءات «الشلل المرغوب» ليفضي، لا محالة، إلى تبلّد عاطفي غير مرغوب.

والأدهى في تلك الوجوه بلا تعابير هو أنّها تخرج تدريجياً عن نطاق الإحساس البشري. نقرأ في إحدى الستوريهات المعروضة على الشاشة تبعات عدم القدرة على العبوس والتكشير، ومنها أنّ الشعور نفسه سيتحوّل، سيبرد ويخفّ، ومع الوقت، يمكن أن يختفي. وإن لم يلقَ هذا الشعور أيّ انعكاس في وجوه الآخرين، سيتبدّل الإحساس لوحده حتى يتوقّف. فما الشعور في ظل اختفاء الوجه الطبيعي؟ هنا يعيدنا مسمار إلى «فرضيّة التغذية الراجعة الوجهيّة» (The facial feedback hypothesis) في علم النفس التي اقترحها تشارلز داروين، ومفادها أنّ تعابير الوجه لها تأثير مباشر على مشاعرنا بحيث أنّ التعبير عن المشاعر يؤججها، فيما الكبت يقتلها في مهدها. بكلام آخر، إن عدم القدرة على التعبير بواسطة الوجه، بسبب حقن النضارة، تؤدّي في نهاية المطاف إلى تخدير عاطفي. وحتى وان لم نقم بأي اجراءات تجميلية، فإنّ التعبير عن مشاعرنا أمام أشخاص خضعوا لها قد يُحدث ارتدادات وخيمة على طبيعة مشاعرنا.

عندما يتسلّل سؤال المرحلة (في حرب؟) إلى سرير بوبا الذي ليس بسرير مستشفى ولا بسرير علاج نفسي، يأتي الجواب سلبياً، على الرغم من أن الحرب وشيكة. يبدو وكأنّ خشيتها الوحيدة هي ألاّ تخسر زبائنها في حال اندلاع الحرب. تسأل بوبا عابري سريرها بشيء من القلق: إذا علقت الحرب رح تضلكن تجوا لعندي؟، مؤكدةً أنها لن تغلق أبوابها مهما حصل، فيأتيها الجواب الشافي: الحرب ما بتهمني قدّ ما بهمني إجي لعندك. كيف لا وقد كان عملها في أَوْجه خلال حرب تموز نظراً إلى حركة النزوح التي شهدتها بيروت. والأمر سيّان في أعقاب انفجار 4 آب، حيث نوّهت أنها أجرت إبانها عدداً هائلاً من حقن البلازما لمعالجة الهالات السوداء. نستخلص عندها أنّ لكلّ حالٍ رجالاً، ولكل حدثٍ أمنيٍّ اجراءاته التجميلية الخاصة.


الجريمة الكاملة

لقطة من فيلم «فتنة في الحاجبين» (2024) للمخرج عمر مسمار، بإذن من الفنان.

في الحرب أو في السلم، تطلب بوبا من عابري سريرها أن يبتسموا تارةً ويعبسوا طوراً كي تأتي بضربة موجعة على ملامحهم أو ما تبقى منها. وإن كانت السبل اصطناعية وزهيدة الكلفة، فالنتيجة ستكون حتماً طبيعية وواقعية، بموجب الاتفاق الشرفيّ بين خبراء التجميل وعملائهم. 

لا بدّ أن نستذكر هنا نظرية الواقع المفرط أو «ما فوق الواقع» (Hyperreality) وفقاً لبودريار، التي تشير إلى حالة يتداخل فيها الواقع والمصطنع إلى درجة يصعب، بل يتعذّر التمييز بينهما. وتصبح عندها محاكاة الواقع أكثر واقعية من الواقع بحد ذاته، وان كانت بالفعل لا تمت للواقع بصلة، لذلك يخلص بودريار إلى أن الواقع المفرط يضاهي «اغتيال الواقع». ويرى في كتابه «الجريمة الكاملة» أنّ تصفية الآخر تنطوي على غيريّة altérité اصطناعية تتمثّل بجراحة تجميلية جذرية، حيث أن تجميل الوجه والجسد ليس إلاّ عرضاً. ولا تكتمل الجريمة إلاّ بزوال آثار تدمير الآخر. على نحوٍ مماثل، يُخيّل لنا أن الواقع المفرط في حقبة ما بعد الحداثة يؤدّي إلى اغتيال الوجه الطبيعي وقدرته على التعبير. فلا تكمن الجريمة في تدمير الوجه الطبيعي، بل في تدمير آثار تدميره. فنجد أنفسنا محاطين بأوجه مثالية خالية من أي لمحة قدر أو سلبية تبتسم ابتسامة الميت في دار الجنازة.
ويستكمل بودريار تحذيره عن مخاطر الوجه المثالي قائلاً نحن في خضمّ هوس جراحي يرمي إلى ازالة الملامح السلبية من الأشياء وإعادة تشكيلها على نحو مثالي من خلال عملية توليف. ذلك أن في الجراحة التجميلية، يتعيّن إصلاح صدفة الوجه، في جماله كما في قبحه، كذلك وعلاماته الفارقة وملامحه السلبية لنصل إلى شيء أجمل من الجمال نفسه، أي وجه مثالي أو وجه جراحي. جان بودريار (1990)، La transparence du mal: Essai sur les phénomènes extrêmes (شفافية الشرّ)، Galilée.

قد يكون زخم التجميل معركة معلنة في وجه «القبح» والتقدّم في السنّ، لكنه من الملحّ أن نقرّ بأنه معركة ضد الطبيعة بأسمى تجلياتها. ومَن يحارب طبيعته لا يعرف الراحة بل يبقى عالقاً في دوامة تجميلية ليس لها نهاية. في هذه الدوامة، يتم إنتاج الوجه وإعادة إنتاجه على غرار السلع التي يتم إنتاجها وتحديثها والتسويق لها لتلبية مقتضيات السوق. وهذا الهوس الإنتاجي نفسه هو ما يدفعنا إلى إنتاج السلع كما وجوه بشرية أشبه بسلع جامدة، تتحلى بقيمة جمالية يمكن الحصول عليها مقابل حفنة من المال. 

مسمار لا ينظر إلى التبعات المستقبلية بقدر ما يحدّق بحاضر هذه الوجوه على ما هي عليه في هذه اللحظة، هذه الوجوه التي، وإن تشابهت حتى الغثيان، تستمدّ سعادتها وربّما ثقتها بنفسها- في ظل الحروب المتتالية- من تلك الحقن المشبوهة. وهذا ما يجعل «فتنة في الحاجبين» دعوةً للتحديق في ما تحمله هذه الوجوه واستشرافِ ما تخفيه من ماضٍ وصدماتٍ وضغطٍ اجتماعي وريبةٍ في عالمٍ يكره أي شكل من أشكال التعبير عن المشاعر. وكأنّ هذا العالم يسير يوماً بعد يوم نحو إضفاء طابع روبوتي على الوجوه الطبيعية لجعلها خالية من الشوائب وملامح الغيريّة في إطار عملية تنميط ما بعد إنسانية (transhuman) واسعة النطاق، تكون هي الجريمة الكاملة التي تلغي الآخر تحت حجة تحسين مظهره.

يُعرَض فيلم «فتنة في الحاجبين» يوم الخميس المقبل، ضمن مهرجان «شاشات الواقع» في سينما متروبوليس.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً