نظرة طوفان الأقصى
سمير سكيني

نظراتٌ إضافيّة على مجزرة جباليا

عن واجب التحديق بالفجوة

9 تشرين الثاني 2023
لا أكتب عن المجزرة. لا يُكتَب عن المجزرة. لم أحاول حتّى، فالكلامُ سخيفٌ، واللغة أضيَق من المجزرة.
ربّما أكتب عمّن عاشوا المجزرة— أعجز عن الكتابة عنهم بوصفهم عاشوها، فأختار أن أفعل ذلك بوصفهم شاهدوها. كما أكتب عنّا، مَن شاهدناها بالواسطة. وعند هذا الحدّ، بالضدّ النَص الأوّل، لا أكتب عَن أولَئك الذين لمّا رأوا المجزرة أشاحوا بصرهم عنها.

نظرة أولى

30 تشرين الأوّل 2023، إسرائيل تقصف مخيّم جباليا بـ6 قذائف أميركية الصُنع، قيل إنّ زنة الواحدة منها طنّ.
أكثر من 400 فلسطينيّ بين شهيد وجريح ومجهول المصير تحت الأنقاض.

انتشرت 3 صور للمجزرة. تتوسّطها فجوة الانفجار، بصرف النظر عن توزّع الناس. نظرتي لم تقع عليهم، بل على الفجوة. «ما ربُّ هذه القذيفة؟». وأخذتُ أحدّق بالفجوة. بهذا القَلب لترتيب المواضيع داخل الصورة— توسيط الفجوة وتطريف الناس— يُضاف إلى هؤلاء بُعدٌ ثانٍ: الأوّل، أنّهم عاشوا المجزرة ونجَوا منها؛ الثاني أنّهم يُشاهدون. يحدّقون بالفجوة تحديداً.

ثم انتشر الفيديو الذي، بدوره، ينطلق من الفجوة ثم يأتي على شهادات الناس— بعكس فيديوهات المجازر الأخرى. يَطغى حضورها البصري عليهم: سكون الفجوة المُهَيمن على حركة الناس.


نظرة 2

في اليوم التالي تُكرّر إسرائيل قصف المنطقة نفسها، بمنطقٍ مماثل. أيضاً في اليوم الثالث. تتوالى الفيديوهات.

«دمار واسع واسع لو بدّي لفّ الكاميرا بجوّالي مش رح تجيب المشهد»؛ يقولها رجل يلفّ جوّاله، محاولاً أن يرينا ما يراه. أُتابع مشاهدة الفيديوهات، صحافي يتّكئ على الأنقاض بوجهٍ مُغَبَّرٍ مُنهَك: «قسماً بالله يا جماعة. واللهِ واللهِ. الّي صار الآن بمخيّم جباليا [يتلعثم، يشيح بيده أمام الكاميرا بإشارةٍ للعجز] مش قادر أوصفه [يصمت] مش قادر [يصمت] انتو أوصفوه لحالكم انتو وشايفين هاد الصورة [يقلب الكاميرا، يركّزها على الفجوة]». يريدنا أن نحدّق بها.

نحن إذاً (نحن = من نتفرّج على الفجوة عبر الشاشة، ومن يتفرّجون عليها بالمباشر) نحدّق بالموضوع نفسه: الفجوة؛ ومع ذلك لا نرى المشهد نفسه. كلٌّ منّا يرى مشهداً مختلفاً. هذه الفوارق بين الواقع وصورته. ثمّة درجة من الفظاعة العصيّة على النقل بواسطة الفيديو. كما ثمّة درجة من «الحضور» التي لا يمكن أن نشعر بها من خلف الشاشة.

الصحافي أنس الشريف

نظرة 3

بالحالتَين، خلف الشاشة أو أمامها، لا يمكن تجاهل الفجوة. هي تحتلّ حيّزاً مكانياً. تؤثّر على حركة الناس. نشاهد الناجين والمُغيثين، «ينزلون» أو «يصعدون»، «يتسلّقون» الفجوة، «يستندون» إلى حوافها، لها «سفح» و«قعر» و«مساحة» وكل الخصائص المكانية، مع أنّها بالأساس مَحوٌ للمكان.

الفجوة كمكانٍ سالبٍ، طارئٍ، تطلّب إحداثه أعشاراً من الثانية، فيما استغرق بناء المكان الأوّل عقوداً من الزمن. بهذا المعنى، الفجوة كمكان تعبّر أيضاً عن الوقت. يَختَزن المكانُ علاقاتٍ زمنيةً، تختزنُ بدورها علاقاتٍ اجتماعية: أيّهما الطرف الحاضر بالمكان أصلاً، وأيّهما الطرف الطارئ على المكان. الفجوةُ التي تلَت منزلاً، تُدلّل على صاحب المنزل ومدمّره، تُحدّد المُستعمَر والمُستعمِر. حدّقوا بالفجوة إذاً.


نظرة 4

أكمل تتبّع الفيديوهات. خفتت حركة الناس، مرّت دقائق وربّما ساعات، لكنّهم ما زالوا هنا. توزّعوا على مُحيط الفجوة، وأخذوا يحدّقون بها.

في نصٍّ عنوانه «الظرف المكاني (غير) الإنساني»، تتطرّق الكاتبة الإسرائيلية أريلّا أزولاي إلى هذه المسألة، إلى فعلِ تجمهر الفلسطينيّين حول الفجوة التي يخلّفها القصف الجوي الإسرائيلي:

المُتفرّجون الواقفون على حافّة الفجوة السحيقة، يحدّقون بنقاط الدمار المحورية [...]. العنف البشريّ المَحض الذي مُورِسَ هنا، والذي ابتلع المبنى دون أن يترك منه أثراً، يجذب هذا الجمهور الذي، مدهوشاً، لا يترك العنفَ يختفي، بل يتمسّك به، كيقظةٍ للذاكرة: فالمتفرّج ليس بمنأى عن العنف الذي قد يعاود الظهور بأي لحظة، ويفاجئه.

المتفرّجون الواقفون مع بعضهم بعضاً حول الفجوة، يُكَوّنون أحد أشكال التجمهر العام في مكان عام، أحد أشكال التجمهر القليلة التي يسمح بها الاحتلال، بل أكثر: التي يُبادر إليها الاحتلال ويغذّيها بالمشهد اللازم. Ariella Azoulay, ‘The (In)human Spatial Condition: An Essay’ (p.15), featured in The Visual Culture Reader, edited by Nicholas Mirzoff, by Routledge (2013)


نظرة 5

المفارقة هي التالية:
باللحظة نفسها التي يسعى فيها الاحتلال إلى تفرقة الناس، يجمعهم.


نظرة 6

في المشهد هذا، لا نرى إلّا الفلسطينيّين ومصيرهم. لا نرى الفاعل. قليلاً ما نرى الطائرة التي تلقي القذيفة، نادراً ما نرى القذيفة. لكن عند التحديق بالفجوة، بما هو موجود، نحدّق أيضاً بما ليس موجوداً. نحدّق بالاحتلال الذي يُريدنا أن نرى العنف بلا رؤية المرتكب. يدمّر الاحتلال قدر الإمكان المدينة من الجَوّ، من بعيد، ويؤجّل التدمير عن قُرب. يحرص على حذف الفاعل، بل يحاول تقديم المجزرة على أنّها وقعت من تلقاء نفسها.

انظروا إلى الحملة التي تلت «مجزرة المعمداني».
انظروا إلى سلطات الاحتلال لمّا تطلب من الفلسطينيين أن يهدموا منازلهم بأيديهم، بغياب أي ممثّل عن الاحتلال: تقنياً، يمكن القول إنّ الاحتلال «لم يهدم» المنزل.
أو مثلاً، انظروا إلى عناوين الصحف إذ تقول إنّ الفلسطينيّين «قُتِلوا»، سبحان الله، من دون أن يقتلهم أحد. أو أنّ ما حصل في جباليا «انفجار»، وليس قصفاً، لا سمح الله.

يحرص هذا المنطق على الإشارة إلى فعل العنف، إنّما يجهّل فاعل العنف، ينفيه إلى هامش الخبر وخارج دائرة الحديث. يمكن حجب العنف عن الفعل حسب طريقة وصفه، كما تشرح الكاتبة سارة أحمد. إنّما المفارقة هي التالية: ليس أنّنا لا نرى العنف بسبب حجبه، بل يُحجَب العنف تحديداً لأنّنا نراه. لأنّنا نحدّق بالفجوة.
من هذه الزاوية، تنقلب حيلة «تجهيل الفاعل» في عناوين الصحف على الفاعل نفسه.


نظرة 7

أكرّر مشاهدة الفيديوهات. أكبّر حجم الصور، بمحاولةٍ لفهم حجم الدمار. أُرجّح أنّه كان يمكن القضاء على نفس المساحة (ونفس العدد من الفلسطينيّين) بواسطة قنابل أصغر. لكن الاحتلال اختار هذا السلاح بالتحديد، الذي يخلّف مثل هذه الفجوة بالتحديد.

مثل هذه الفجوة تُعيد التأكيد على قدرة الاحتلال، على أنّه «قادر»— إلى مثل هذا الحدّ كلّه— على التحكّم بالمكان. والتحكّم بالمكان يُحيل عادةً إلى الهَيمنة. مثل أن يقول الاحتلال: أنا من يسمح لكم بتمرير هذا القدر من الإسمنت إلى داخل القطاع، وأنا من يضع لكم قوانين البناء، وأنا، بنهاية المطاف، من يدمّر ما بنيتموه.

لعقود، اعتقد الاحتلال أنّ تحكّمه المطلق بالعمران الفلسطيني يعكس هيمنته السياسية على الفلسطينيّين. إلى أن أُنشِئ «مترو غزّة».

من هذه الزاوية بالتحديد، يمكن فهم كل هذا الغيظ الإسرائيلي تجاه أنفاق حماس: بوصفها مساحة يعجز الاحتلال عن التحكّم بها، عن «احتلالها»، بعكس ما هو فوق الأرض. لا سيادة لإسرائيل على النَفَق. بل أكثر: أنفاق حماس ليست خارج سيطرة الاحتلال فحسب، بل هي المساحة عينها التي تُوظَّف في زعزعة سيطرة الاحتلال على الأماكن الأخرى، فوق الأرض.

* أورد هذه الملاحظة لأن القوّات الإسرائيلية تذرّعت بأنّها استخدمت هذا النوع من «القذائف الزلزالية» للوصول إلى أنفاق حماس، زاعمةً أنّها أسفل المساحة المُستهدَفة.


نظرة 8

أنتبه أنّنا نشاهد المجزرة على ضوء. في الأيّام الأخيرة كان القصف المكثّف ليلاً فقط. لو أراد، كان يمكن للاحتلال أن يقصف المخيّمَ ليلاً. مستشفى المعمداني استُهدفَ ليلاً. بالظلام. كنّا نرى ما تيسّرت إضاءته بالكاميرات والحرائق. لكن في جباليا، يريدنا الاحتلال أن نرى المشهد كاملاً. أن نرى الفجوة. أن يقول إنّه لا يخجل بهذا المشهد. نفس المجزرة ليلاً كانت ستولّد صوراً مختلفة. صورٌ خالية من الإشارات المكانية، وتقتصر على الناس والأشلاء.

في هذا السياق، الإشارة إلى مسح المكان كانت أهم من الإشارة إلى مسح الناس، وذلك بخلاف المجازر السابقة. في المعمداني، ربّما «تردّد» الاحتلال قليلاً لقصفه المستشفى، كمكان، لكنّ تردّده تبدّد ما إن «نجح» بقتل 400 فلسطيني ضربةً واحدة.


نظرة 9

انتهى النقل المُباشَر. يومان بعد المجزرة: انتشرت صورةٌ لمخيّم جباليا من فوق، من الجَو: قبل وبعد.

باللحظة الأولى: أرى الفجوة، واضحة من فوق. بل هي عدّة فجوات، كأنّنا على سطح عُطارد؛

باللحظة الثانية: أحاول المقارنة بين الصورتَين وأجد صعوبة بالغة. لا أستهدي على معالم مُشتركة بين الصورَتين. كل هذا التشويه. تخريب الأمكنة. قتل المدينة. إبادتها. قبل أيّام، كان استوديو أشغال عامة قد نشر تعريفاً للمُصطَلح:

ما يحصل هو #قتل_للمدينة. تعود جذور مصطلح Urbicide إلى الكلمة اللاتينية urbs التي تعني المدينة وoccido التي تعني الإبادة. وهو بالتالي القتل المتعمّد للمدينة، مع سابق إصرار وترصّد، ويشمل التدمير المنهجي والمتعمّد والعنف المنظّم ضد البيئات الحضرية. ويلعب «قتل المدينة» دوراً أساسياً في الحرب، إذ يكوّن جزءاً من تدمير الذاكرة الجماعية والمكان المُعاش والانتماء، بالإضافة إلى القتل المباشر للناس.

والفجوةُ أثر الإبادة، حدّقوا بالفجوة.

 eye.on.palestine

نظرة أخيرة

والآن ماذا يحدث، بعد الفجوة؟
لا شيء على وجه التحديد. لكن المُفارقة هي التالية: محوُ المكان الموجود أصلاً، هو خلقٌ مُحتَمل لمكانٍ جديد.

هل هذا يعني أنّه كان من الضروري أن تُقصَف الحارة كي نبني حارةً جديدة؟ لا. ولا أدعو إلى «استخراج الإيجابي من الأزمة» والتفكير بجانبٍ مُشرقٍ ما. لا جانب مشرقاً للمجزرة. لكنّي أورد هذه المفارقة لإيماني البسيط بأنّ غزة سوف ترمّم أماكنها، بالفعل. وبأنّ لهذه الأمكنة حضوراً أوسع من حضورها الملموس، فالمتحلّقون حول الفجوة لا يشاهدون الأنقاض فقط، بل الحياة التي كانت هنا، والتي سوف تعود إلى هنا. أورد هذه المفارقة، إذاً، لإيماني البسيط بأنّ محو الذاكرة لا يمحوها، بل يُضيف عليها فصلاً، فصلاً عنيفاً بالتأكيد. لكن بلى، ثمّة ضوءٌ في آخر النفق— حرفياً. وبلى، غزّة تصنع دوماً من المكان المُحتَمَل مكاناً أكيداً.

 

آخر الأخبار

الأونروا في لبنان
28-04-2024
تقرير
الأونروا في لبنان
سندُ الفلسطينيّين والشاهد على نكبتهم
تحليل

الجزائر والإمارات

أشرف نور الدين
قطاع الاتّصالات بلبنان: بحثاً عن إشارة
27-04-2024
تقرير
قطاع الاتّصالات بلبنان: بحثاً عن إشارة
قضية الأسبوع

200 يوم على الحرب في الجنوب

ميغافون ㅤ
حدث اليوم - فلسطين الجمعة 26 نيسان 2024 
«لم نعد نعرف عنه شيئاً»