تعليق نظام الأسد
سامر فرنجية

سنة على سقوطه

الأنظمة رمّمت سياداتها

8 كانون الأول 2025

تنقيب الذاكرة في مناسبة الذكرى

ليلة 7-8 كانون الأول. العد العكسي لسقوطه. ننتظر الخبر مجتمعين في بيروت. الوقت يقاس بأسماء المدُن والبلدات التي تتحرّر، واحدة تلوَ الأخرى. أتذكر ليلة الانتظار هذه بصعوبة، ربّما لكوني كتبتُ عنها بعد يومين على السقوط. فأستعين بذاك المقال في محاولةٍ لتنقيب الذاكرة. 

قبل هذه الليلة بقليل، في 27 تشرين الثاني، انطلقت عملية «ردع العدوان». أقرأ في المقال أنّنا لم نستوعب آنذاك أهمية هذا الحدث. اعتبرناه مجرّد إعادة تموضع لخطوط التماس في الحرب الأهلية السورية. لكنّه أعطانا أسبوعًا «للعودة» لسوريا بعدما كنّا قد انقطعنا عن أخبراها لسنوات.

قبل ذلك، من الصعب استذكار أيّ شيء. والمقال لم يحتوِ على أي معلومة سابقة لعملية «ردع العدوان». كأنّ الحدث يقف بلا تاريخ، إلّا لمن كان على اطّلاع عمّا يدور في أروقة التفاوض الإقليمي.

أمّا مستقبل الحدث، فلم يساعد هو الآخر على استذكاره. بات مطموسًا تحت طبقات من العنف، عنف «استعادة الدولة لهيبتها» من الساحل إلى السويداء، عنف الإبادة في غزّة التي محت كل ما جرى قبلها أو حتى خلالها، عنف حروبٍ إقليميةٍ تعيد رسم المنطقة. 

حتى هو، لم يعد محفِّزًا للاستذكار. مجرّد مُجرم سَمِج، يقود سيارة في فيديو مسرّب. ربّما كان آخر رئيس عربي يُخلع عن عرشه. بعد سقوطه، عاد القادة العرب للاطمئنان إلى حكمهم.


ذكرى تبحث عن سياق

لا تعود صعوبة الاستذكار هذه إلى بُعد الحدث زمنيًا عن حاضرنا، أو تراكُم العنف الذي يفصلنا عنه. بل تكمن في التباس السياق السياسي الذي يمكن أن يفسّر حدثًا سياسيًا كسقوط ديكتاتور عربي. التباس أو تناقض السياقات المختلفة التي تحيط بهذا الحدث.  

هناك سياق سوري لهذا الحدث، وهو الأساس. لا يحتاج إلى تنقيب ذاكرة أو تحليل نظري. هو واضح في مشاهد الاحتفالات في الشوارع، في وجوه آلاف السوريين الذين، رغم كل شيء، أصرّوا على إحياء الذكرى. في السياق السوري، لحظة السقوط هي لحظة الانتقال إلى سوريا الجديدة، مع «تحدياتها الانتقالية» وعنفها المتفجّر، حدث بدأ بثورة يتيمة وانتهى بدولة جديدة. 

لكنّ الحدث ليس سوريًّا فحسب. هناك سياق آخر لحدث آخر سقوطٍ لديكتاتور عربي، مرتبط بالبعد الإقليمي. شكّل السقوط إحدى محطّات صعود النظام الإقليمي الجديد، القائم على الاتفاقيات الإبراهيمية والإبادة، بعدما كان هذا النظام العربي قد تأقلم لسنوات مع بقاء الأسد في الحكم. تغيّر الوضع في العالم العربي، جرّاء حروب إسرائيل، تحوّلت المعادلة، واقتنعت دول الجوار السوري بضرورة تغيير سياستها حيال الحكم فيها. في هذا السياق، يقع حدثُ السقوط بين القمع العربي للثورات وصعود نظام عربي جديد.

بين هذين السياقين، سياق ثالث، بات اليوم منسيًّا، لكنّنا نرى لمحات له في العلم الجديد لسوريا، في مشاهد التجمّعات الشعبية، في بعض العبارات من هنا وهناك. هو سياق «الثورة السورية»، هذه الثورة التي شكّلت إحدى محطات ما عُرِف يومًا بـ«الثورات العربية»، الثورة التي شكّلت «ثورتنا»، نحن أصدقاء الثورات وضحايا نظام الديكتاتور بالوكالة. هذه الثورة تظهر كتاريخ بعيد وملتبس للسياق الأول، وكخصم يجب إسكاته في السياق الثاني. 
…حتى باتت الثورة نفسها خارج السياق. 


خُفوتُ الثورة شرط السقوط

لم تخرج «الثورة» من السياق من تلقاء نفسها. فخفوتها، إن لم نقل اختفاءها، بات شرطًا لسقوط الأسد وانضمام سوريا الجديدة إلى النظام الإقليمي الصاعد. كان لا بدّ من التضحية بها. فـ«الثورة السورية»، في سنواتها القليلة في بداية الحراك، شكّلت إسمًا لنقدٍ سياسيٍّ طال الممانعة وخطاباتها العفنة، بالإضافة إلى الأنظمة العربية القمعية وسياساتها. كانت نقدًا لم يستوِ ضمن الاصطفافات المعتادة، وراكم «نفياً مزدوجاً» ليرسم مكانًا يسمح للشعب السوري الذي تمّ تغييبه لعقود، بالوجود خارج التناقضات الإقليمية. شكّلت هذه الثورة إذاً خطرًا على الجميع، وكان من الضروري التخلّص منها. 

فانتهاء الثورة كان شرطًا للدعم الإقليمي الذي قبل باستبدال نظام حكم بآخر، بعدما اطمئنّ إلى أنّ لا امتدادات عربية لهذا التحوّل. «الثورات العربية»، ومعها «الثورة السورية»، باتت من الماضي، قمعها فتح الطريق أمام النظام العربي الجديد الذي لم يعد يشكّل سقوط ديكتاتور مصدر قلق له. فبات لسوريا الجديدة مكانها في النظام العربي الجديد. 

كذلك كان انتهاء الثورة شرطًا لبناء سيادة الدولة الجديدة. النقد لا يستوي مع السيادة، كما أن الثورة لا تصبح دولة. وبات ممكنًا للنظام الجديد في سوريا أن يحتفي بالثورة باللحظة ذاتها التي يقمع بها أي اعتراض داخلي، بعدما نجح في توحيد الشرعيات بيد النظام، وبالتالي القضاء على  فكرة الثورة الشعبية كمصدر لشرعية شعبية قد تهدّد شرعية «مَن حرّر». 


فضيحة الثورات

تدلّ الذكرى الأولى للسقوط على المسافة الكبيرة التي تفصلنا عن الشرارة الأولى لهذا المسار، في الربيع العربي وثورات الشعوب ضد حكامهم والفضيحة المزدوجة التي شكّلتها آنذاك للأنظمة العربية: فضيحة أنّها كانت «ثورات» وبالتالي عرّت الحكّام من أي شرعية داخلية، وفضيحة أنّها كانت «عربية»، أي تعبّر عن منطق سياسي عابر للحدود والخصوصيات السيادية. وسمح هذا الطابع «العربي» بإنقاذ الثورات «الوطنية» من أي محاولة لاحتوائها من قبل الأنظمة، من خلال تحويلها إلى اعتراض على تفصيل من هنا أو وزير من هناك. هذه «الفضيحة» كان لا بد من ضبطها، وإعادة فرض سيادة الأنظمة على شعوبها. 

هذه الفضيحة تمّ تأديبها، لتأتي الذكرى في زمن بات من المستحيل تخيُّل اعتراض داخلي أو سقوط لديكتاتور عربي. 


أنظمة إقليميّة، شعوب محليّة

استعادت الأنظمة العربية سيادتها، أكانت الداخلية على شعوبها أو الخارجية حيال أي حالة من الاعتراض العابر للحدود. في لحظة تشابك إقليمي وإعادة رسم للمنطقة «من فوق»، تمّ حصر المعارضات ضمن سيادات الدول، لتصبح أقرب إلى اعتراضات محليّة، لا تهدّد البنيان الحاكم. فبين سوريا وفلسطين ولبنان، ارتباط من فوق، في طرق إدارة شؤون البلاد والتصور المشترك لمستقبلهم، في غياب أي تصور معارض جامع، أفقه السياسي أوسع من حدود السيادات المتخيلة. 

بتنا بعيدين عن زمن الثورات، عن الشرارة التي أدّت إلى سقوطه. 

رغم ذلك كله، ورغم محاولات تأطير الذكرى رسميًا وإقليميًا وتطويعها، هناك قدرة سياسية كامنة فيها، في هذا المشهد لديكتاتور عربي، يفرّ من بلاده بعد سقوطه في الشارع والميدان. قد يبدو هذا الاحتمال مستحيلًا في الحاضر، وهو حاضر تمّ بناؤه لتفادي تكرار هذا الحدث. الذكرى تُبقي الاحتمال موجودًا، في المخيلة على الأقل، ريثما تنكسر مجدّداً قبضة الحاضر على السياسة.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
تعليق

سنة على سقوطه

سامر فرنجية
بن غفير يرتدي دبّوس مشنقة 
3,000,000 سوري
قوّات الاحتلال تقتحم مقرّ الأونروا في القدس الشرقية
فرانشيسكا البانيزي: لن أسكت ما دمتُ أتنفّس
«حديقة الشهداء» في الخيام: شجرة صنوبر لكلّ شهيد