تحليل فلسطين
سامر فرنجية

هل هناك «ما بعد التجويع»؟

30 تموز 2025

البحث المستميت عن الما بعد

منذ بداية حرب الإبادة، ونحن نبحث عن «ما بعد» لهذا الكابوس. ومع كل مرحلة  جديدة من الوحشية الإسرائيلية، وآخرها التجويع، نعتقد أنّنا وصلنا إلى الحد الأقصى من الشرّ، إلى هذا الحد الأقصى الذي ليس من بعده طريق ممكن إلّا الخروج من كابوس القتل. نعتقد أنّنا وصلنا إلى الحد الأقصى، أو نريد أن نصدّق أنّنا وصلنا إلى هذا الحدّ، وأنّ هناك حدوداً ما قد تمنع ماكينة القتل من الاستمرار أكثر. فنتمسّك بالوحشية المستجدّة وكأنّها المرحلة الأخيرة، ليس من بعدها ما يمكن أن يكون أسوأ. لا بدّ من «ما بعد»، ميزته الوحيدة أنّه يأتي بعد كل هذا. لكن لا «بعد» يبدو في الأفق، بل مجرّد تكثيف وتعميق لتقنيات القتل. والمزيد منها.


المجاعة القادمة من الماضي

عندما نفكّر بالمجاعة، هناك صورة تعود وكأنّها حقيقة المجاعات، صورة طفل منهك من الجوع في السودان، وإلى جانبه نسر ينتظره ليلفظ أنفاسه الأخيرة. إلتقطت الصورة في بداية التسعينات، في واحدة من آخر المجاعات التي شهدها العالم. هكذا نحبّ أن نفكر عن المجاعات، وكأنّها تنتمي إلى زمن ولى، كانت فيه الموارد تنقطع لأسباب طبيعية، تاركة جماعات من دون أي إمكانية للوصول إلى مصادر الغذاء. انتهت هذه «المجاعات» في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات، حتى بدا أن «الإبادة» و«المجاعة» هما من ميزات ماضٍ بعيد، كان للشرّ فيه مكان في عالمنا. لكن كما علينا تحرير فكرة الإبادة من صور معسكرات الموت النازية، علينا تحرير المجاعة من هذه الصورة، أي صورة المجاعة كنتاج لعدم توازن بين الموارد والسكّان. المجاعات، كما درسها عديدون، وربّما كان أشهرهم الاقتصادي أمارتيا سن، هي نتيجة «تجويع»، أي قرار سياسي، أكان في استعمال سلاح الجوع في النزاعات أو في فشل إدارة الموارد. المجاعات، كفعل طبيعي، باتت ربّما من الماضي، لكنّ التجويع ما زال جزءًا من عالمنا، خاصة في منطقتنا، في سوريا واليمن، والآن، غزّة.  


التجويع المخطّط له

التجويع يأتي كالمرحلة القصوى من سياسة الإبادة الإسرائيلية، وكأنّ كل ما سبقه لم يكن إلّا تحضيرًا لهذه المرحلة من السيطرة ليس فقط على أجساد سكّان غزة، بل على خلاياهم ومناعتهم وتطورهم. فالتدمير المنهجي للقطاع الصحي ومن ثمّ البنية الغذائية والشبكات الاجتماعية، قبل استهداف فرق المنظمات الإنسانية، مهّد لهذه اللحظة، للحظة تحويل سكّان غزّة إلى مجرّد أجساد تبحث عن أي غذاء، أجساد يمكن تطويعها وإدارتها والتحكّم بنموّها. حتى مراكز توزيع المساعدات باتت أشبه بحقول للقتل. التجويع ليس قتلاً، هو إدارة الحياة على حافة الحد الأدنى، حيث لا وجود لمجتمع أو عائلة أو إنسان. لو كان بإمكاني أن أختزل كل شرور عصرنا في صورة واحدة، كتب بريمو ليفي في عام 1947، لاخترت هذه الصورة التي أعرفها جيدًا: رجل هزيل، منكس الرأس ومحنيّ الكتفين، لا ترى في وجهه ولا في عينيه أي أثر لفكر أو وعي. هذا الرجل عاد اليوم، صنعته سياسة التجويع.


لا عودة عن آثار التجويع

فرضت إسرائيل «هدنة إنسانية»، لبضع ساعات وأسقطت بعض المساعدات من الجو، ربّما تحت ضغط دولي تأقلم مع الإبادة من خلال السلاح، لكنّه لم يستطع هضم التجويع البطيء. لكنّ هذه الهدنة ليست متأخرة وحسب، بل تتجاهل أيضاً طريقة عمل التجويع وقتله البطيء. فالتجويع لا يقتل فقط من خلال الجوع، بل من خلال إضعاف نظام المناعة وتفشي الأمراض المعدية، هو يزرع في الأجساد إمكانية الموت المستقبلي، موت بطيء لا يرقى ليكون خبرًا. بكلام أوضح، التجويع، حتى ولو توقف اليوم، سيبقى يتفاقم في أجساد سكّان غزّة. ليس من ما-بعد للتجويع، إلّا أثار التجويع نفسه وتعليق دائم لحياة الغزاويين بين الموت والحياة. 


سياسة الحد الأدنى

نبحث عن «ما بعد»، لأنّه ليس لدينا ما نفعله اليوم. لم نقبل بعد أنّ هذا الواقع هو كل ما لدينا. عندما بدأت الإبادة، انصدمنا بعودة هذا الشرّ إلى عالم قدّم نفسه وكأنه تخطاه. «لن يتكرر أبداً». وعندما انتقلنا إلى التجويع، عادت الصدمة ذاتها، بأنّ تلك «الممارسات» لا تنتمي لعالمنا المتحضّر. لكنّ ما تفعله إسرائيل في «مختبر الشرّ» الذي بات اسمه غزّة اليوم، هو رسم معالم حاضر تشكّل الإبادة والتجويع والسيطرة على حياة الجماعات مكوّناته الأساسية. «ما بعد» غزّة لن يكون عودة إلى عالم واثق من تفوقه الأخلاقي على الماضي. «ما بعد» غزّة هو عالم باتت فيه الإبادة والتجويع احتمالات واقعية، هذا إن لم تكن مقبولة.

هذا العالم هو عالم يحكم من سياسة «الحد الأدنى»، سياسة لا تحتاج لتبرير أو إقناع، ترى في تفوّقها التقني مصدر سلطتها، وتريد تحويل جماعات هذه المنطقة إلى كائنات تدار بأدّق تفاصيل حياتها، وصولًا إلى تفاصيل قتلها البطيء. إسرائيل ليست وحدها في هذا المشروع، وإن كانت مختبره العنفي الأعنف. السلطات السياسية تنعزل، تتحوّل إلى مراكز إدارة شعوب منهكة، تختلف حدود هذه الإدارة، لكن ما من معارضة لها. بات لها التقنية الكافية للسيطرة على مجتمعات، أنهكها القمع والأزمات. الإدارة، بدل السياسة، التقنية بدل الأنظمة العسكرية. التجويع بدل السجون. 


الليبراليّون العرب، ما بعد التجويع

رغم ضخامة ما يجري في غزّة، لا يبدو أن الموضوع يشكّل نقطة تفكير عند المعارضات العربية، وبالأخصّ، ما عرف بـ«الليبراليين العرب». صعد هذا التيار على أنقاض اليسار والقومية العربية، وانزلاقاتهم القمعية التي أخذت شكل «الأنظمة التقدمية». أعاد «مركزة» الفكر العربي، من مطالبه التقليدية في وجه الخارج إلى حقيقة «السجون العربية»، أي القمع الداخلي الذي بات معاش الشعوب العربية. من هذا التشخيص لأنظمة الحكم، تحوّل إلى مصدر المعارضات الأساسية في العقود الأخيرة. وفي أطرافه السجالية، كسر هذا التيار «تابو» السلام، خاصة في مرحلة أوسلو، ليفتح الأفق أمام مقاربة أخرى للصراع العربي-الإسرائيلي. 

لكنّ لحظة الإبادة والتجويع هذه أظهرت تخشّب هذا التيار الذي لم يرَ في ما يجري أي حاجة لإعادة تشخيص الواقع الجديد. ما من تشخيص جديد، كما أنّه ما من مواجهة لحقيقة أن «السجون» العربية باتت بمعظمها في دول ما يعرف بـ«الاعتدال العربي»، أي الدول التي احتضنت بأشكال مختلفة الليبراليين العرب. أمّا «التابو» الذي انكسر بمرحلة السلام، فبات دعوة صريحة للتطبيع، ليس مع إسرائيل أوسلو، بل مع إسرائيل الإبادة والتجويع. 

لمواجهة سياسة الحد الأدنى، بات هناك ضرورة للخروج من معارضات الماضي، خروج يبدأ من التأمل بهذا الرجل الهزيل، المنكس الرأس والمحنيّ الكتفين، والذي لا ترى في وجهه ولا في عينيه أي أثر لفكر أو وعي. من عينيه علينا قراءة الواقع الجديد. 

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
«سيرة وكمّلت» على «الجديد»
05-12-2025
تقرير
«سيرة وكمّلت» على «الجديد»
حفلة انتهاك لحقوق الطفل
تحليل

عامٌ على نهاية سوريا الأسد

محمد علي الأتاسي
نعيم قاسم: تعيين مدني بالميكانيزم تنازل مجانيّ لإسرائيل
60,000 بطريق إفريقي ماتوا جوعاً
دول انسحبت من يوروفيجن اعتراضاً على مشاركة إسرائيل
شكوى ضدّ مايكروسوفت بتهمة تخزين بيانات استخدمها الجيش الإسرائيلي