في سيارة بشار الأسد لغة وخطاب ومصغّر عن عقلية حكم.
حتى ولو بدا أنّ الرجل يتريّض مع ذراعه الإعلامية لونا الشبل، بشكل عفوي، بين ركام الغوطة، مسترسلاً بكلماته وضحكاته البلهاء وسخريته من جنوده وحلفائه والمحور الذي أمات نفسه للدفاع عن وجوده، فهناك دلالات في هذه الفيديوهات المسرّبة عن عقل السلطة البعثية، وتعبير عميق عن شخصية نرجسية وكاريكاتورية في آن.
في هذه اللحظة، تصبح السيارة التي تجمع الأسد والشبل (ويا للسخرية) مختبراً سياسياً يُقرَأ من خلاله تاريخ العنف ومنطق الحكم، وطريقة النظر إلى المجتمع السوري، في عقل الديكتاتور.
التسريبات مرآة الديكتاتورية الأسدية
تزامن التسريب مع الذكرى الأولى لسقوط النظام، ولم يكن السوريون بحاجة إلى معلومة جديدة بقدر حاجتهم إلى هذه المرآة. فالتسريبات لم تكن فيديوهات وحسب، بل أشبه بمرآة سائلة وواضحة وفجة، تفضح ما كان يجري في ذهنية السلطة السورية وفي تلافيفها ودواخلها الشريرة وفي لغتها الباطنية المتعالية. فما رأيناه لم يكن تسجيلاً بالصوت والصورة عن رئيس يترفع عن جمهوره ويشعر بالتفوق عليه وله ضحكة تافهة تثير الغثيان. كانت السلطة في هذه التسجيلات قد كتبت اعترافاتها بخط يدها ثم تركتها لنا كوثيقة للعلن. مكاشفة ذاتية غير مقصودة لكنّها لزجة ودبقة وثقيلة الدم. وثيقة نفسية مريضة. تعرض لغة النفوس وشرها العميق. تسجّل طريقة الشعور بالسلطة: الاستخفاف. الضحك. الاستهانة. وهي تختصر فعلياً البنية الجوانية التي حكمت سوريا لعقود. سلطة محكومة بوعي داخلي منفصل عن المجتمع، يرى البلاد كأرض يدار سكانها مثل ملف أمني، لا كجمهور سياسي له إرادة وحقوق، ويتمّ قتلهم وسحلهم وإبادتهم فقط لتفكيرهم باسترداد حقوقهم كمواطنين أو بالخروج عن عباءة الأمن والاستخبارات ومطالبتهم بأبسط حقوقهم المدنية.
النظام الهشّ في «سيارة السلطة»
تُنذر التسجيلات بشيء أكبر من فضيحة. فهي تزيل الحجاب عن «القلعة- النظام» التي بدت صلبة من الخارج في تصوير ذاتها إلى العالم. بدت متآكلة من الداخل. عفنة. ذات رائحة كريهة تظهرها لغوياتها الحاقدة والطبقية والفوقية والعنصرية. وتُظهر فعلياً انعدام الثقة بين أذرع الأمن وقيادتها وانفصال الخطاب العلني عن الكلام الحقيقي، واحتقار الحاكم لحلفائه وجنوده والمصفّقين له. هذه ليست ملامح نظام، هي حقيقة علامات انهياره، نظام ينهار لغوياً قبل أن ينهار سياسياً. تكشف هذه الفيديوهات أن السلطة هشّة والتحالفات شكلية والطاعة ذلّ مدروس. سلطة ترى السوريين كأشياء، ومؤسساتها كمخازن بشرية، وإعلامها كأداة صياغة النص المؤدلج لا أكثر، وحلفاءها مادّة للاستخفاف.
تتكرّر نبرة الاستعلاء في الفيديوهات على السوريين والتندر على أحوالهم، وازدراء مناطقهم ومراكز عبادتهم وذائقتهم، وتحويل المعاناة اليومية إلى نكتة متداولة في «سيارة السلطة». ليست هذه اللغة مجرّد انفعالات عابرة، بل هي جزء من التكوين الذهني للنظام منذ الثمانينات. منذ لحظة تحوّله إلى سلطة أمنية مغلقة، لم يعد يرى الشعبَ كجسم سياسي يمنحه الشرعية، بل ككتلة يجب ضبطها. المواطن، بالنسبة إليه، ليس سوى مادّة خام للإدارة الأمنية. أرقام تصنَّف وتراقَب وتهمَّش. ليست السخرية من المدن المقهورة مفارقة، بل امتداد لمنطق ظلّ يحكم لعقود، وليست لغة الازدراء في التسريب لغةً خاصة بحادثة، بل هي تعبير علني عمّا قيل همساً داخل جدران السلطة: المواطن السوري لا يساوي سوى مقدار فائدته في تثبيت النظام، أو خطره المحتمل عليه.
قمعٌ لا يثق بأداة قمعه
طيلة نصف قرن، حاول النظام بناء سردية ضخمة حول الجيش. وهذا ما حاولت لونا الشبل التي قتلها النظام، أن تُدوّنه في تدبيجاتها الإعلامية، موصِّفةُ الجنود في بياناتها بحماة الديار، والجيش بسور الوطن، وهي سردية أعيد إنتاجها في المناهج والاحتفالات والتلفزيون الرسمي. لكنّ التسريبات تكسر هذه الواجهة. هناك سخرية مباشرة من الجنود، ازدراء من سلوكهم وأصابع أياديهم ولباسهم وأشكالهم ورائحتهم، وتنمُّر على عناصر الأمن. يظهر الجيش في الحديث كأداة قابلة للاستهلاك لا كجسم شريك في النظام. ولعلّ المفارقة الأكثر لفتاً للانتباه هي أن النظام الذي بنى وعيه السياسي على تمجيد القوة العسكرية، هو ذاته الذي ينظر إلى تلك القوة كمجرد خزان بشري يمكن استنزافه، والسخرية منه ومن أفراده. إنه احتقار يأتي من موقع التفوّق، خصوصاً وأنّ معظم أبناء الجيش من الطبقة الفقيرة أو أبناء المناطق المعزولة والمحرومة والريف والبادية البعيدة. السلطة في هذه الفيديوهات ليست فوق الشعب فقط، بل فوق المؤسسات أيضاً. وهكذا، تبدو السخرية من الجيش والحطّ من شأنه اعترافاً غير مُعلن: الديكتاتور لا يثق بالمؤسسات. لا يراها شريكاً. ولا يريد لها أن تكون قوية إلّا بقدر خدمتها له.
حزب الله: أداة الأسد وسخريته
قدّم النظام السوري نفسه لعقود كعقدة مركزية في محور المقاومة، وسوّق صورة التحالف المصيري مع «حزب الله» بوصفه جزءاً من هوية الدولة. لكنّ التسريبات الأخيرة تُظهر مشهداً مختلفاً. فهناك نبرة استهجان وسخرية، ونوع من الترفّع غير المقنّع تجاه الحزب وشخصياته. لحظة انكشاف توضح أن التحالف بين النظام وحزب الله لم يكن يوماً قائماً على قناعة أيديولوجية مشتركة، بل كان أقرب إلى علاقة مصلحة باردة تؤسسها حاجة عسكرية من جهة، وحاجة سياسية من جهة أخرى. تُظهر التسريبات أنّ الأسد ينظر إلى الحزب من علٍ. حليف مفيد لكننا لا نحترمه، وشريك في القتال لكنه غير مساوٍ لنا في الوعي السياسي. هذا التفوّق المتخيَّل، الذي تكشفه الضحكة الساخرة، يوضّح بنية العلاقة الحقيقية. النظام لا يرى في المحور شركاء، بل أدوات يحرّكها عندما يحتاجها، ويعيدها إلى الظلّ حين تنتهي صلاحيتها. كدمى يورطها في معاركه ضد شعبه ويقتل أفراد هذا الحزب الذي صار ميليشيا ومرتزقة في حرب النظام البائس.
في لحظة واحدة، ومع ظهور هذه التسريبات تحولت ضحكة الأسد إلى مشرط. فتحتْ جسد الديكتاتور وعقله وصندوقه وأظهرت ما تحته: التحالفات وظيفية، الطاعة مصطنعة، والثقة متآكلة، والمؤسسة الحاكمة لا تحترم أحداً حتى نفسها. وحين تصل السلطة إلى مرحلة تضحك فيها على بنائها الداخلي، تكون قد بدأت مرحلة سقوطها الرمزي. ولهذا لم تُسقط التسريبات صورة النظام أمام الجمهور فقط بعد عام على سقوطه المادي، بل أسقطت صورته أمام نفسه إلى الأبد.