نقد أبويّة وذكورية
سيلفانا الخوري

مغارتان ومقتلة

1 نيسان 2022
تشييع ضحايا جريمة أنصار (مصدر: @Jamalchaiito1)

مرعبة هي صورة التشييع. تُطبِق على الصدر وتقطع الأنفاس مثل خبر مقتلهنّ في المغارة. منال وريما وتالة وباسمة، أربع نساء مقتولات تحاصِر توابيتهنّ دوائر لامتناهية من الرجال من كل الأعمار والمستويات. دائرة إثر دائرة إثر دائرة... دوائر مرقّطة، معمّمة، ببذلة أو بكاسكيت. مغارة ثانية. أفكّر ما إذا كنّ قد متنَ قتلاً أم اختناقاً.


بات مؤكّداً أنّ القاتل أراد إسكاتهنّ خشية افتضاح «شأن شخصيّ». لا يهم ما هو بالتحديد لكنه الحميم على الأرجح. الحميم المحرّم مرّة أخرى. التابو. استدرجهنّ الرجل مساءً إلى المغارة. جهّز السلاح وحفر القبور وصبّ الإسمنت بمعاونة شريكه. ليل ومغارة ورصاص وقبور وإسمنت. المشترَك الرمزي بين كل هذه الصوَر هيّنٌ ومفضوحٌ حدّ الابتذال. إنه ما لا يُقال. ما لا يمكن قوله. ما لا يجب. والنساء عرفْنَ ومن يعرف قصاصه الموت. 

إننا بإزاء جريمة شرف مكتملة العناصر حتى لو بدت غير ذلك. شرف الرجال مثل كل مرّة. أو ما يسمّونه هم كذلك. والنساء الأربعة استحقَقْنَ العقاب لأنهنّ عرفنَ وهدّدن السرّ بالافتضاح. والسرّ هو في خروجٍ ما عن خطوط المجتمع الأبوي الحمراء وتابوهاته. لكنّ المجتمع الأبوي لا يخشى أن تتخطّى خطوطه الحمر، فهو يعرف أنها هشة وسريعة العطب، ما يهمّه هو أن تبقى في الصدور. والنساء إذا تكلّمن فسوف يعكّرنَ صفو هذا المجتمع وصورة الرجل فيه. 


ولا أخطر على المجتمع الأبوي من كلام النساء. لذا، فإن أصواتهنّ يجب أن تظلّ خافتة، وكلامهنّ مشكوك بعقلانيّته، ورواياتهنّ مشوبة بالخطل والمبالغة والتزويق. ولهذا السبب ربط النظام الأبوي النساء دوماً بالثرثرة والمبالغة والخضوع للانفعالات، فيما برّر لنفسه هذه الأخيرة بذريعة الانتصار للشرف. انفعالات النساء تفضح، أما انفعالات الرجال فتكتم الفضيحة. لذا يسخّف النظام الأبوي الأولى علناً لأنه يخشاها سرّاً، ويبرّر للثانية في الحالتين. وفي الأوان ذاته يقدّس الصمت والسَّتْر والكتمان. وكلّ خروجٍ عن هذه القيم، كلّ تهديد بالفضح يستوجب العقاب.

من هنا، فإن هذه الجريمة، مثل الكثير من الجرائم المرتكبة بحق النساء، قبل أن تكون جريمة قتل هي جريمة إسكات. إسكاتٌ بالقتل. وما أراد الرجل إبعاده وكتمه ودفنه وصبّ الإسمنت عليه مثل ختمٍ أبديّ ليس الجريمة ومعالمها بقدر ما هو السرّ، التابو، والرعب المذعور من افتضاحه. 


لكنّ هذه الجريمة كذلك ليست مجرّد حادثة عابرة، جريمة أخرى من تلك التي تُقرأ على مقياس الأمن المفقود في بلدٍ يتفتّت فيه كلّ شيء ويتحلّل. فهي تبدو بتفاصيلها وعناصرها خبراً أليفاً وغريباً في الأوان ذاته، قريباً ومقلقاً. ذلك أنها تكاد تكون أشبه بجريمة أوّلية، قصّة من قصص القتل التأسيسيّة في الميثولوجيات المختلفة، تتخطّى العابر والعرضيّ لتكشف عن الدعائم الأساسية التي بُنيَ عليها النظام الأبويّ نفسه.

أعود إلى صورة التشييع. أبعد من مسألة الطقوس والعادات والتقاليد، تبدو الصورة بشكلٍ ما امتداداً للطقس الجرميّ الذي بدأ في المغارة لأنها ابنة منطق القوامة القاتل نفسه. هذا المنطق الذي أوكل لنفسه فصل الخطاب ورسم الحدود بين الحق والباطل، بين الممنوع والمسموح، قولاً وفعلاً، في الكلام والأجساد. أما الاستنفار الذي أبداه المجتمع الأبوي فجأةً نصرةً للنساء المقتولات، فليس متأتياً من شعوره المستجدّ بالظلم الذي لحق بهنّ وبرغبته بتحقيق العدالة لهنّ. بل هو متأتٍّ من شعوره بأن القاتل الذي ليس أباً أو أخاً أو زوجاً لهؤلاء النساء، قد اعتدى على هذا المجتمع نفسه أيضاً وعلى سلطته وهدّد للحظة تراتبيّتها ووظائف الأفراد فيها. لكن كل شيء انتهى الآن. كل شيء عاد إلى مكانه «الطبيعيّ». 

استعاد المجتمع الأبوي النساء الأربعة وسلطته الحاضنة عليهنّ، ووقف يحرس موتهنّ مفجوعاً ومطمئنّاً في الأوان ذاته، في انتظار مقتلةٍ أخرى.

آخر الأخبار

«لا مجاعة في غزّة»
جعجع: الأمن الذاتي بحجّة مكافحة النزوح السوري
اجتياح رفح 
الإفراج عن الأكاديمية نادرة شلهوب كيفوركيان
خوفاً من مذكّرة اعتقال دولية
هكذا يعذّب الاحتلال الدكتور إياد شقّورة