تعليق سوريا
محمد علي الأتاسي

استباحة دمشق

15 آب 2025

تكاد دمشق، من بين كلّ المدن السوريّة، أن تكون المدينة الوحيدة التي نجت من تدمير أحيائها السكنية ومناطقها الأثرية، ولم ينل منها القصف الممنهج والمجازر والترحيل القسري، لا خلال سنوات الثورة ولا في أثناء الحرب الاهلية التي تبعتها.
صحيح أنّ ضواحي دمشق القريبة والغوطتين الشرقية والغربية، رئتَي المدينة الحيويّتين، نالها جميعاً من التدمير الأسدي والقصف ومجازر الكيماوي والتهجير، ما يفوق التصوّر، وحرم المدينة من حاضنتها الطبيعية، لكنّ المدينة التاريخية والأحياء السكنية والتجارية الرئيسية ومركز العاصمة الإداري والسياسي، بقيت جميعها خلال سنوات العنف في منأى عن التدمير الممنهج الذي قضى على البشر والحجر والأخضر واليابس من حول المدينة في الأحياء والمناطق الملاصقة لحدودها الإدارية كما في جوبر وداريا. لكنّ سلامة النسيج العمراني للمدينة، لم يعنِ أبداً خروج نسيجها السكاني والاجتماعي سليماً معافىً من سنوات الحكم الاستبدادي الذي أوغل في دماء شعبه وزرع الخوف والفساد والمحسوبية في كل مفاصل الدولة والمجتمع.   
مع تهاوي النظام الأسدي السريع وتحرير دمشق من دون أي معارك عسكرية طاحنة ونجاح قوات هيئة تحرير الشام في تجنيب المدينة أياً من أعمال النهب والفوضى والشغب، تفاءل الكثيرون بأن في سلامة دمشق وخروجها بأقلّ الأضرار من معركة إسقاط النظام الأسدي، ستكون بداية واعدة ليس فقط لكي تستعيد العاصمة السورية تألقها ودورها السياسي والاقتصادي والثقافي على مستوى سوريا بالكامل، ولكن لتكون كذلك رافعة للنهوض الاقتصادي بأريافها المكفهرّة ولإعادة إعمار ضواحيها المدمّرة. 

وجوه المدينة

لا يغيب عن كاتب هذه السطور أنّ بعضاً من وجوه المدينة بوصفها حيّزاً لجبروت السلطة ولاحتكار الثروة ولممارسة الإقصاء ولانغلاق الهويات المتنازعة والتكاذب والتفاخر المتعجرف والتعالي الطبقي، كان ولا يزال قائماً، في صلب طرائق العيش والممارسات الاجتماعية لمدينة عريقة كدمشق، لكن هناك جوانب أخرى تخص المدينة بوصفها حيزاً عاماً منفتحاً على التعايش المشترك وتقبّل الاختلاف ودمج القادمين الجدد وإدارة التنوع، كان هذا الحيز العام وما زال وجهاً من وجوه المدينة الحاضرة والممكنة.
من هنا لم يكن غريباً أن تأتي أولى محاولات الالتحاق الفاشلة بانتفاضات الربيع العربي من قلب دمشق في 15 آذار 2011، وأن تحاول مراراً وتكراراً كل أرياف دمشق القريبة والبعيدة، من حوران إلى القلمون وصولاً إلى الغوطتين، أن تقيم في قلب دمشق ميداناً للتظاهر والتعبير الحر في وجه السلطة الأسدية، من محاولات التظاهر في قلب الجامع الأموي، إلى محاولات الاعتصام في ساحتي المرجة والعباسيين وصولاً إلى مظاهرات أحياء الميدان والمزّة وكفرسوسة.
كما لم يكن غريباً أن تسعى السلطة الأسدية في محاولتها لسحق الثورة السورية، في الذهاب إلى الحل العسكري إلى النهاية وأن تقوم بتقطيع أواصر دمشق عن غوطتَيْها ومحيطها الأوسع، وأن تجعل من الميادين والساحات العامة في المدينة، حواجز تفتيش وأماكن عسكرية، وأن تضيّق وتخنق ما تبقى من حيز عام ومساحات مفتوحة داخل المدينة نفسها.
عندما تقرقع الأسلحة، تصمت المدينة، لكن إلى حين! وهذا الحين طال واستطال لما يزيد عن الأربعة عشر عاماً، شهدت إمعان النظام في جرائمه وفي استدعائه للتدخّل الأجنبي، وشهدت عسكرة الثورة وأسلَمَتها، وشهدت قتل وتغييب وتهجير وإسكات خيرة شباب وصبايا النضال السلمي في الثورة.
دمشق صمتت وأطالت الصمت لتستيقظ فجأة على مقاتلي عملية ردع العدوان وهيئة تحرير الشام في شوارعها وأحيائها!
دمشق صمتت وأطالت الصمت لتستيقظ فجأةً على تغيير النظام وتبديل ساكني قصر الشعب وهروب الأسد وجنرالاته وجزّاريه! دمشق صمتت وأطالت الصمت لتستيقظ فجأة على مؤيدي بشار وقد صاروا بين ليلة وضحاها مؤيّدين لأحمد الشرع!
دمشق صمتت وأطالت الصمت لتستيقظ فجأةً وتدرك أنّ استباحة المدن والبلدات التي عوّدنا عليها النظام البائد في حماه 82 وفي حمص وحلب ودرعا ودير الزور ودوما وداريا 2011، قائمة ومستمرة في بلدات وقرى الساحل وفي مدينة السويداء وقرى جبل العرب!
دمشق صمتت وأطالت الصمت لتستيقظ وترى بأمّ عينيها أنّ مسلسل الانحدار لا يزال مستمراً على مدى الشهور التسعة الماضية، وأنّ تفريغ المدينة من دورها التمديني كحيّز للتنوّع والانفتاح والتبادل التجاري والتعليم المتقدم والتعدد الديني والثقافي والاختلاف السياسي والقوانين الناظمة، قائم على قدم وساق في ظل السلطة الجديدة وتحت رعايتها في معظم الأحيان.
دمشق مستباحة نعم، والاستباحة لا تكون فقط بالسلاح والعتاد، لكنها تكون بالرأسمال المنفلت وحيتان المال والسلطات الهوجاء والقرارات الاعتباطية والرعونة العمياء.  

السيارات قبل الحجر وقبل البشر

يقطن المنطقة الحضرية الكبرى لدمشق ما يقارب خمسة ملايين نسمة، وقد عاد إلى دمشق خلال الشهور الأخيرة مئات الألوف من المهجّرين السوريين من الدول المجاورة أو من المناطق التي كانت تحت سيطرة فصائل المعارضة، وكان من الطبيعي أن تضيق المساكن والخدمات والبنى التحتية في المدينة ومحيطها عن الاستيعاب السريع لهذا العدد الكبير من العائدين وتأمين الحاجات الأساسية لهم، خصوصا لأولئك الذين تدمرت قراهم ومنازلهم، وحيل بينهم وبين العودة لمناطقهم الاصلية، كما الحال مع أهالي غرب الفرات.   
لكن بدلاً من اتخاذ إجراءات ملموسة للتخفيف من معاناة اللاجئين وايجاد مساكن بديلة وتأمين فرص عمل مؤقت لهم ودمجهم في الاقتصاد المحلي والنهوض به تدريجياً، تمّ تركيز معظم جهود محافظة مدينة دمشق لاستدراج عروض الاستثمار الأجنبية لمناطق شاسعة من العاصمة السورية. 
إلا أنّ الطامة الكبرى كانت في تلبية توق الناس لقيادة سيارات حديثة بعد حرمان طويل، والسماح منذ الشهر الأول بعد سقوط النظام باستيراد السيارات المستعملة والجديدة بضرائب شبه رمزية، وإغراق شوارع وأزقة المدن بالسيارات المستعملة الآتية من الخليج وتركيا، وسحب مليارات الدولارات من مدخرات الناس وضخها في مشاريع غير منتجة وإعادة تدوير هذه العملة الصعبة إلى الخارج. وتشير بعض التقديرات إلى دخول أكثر من مئة ألف سيارة في الشهور الأولى بعد سقوط النظام بقيمة تقديرية تزيد عن المليار ونصف دولار.
كان يجب للأسف أن تُستباح المدينة بجحافل السيارات المستوردة، وأن تصل معدلات التلوث لمراحل خطرة وأن تتحول الأرصفة إلى مواقف دائمة وأن تصبح القيادة وإيجاد موقف مهمة شبه مستحيلة، حتى تبدأ مؤسسات الدولة بمحاولة ضبط استيراد السيارات ووضع شروط تقنية وضرائب عادلة والتفكير بوسائط نقل جماعية بديلة.  
من الطرائف الشعبية التي تناقلتها الألسن عشية انقلاب حافظ الأسد، أن الجنرال المتعطش للسلطة، وفي ظل تصدي القيادة القطرية له وتصويتها لطرده من الحزب خلال المؤتمر العاشر الاستثنائي المنعقد في دمشق في تشرين الأول 1970، أنه قال هازئاً أنه يستطيع أن يشكل قيادة جديدة وبديلة للحزب بتوزيع 24 سيارة مرسيدس جديدة.
أما السلطة الحالية، فبسماحها باستيراد السيارات من دون عوائق تقريباً، فإنها لم تشكل شعباً جديداً ولم تُشرِك شعبها بقيادة البلد، لكنها لبّت توق الناس لقيادة سيارات حديثة جديدة واشترت رضاهم المؤقت، لكن هذه المرة من جيوبهم وبأموالهم، على عكس حافظ الأسد وقيادته القطرية المؤقتة التي جنبها على الأقل دفع ثمن سيارات المرسيدس من أموالها الخاصة! 

قاسيون وقصر الشعب 

واحدة من الجرائم الكبرى التي ارتكبها حافظ الأسد بحق مدينة دمشق وأهلها، كان تشييده لمبنى قصر الشعب على جبل المزة المطلّ على مدينة دمشق والموازي لجبل قاسيون. فهذا المبنى الذي صممه المعماري الياباني كينزو تانغه (Kenzo Tange)، أحد أبرز المعماريين العالميين في القرن العشرين، قُدِّرت كلفته بحوالي مليار دولار أميركي عند إنجازه أواخر الثمانينيات، وهو رقم ضخم جدًا بمقاييس تلك الفترة، ما جعله يُصنَّف حينها من بين أكثر المباني الرسمية كلفة في المنطقة كلها.
لم يكتفِ حافظ الأسد يومها بأن يطلّ على شعبه من علو! ولكنّه قام باستجرار الكثير من الينابيع والمياه الجوفية في محيط دمشق لتأمين ري الحدائق الضخمة المحيطة بالقصر وتغذية جميع أبنيته، كما قام منذ أواخر السبعينات بتشجير سفوح جبل قاسيون المقابلة لجبل المزة، والتي سيطلّ عليها قصره الجديد. 
هذه النقطة تستحقّ التوقّف عندها، لأنّ جبل قاسيون، الشاهق والمهيب، والمطلّ منذ آلاف السنين على مدينة دمشق وغوطتها وبساتينها، كان منذ الأزل أجردَ ترابيّ اللون، يطلّ على المشهد الدمشقي ويتداخل معه بانسياب، كما تطلّ عليه من الأسفل أسطح المدنية ونوافذها وساحاتها. فهو بلونه الترابي وشكله الأجرد، كان حاضراً داخل المدينة ويشكل جزءاً لا يتجزأ من مشهدها البصري على مدى آلاف السنين. وفجأةً قرّر حافظ الأسد، ربما في حنين لجبال اللاذقية الخضراء حيث نشأ وترعرع، أن يجعل من جبل قاسيون جبلاً أخضر مشجّراً بالأشجار الحرجيّة. 
نُفِّذ المشروع وأُنشئت المصاطب المتدرّجة واستُجِرّت المياه وزرعت الأشجار، لكن النتيجة كانت كارثية، ليس فقط للتشويه البصري الذي أحدثته في المدينة ومحيطها، ولكن لأن الأشجار نفسها لم تنمُ كفايةً في بيئة جرداء وقاحلة.
خلال عهد بشار الأسد، أبت زوجته أسماء الأسد التي كانت تكنّى بسيدة الياسمين، إلا أن تترك بصمتها هي الأخرى على جبل قاسيون، فقررت إطلاق مبادرة في العام 2008، ضمن نشاطات «الأمانة السورية للتنمية» التي ترأسها، لزراعة الوردة الدمشقية وأشجار النارنج على سفح جبل قاسيون. 
خلال سنيّ الثورة، حُرِم سكان مدينة دمشق من الصعود إلى جبل قاسيون، فأُغلقت طرقاته واستخدمت سفوحه ومُغُره لنصب مرابط المدفعية والصواريخ التي لم تتوقف عن قصف الغوطة حتى تهجير أهلها في العام 2018. 
حال سقوط النظام، كان أول ما فعله أهالي دمشق هو أن استعادوا قاسيون وعادوا إلى سفوحه ومطلاته في نزهات المساء، لكن محافظة دمشق لم تلبث أن أعادت إغلاق الجبل في نيسان 2025، معلنةً من جانب واحد، وبعيداً عن أي مناقصات أو دفتر شروط، عن خطة شاملة لإعادة تأهيل قاسيون، بهدف ردم ما سمته فجوة سنوات من الإغلاق العسكري، وإنشاء جلسات شعبية ومرآب ومرافق طبية تحوّله إلى متنفس عام مفتوح وآمن لسكان العاصمة. وسارع مطبّلو السلطة وكركوزاتها الإعلاميين إلى الترويج لادعاءات استثمارية عن مشروع سياحي ضخم يشمل فندقًا فاخرًا، مولًا تجاريًا، ومسجدًا، مما أثار تساؤلات حول طبيعة الجهة المنفذة، في الوقت الذي أكدت فيه محافظة دمشق أن المشروع يقتصر على إعادة التأهيل وليس إنشاء أبنية جديدة. 

المخطّط الافتراضي لإعادة تأهيل جبل قاسيون.

واليوم لا يزال جبل قاسيون مغلقاً على الناس وعلى الإعلام، ويتم التعتيم على حقيقة الأعمال التي تجري فيه بقرار من محافظة دمشق، المعيّنة وغير المنتخبة، والتي لا تملك أي صفة تمثيلية لأهالي دمشق، لكنها تملك سلطة الأمر الواقع التي تتيح لها أن تغيّر وتبدّل في معالم المدينة وطوبوغرافيتها وجبلها!

ناطحات السحاب، رغم أنف المدينة وريفها المدمّر 

في الوقت الذي تنتظر فيه مناطق شاسعة في أرياف دمشق القريبة والبعيدة، بدء عمليات رفع الأنقاض وتأهيل البنى التحتية وإعادة الإعمار في ظل غياب الدعم المادي وشح في موارد المياه والطاقة والمواد الاولية، لا تنفك محافظتا دمشق وريف دمشق في الإعلان عن فرص استثمارية بأرقام فلكية لاستدراج عروض الاستثمار الأجنبية لمناطق شاسعة من العاصمة السورية ومحيطها الغربي الشمالي الخالي من الدمار. وفي هذا الإطار، تمّ توقيع عشرات مذكرات التفاهم غير الملزمة، لتشييد مدن ذكية لمَيْسوري الحال على الطريقة الخليجية، وبناء ناطحات سحاب وأبراج سكنية عملاقة في قلب المدينة التجاري وفي محيطها القريب، تشمل الاستثمارات إقامة برج «الجوهرة» من 32 طابقاً في منطقة البحصة على حدود المدينة القديمة بقيمة مئة مليون دولار، و«أبراج البرامكة» بنحو 500 مليون دولار في قلب المدينة، وإقامة مشروع «أبراج دمشق» بقيمة مليارين ونصف دولار وتشمل بناء 20 ألف وحدة سكنية في ضواحي دمشق بالقرب من أوتوستراد دمشق بيروت. كما تمI الإعلان عن تطوير مطار دمشق الدولي باستثمارات 4 مليارات دولار، وإنشاء مترو أنفاق في العاصمة بتكلفة ملياري دولار. وجاء الإعلان خلال حفل رسمي في قصر الشعب بدمشق، بحضور الرئيس السوري أحمد الشرع، والمبعوث الأميركي إلى سوريا توماس براك، حيث كشف رئيس هيئة الاستثمار السورية طلال الهلالي عن 12 مشروعاً استراتيجياً، تصل قيمتها الاستثمارية إلى 15 مليار دولار. 

تصميم فنّي لمطار دمشق الدولي الجديد المزمع إنشاؤه، والمستوحى من شكل السيف الدمشقي.

وأنا أقرأ هذه الوعود الاستثمارية والأرقام الفلكية والشركات الخلّبية التي أنشئت لهذا الغرض، في بلد يعيش أكثر من 90 بالمئة من سكانه تحت خط الفقر وفقاً لأرقام الأمم المتحدة، لا استطيع إلا أن أفكّر بألوف الأطفال المشرّدين في شوارع المدينة وعشرات ألوف العاطلين عن العمل ومئات ألوف الموظفين الذين بالكاد يستحصلون على ما يسدّ رمق عيشهم، ناهيك بعشرات ألوف المتقاعدين المتقدمين بالسن الذين تفيض أرصفة المدينة بطوابيرهم وهم يصطفون كل صباح تحت أشعة الشمس الحارقة أمام آلات الصراف الآلي لمحاولة سحب مبلغ زهيد سقفه 500 ألف ليرة كل أسبوع، مبلغ لا تستطيع مالية الدولة أن تؤمّنه لهم إلا على دفعات وفي أوقات الدوام حين تتوفر الكهرباء لتشغيل الصرافات الآلية.
عندما أقرأ هذه الوعود الاستثمارية والأرقام الفلكية لبناء ناطحات سحاب وأبراج يريدون زرعها في قلب المدينة وعلى بعد مئات الأمتار من أسوار المدينة القديمة وأحيائها التاريخية المفترض أنها محمية وفقاً للقوانين المرعية، لا أتخيّل فقط حجم الزحام والتلوث والضغط على البنية التحتية الذي ستسبّبه هذه الأبنية الشاهقة على مركز المدينة، ولكن المدى البصري الذي ستقتحمه وتسيطر عليه هذه الأبنية الشاهقة الجاثمة والمطلة من تحتها على باحات ودور وأبنية دمشق القديمة. 
ألم يكفِ ما فعل النظام البائد في محيط ساحة المرجة وحي سوق ساروجة، لنأتي ونزرع هناك في هذه المنطقة التاريخية بناءً شاهقاً اسمه «الجوهرة» يضمّ شققًا فندقية ومكاتب تجارية وإدارية. ألا يوجد مكان آخر في دمشق سوى هذا المكان؟

المدينة القديمة 

ترى ألم يفكّر أيّ واحد من عباقرة الاستثمار في محافظة دمشق، بمشروع لتطوير وحماية دمشق القديمة والحفاظ على هوية أسواقها وتنظيم حركة المرور فيها وتحويل معظم طرقاتها إلى طرقات للمشاة والحفاظ على أبنيتها التاريخية الآيلة للسقوط وبنيتها التحتية المتداعية وضبط وتنظيم والحدّ من تحويل بيوتها إلى فنادق ومطاعم. ألم يسأل واحد منهم نفسه ماذا تعني دمشق من دون المدينة القديمة ومن دون الغوطة، وألم يفكروا بإعادة ربط المنظومة البيئية لدمشق بغوطتها وبإنقاذ ما تبقي من الغوطة ونهر بردى!
للأسف بدلاً من أن يفكروا ويتفكروا، لا يزال انتهاك واستباحة المدينة القديمة قائماً على قدم وساق، وكان كاتب هذه السطور قد نبّه هنا قبل عدة أشهر إلى بشاعة الانتهاكات التي تجري في مبنى الجامع الاموي برعاية مديرية الأوقاف وتحت اشراف جمعية إغاثة تركية اسمها «هاند» لا خبرة لها لا في الترميم ولا في إدارة هذه الأماكن الاثرية والدينية. 
كما أشرنا إلى كيف تمّ فصل النساء عن الرجال في صحن الجامع لأول مرّة في تاريخه بهمّة جمعية «هاند»، كما بينّا بالصور كيف تمّ وضع مولدات الطاقة على رخام الجامع وكيف يتم إدخال سيارات البث التلفزيوني ذات الدفع الرباعي إلى صحن الجامع حتى لا تمد الكابلات الكهربائية إلى الباحة الخارجية مقابل الجامع، والنتيجة كانت أن استسهال إدخال السيارات إلى صحن الجامع وصل بالبعض إلى إدخال عائلته بنزهة في سيارته إلى صحن الجامع لتحميل المصاحف وتصوير ذلك في فيديو أثار استهجان الكثير من السوريين. 
الانتهاكات لا تقتصر على الجامع الاموي، فقلعة دمشق هي الأخرى لم تسلم من الانتهاكات وتم تأجيرها مؤخرا، على خطى ممارسات النظام البائد، لإقامة عرس طنان رنان لواحد من اليوتيوبرز السوريين المشهورين، وتخلّل الأفراح إطلاق الألعاب النارية من داخل القلعة، بعد أيام من هجوم القوات الحكومية على السويداء. 
أما قصر أسعد باشا العظم ومتحف التقاليد الشعبية في قلب المدينة القديمة، والذي سبق لأسماء الأسد أن استخدمته لإقامة عرس أخيها في باحته الكبرى، فإن المسؤولين الإعلاميين قرروا إعارته بباحته وقاعته الرئيسية لاستقبال برنامج حواري جديد للإعلامي أحمد الفاخوري محوِّلين القاعة الرئيسية إلى استديو ومدخِّلين إليها الشاشات والكابلات ومعدات التصوير، كما هو واضح في الفيديو الذي بثه على صفحته موسى العمر متفاخراً بزميله ومهنئا ببرنامجه.
أما المكتبة الظاهرية والمدرسة العادلية اللتين تعودان إلى العهد الأيوبي، وكانتا تضمان نفائس المخطوطات والكتب، فيتمّ من حين لآخر تأجيرهما لتصوير مسلسلات تلفزيونية، وتتحول القاعة الرئيسية، كما هو واضح في الصورة، إلى قاعة لتغيير الملابس والريجي! وكذلك هو الحال مع ثلاثة من أهم البيوت الأثرية في دمشق في حي مئذنة الشحم، وهي بيت السباعي وبيت نظام وبيت القوتلي، والتي من المفترض ان مؤسسة الآغا خان تشرف على ترميمها، فيتم كذلك إعارتها وتأجيرها لتصوير المسلسلات التلفزيونية التي تدخلها وتنتهكها بطواقمها ومعداتها وكابلاتها ومولداتها الكهربائية. 

قاعة المدرسة العادلية مع فريق التصوير ومعدّاته.

البرلمان وإغلاق الحيّز العام

قد يكون مبنى البرلمان السوري والمجلس النيابي الذي سُمّي لاحقاً بمجلس الشعب والواقع في شارع العابد، واحداً من أكثر الأبنية العامة المحمّلة بالذاكرة والرمزية السياسية، ليس فقط لأن تاريخ بنائه ترافق مع ولادة أول مجلس نيابي منتخب في العام 1928، ولا لأنه قصف من القوات الفرنسية في العام 1945، وأعيد بناؤه وتوسعته ليترافق مع ولادة الدولة السورية الحديثة، ولكن لأنّ هذا المبنى كان شاهداً على كل مراحل تطور سوريا السياسية، بما فيها الانقلابات العسكرية، ومرّ من على منبره كل قادة وسياسيّي سوريا المعاصرين.  
اللافت والمعبِّر بعد سقوط النظام الأسدي، أنّ مبنى البرلمان كان من الأبنية الرسمية القليلة التي لم يستحوذ عليها النظام الجديد ولم يُعِد توظيفه واستخدامه كما فعل مع القصور الرئاسية ومبنى مجلس الوزراء والوزارات ومقرات حزب البعث والفروع الأمنية، وتركه مهجوراً مع حراسة بسيطة، قبل أن يعاد فتحه مؤخراً لاستقبال اجتماعات لجنة اختيار أعضاء مجلس الشعب التي عينتها السلطة الحالية. هذه اللجنة التي بتعيينها وبعملها لاختيار وتعيين ثلثي أعضاء مجلس الشعب، هي بعيدة كل البعد عن تاريخ هذا المبنى العريق ومجلسه النيابي وصندوق اقتراعه ولجانه الدستورية ومجلسه التأسيسي الذي صاغ وصوّت تحت قبته على دستور 1954.
وقد يكون غاية في التعبير أن الشخص الوحيد الذي صعد إلى منبر المجلس النيابي بعد سقوط النظام البائد في مشهد تراجيكوميدي هو الناشط الإعلامي المقرب من السلطة موسى العمر بحجة الاستهزاء من بشار الأسد، وفي جهل تام واستخفاف بتاريخ هذا المنبر الذي شهد مرور كبار رجالات سوريا قبل ان تطأه عائلة الأسد.
في 8 نيسان من العام 2012، وفي ظل اشتداد حملة النظام الدموية ضد الثورة السورية، اجتمع عدد من الشباب والصبايا أمام مبنى البرلمان وبدأوا بالتصفيق لرفيقة لهم اسمها ريما دالي وقفت في وسط الشارع داخل بقعة من الدهان الأبيض حاملةً لافتةً كُتب عليها «أوقفوا القتل نريد أن نبني وطناً لكل السوريين»، تلكأ المارّة وخافوا ومضوا وصفق بعضهم وتجرأت بعض السيارات وأطلقت زمورها، قبل أن يأتي الأمن ويعتقلوا ريما.

ريما دالي أمام البرلمان في العام 2012.

كانت ريما ورفاقها، يحاولون في أشد لحظات القمع، ومن أمام البرلمان، أن يعيدوا للمدينة معناها الأنبل كفضاء عام، كانوا يستعيدون ما فعله زملاء لهم في 8 آذار من العام 2004 عندما حاولوا الاعتصام أمام البرلمان للمطالبة بإلغاء حالة الطوارئ، وتم اعتقالهم.
في 17 نيسان الماضي، وفي ذروة الهجوم على السويداء، اجتمعت مجموعة من الناشطين والناشطات في ذات المكان أمام البرلمان السوري المغلق واستعادوا ما فعله رفاقهم في 2012 و2014 وحملوا وعلقوا لافتات كتب عليها: «دم السوري على السوري حرام». لم تمضِ ساعات قليلة حتى هجمت مجموعة من الشبيحة الجدد على المعتصمين وأزالت لافتاتهم وتعرضت بالضرب والشتائم المقززة للناشطة والحقوقية والمعتقلة السابقة زينة شهلا، وتم كسر الاعتصام. طبعاً لم ولن يحاسب من اعتدى على زينة ورفاقها مع أن الفيديوهات المصورة استطاعت تحديد هوياتهم. 

من الاعتصام الأخير أمام البرلمان (صفحة زينة حلا).

خطاب النصر على أبواب دمشق

في خطاب النصر الذي ألقاه أحمد الشرع في 30 كانون الثاني 2025 من قصر الشعب المطلّ على دمشق، قال الرئيس الجديد متغنّياً بدمشق: قبل بضعة أشهر، تهيأت لي دمشق كالأم المتفانية، ترمق أبناءها بعين المستغيث المعاتب، وهي تشكو جراحها، والذل والهوان ينزف دماً، وتكابر على الألم، وتكاد تهوي، وهي تقول: أدركوا أمتكم، أدركوها قبل أن يلحق بكم عار الأمم! فدمشق التي أورثتكم عز الشرق ومكانة المجد، فالشام خيرة الله من أرضه، سوريا الحضارة، سوريا التاريخ، الشام أمانة أبي عبيدة بن الجراح و خالد بن الوليد. آهٍ يا شام! كم كان يعذبنا أنين صوتها! فأي ذل أعظم من أن يحكمها طغمة الإجرام، ويفعلوا بها الذي فعلوا؟!.. فناديناها بصدق: قفي دمشق، قفي وانهضي وتصبري، فعقدنا العزم، ونظمنا الصفوف، وتهيأت القوات، وحددنا الهدف، وملنا على عدونا حتى أدركنا الشام قبل أن تهوي.
صحيح أنّ دمشق لم تهوِ ولم تعد تحكمها طغمة الإجرام الأسدية، لكن دمشق اليوم مستباحة وهي لا تزال تنزف كما تنزف سوريا كلها، ويمكن للبلد كله أن يهوي إذا لم تدركه رجاحة العقل وتقاسم المسؤوليات ومحاسبة المجرمين. 
افتحوا أبواب البرلمان، حرِّروا الحيّز العام بالقرارات الصائبة لا بالسلاح، اعقدوا مؤتمراً وطنياً جامعاً، ادعوا إلى انتخابات حرّة لمجلس تأسيسي يضع دستوراً جديداً للبلاد. اجعلوا من دمشق عاصمة لكل السوريين. 

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
شكوى ضدّ مايكروسوفت بتهمة تخزين بيانات استخدمها الجيش الإسرائيلي
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي