مشاهد الأسرى
تتجاوز مشاهد الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين الصورة السياسية المناطة بها، لتكون لحظة رمزية كاشفة، لحظة تعيد طرح أسئلة حول علاقة السلطة بالجسد ومعنى العودة بعد الأسر والبنية الاجتماعية التي يلقى إليها الجسد الأسير وقد خرج من سجنه وزنزانته. كما تشير المشاهد إلى تحوّل جسد الأسير إلى أرشيف حيّ يحمل من جهة، آثار الزمن والعنف والسيطرة، ومن جهة أخرى، رموز الجماعة وتطلعاتها، باعتباره «صورة فدائية» عن القضية وأداة لخيالها الجمعي وسبباً لاستعادة لحمتها بعد أن فككتها الإبادة وعمليات التهجير والقتل.
بمعاينة بسيطة للفيديوهات المنتشرة للأسرى الفلسطينيين، يمكن محاكاة الأجساد المحرّرة، بما عرف يوماً بالناجين من المحرقة النازية. وأحياناً لا يمكن وصف تلك الأجساد الشبحية بالكلمات. فالندوب الجسمانية والهزال والهوان ليست سوى ما هو معلن من أثر الأسر وزمنه، والذي يبدو أن الأسير يجرّه معه خارج القضبان. كأنه ظلّه الدائم. فزمن الأسر لا يتوقف بعد لحظة التحرير. يستكمل معناه وأثره المضاعف بعد الخروج من الجدران ومن سيطرة سلطة السجّان المباشرة. فيبدو كأنّ عملية الأسر تستمرّ بآثارها على الجسد المتهالك والمعنَّف والمقموع، حيث يثقل جسد الأسير الضعيف، بحمولة السجن وأدواته وإشاراته المقموعة والمكبوتة.
معظم الفيديوهات والصور التي تناقلتها وسائل الإعلام تُظهر الأسرى أشبه بهياكل عظمية، بعضُهم فاقدٌ للتركيز وقليل الكلمات أو أشبه بفاقدي النطق. تبدو الهشاشة أكثر ما يجمعهم تحت بيجاماتهم الرمادية الباهتة. وجوههم غائرة وملامحها متكسرة وعيونهم محاطة بهالات داكنة ومجوّفة. أجساد ضعيفة ومتيبّسة الحركة، وعلامات واضحة من سوء التغذية ونقص الشمس. عظام أكتافهم ووجوههم بارزة، وجلودهم شاحبة تميل إلى الصفرة، كأنّ الضوء نفسه لم يلمسهم منذ زمن طويل. بعضهم يعاني من أمراض جلدية أو آثار ضرب واضحة، وآخرون يسيرون ببطء بسبب إصابات قديمة لم تعالَج بل تُركت كي تزيد من معاناتهم. أسنان كثيرين متآكلة أو مفقودة، بعضها أصفر بسبب غياب العناية الطبية، وبعضها مكسور من العنف أو الإهمال.
معظم هؤلاء الأسرى العائدين إلى قطاع غزة لم يجدوا مدينتهم التي تركوها. لا بيوتهم ولا أجساد عائلاتهم التي بقي معظمها تحت الأنقاض. عادوا إلى حيّز جغرافي مباد، بأجساد شبه مبادة ومحطّمة وبذاكرة خربتها سنوات السجن. هذا الحيّز الذي عاينوه بدهشة، يموت تحته عالمهم القديم. طفولاتهم. حيواتهم السابقة. قصص عشقهم ومراهقاتهم ونضالهم أيضاً. بعض العائلات التي كانت تنتظرهم تهشّمت أجسادها تحت الركام. أمّهاتهم قُتلنَ، إخوتهم فقدوا، وأطفالهم سُحلوا تحت وابل القذائف. كانت هذه لحظة اللقاء، بين الفرح بالحرية والصدمة أمام الخراب. لحظة فارقة أمام عالمهم الذي بدّده السجن وآخر دمّرته آلة الإبادة. يقفون بأجسادهم تلك أمام هول لحظة لا تنسى، لعالمهم الذي انهار وماضيهم الذي استحال رماداً ومستقبلهم الذي يبدو أنّ جسدهم هذا، يحدّده. فهم يُعطون على الفور أدواراً بطولية ورمزية، تنفي عنهم صفتهم العادية وحاجتهم لها بعد كل هذه السنوات. فالبطولة التي تحتاج لها الجماعة الفلسطينية اليوم، تسجن الأسير مجدداً، بمنطق الانتصار وبشيء من التقديس، يتحول الأسير الى أداة مؤبدة في مفهوم المقاومة. لا يعود الأسير كائناً يستحق العيش كغيره، محاولاً إزالة أثر الصدمات والتخفف منها، بل يحمل ثقلاً جديداً عليه وأدواراً يحتاجها الخيال الجمعي بعد أن فككت سردياته الإبادة الإسرائيلية.
وثيقة متحرّكة
في هذه اللحظة الفارقة، لا يمكن النظر إلى الإفراج كحدث سياسي وحسب، بل كواقعة أنثروبولوجية وسوسيولوجية وفلسفية تمسّ جوهر علاقة الإنسان بالسلطة والزمن والعنف والمقاومة نفسها. فالجسد الأسير بكونه جسداً محكوماً ومؤطّراً داخل حدود مادية ومعنوية صارمة، يتحوّل إلى جسد متعدد الطبقات والمفاهيم. تتقاطع فيه السياسات الحيوية مع الأبعاد الرمزية للمقاومة والهوية الفلسطينية. في لحظة تحرّره، يكشف هذا الجسد عن البنية العميقة لسلطة القمع والاحتلال والاستعمار. فالجسد الذي يغادر السجن يصير وثيقة متحركة. يحمل معه ذاكرة موزعة داخل عضلاته التي هزلت، وعلى ملامح وجهه الضامر، وعلى كل حركته البطيئة والمترددة والجافلة. يصير دليلاً قاطعاً على عالم السجون الإسرائيلية المعروفة باتباعها أبشع أدوات العنف النفسي والجسدي. يتحول إلى ذاكرة متجسدة تختزن الصراع والبطء والألم والخدر والخوف. وتحكي الصور الميدانية للأسير بعد الإفراج قصصاً مضاعفة. تتحول علامات الأسر إلى خطاب الجسد نفسه مثل بيان صامت عن السيطرة وعن العنف اليومي الممنهج.
جسد مفرط في المعنى
يشكل الجسد الفلسطيني الخارج من السجن موقعاً مزدوجاً داخل الحقل الرمزي والسياسي، تتقاطع فيه ثنائية المجد والعار، والبطولة والتهديد. فهو أيضاً يحتفظ بصورة العدو عنه، كمهدد. فهؤلاء بعد خروجهم يحملون أيضاً الخوف على مستقبلهم، فحياتهم وإن نالت الحرية وبعضها مشروط (كناصر أبو سرور الذي منع من دخول فلسطين وأبعد الى القاهرة)، تبقى مهدّدة. البعض منهم قد يتعرضون للاغتيال السياسي والأمثلة كثيرة. عدا أن مستقبلهم قد يتجمّد في تحويلهم إلى أيقونات في مجتمعهم الفلسطيني والعربي، وجعلهم أجساداً مفرطة في المعنى. لكن بين الجسدين، جسد السلطة وجسد الرمز، هناك هوّة لا تردم ولن يحس بها سوى الأسير نفسه الخارج إلى عالم يسكتشفه بعدما تبدل عليه وتهشم وتشوش. وهذا ما يجب الوعي بشأنه أنّ الأسير العائد ليس قديساً ولا ضحية. هو من عبر تجربة الاستثناء، ويعرف أن الحرية ليست سوى شكل آخر من أشكال الانضباط. فالمجتمع الذي يحتفي به اليوم سيطالبه غداً بأن يكون نموذجاً للبطولة أو للصمت. سيطالبه بأن يبقى جسداً مقاوماً حتى وهو يحاول أن يعيش كإنسان عاد بألبسة عادية وبيوميات عادية. فهو سيتحول إلى مادة إعلامية وستستهلك صورته. السلطة على هذا الجسد لا تنتهي عند باب السجن، بل تعيد تشكيل نفسها في طرق استقبال الأسير، وتحويله إلى مادة دعائية للمقاومة والنصر وفي النظرة إلى جسده، كجسد مؤرشف للسجن ومادة للتداول، وأيضاً في كيفية استهلاك صورته وابتذالها.
تجسيداً لذاكرة النضال
وبهذا المنطق، يمثّل الجسد الأسير المحرّر تجسيداً ماديًا لذاكرة النضال. يعاد تأطيره كجسد فدائي، أي كرمز للبطولة والكرامة الوطنية، حيث تصبح الندوب والعلامات الجسمانية التي خلّفها الاعتقال الوحشي شواهد على الفداء والصمود. يتخذ الجسد هنا في المخيال الجمعي الفلسطيني، وظيفة تذكارية، أي أنه يصير مادة أرشيفية حيّة للمعاناة، ومستودعاً لزمن المقاومة. تشكّل مراسم استقبال الأسرى حدثاً اجتماعياً مركّباً: فالأغاني والزغاريد والأعلام والصور ليست تفاصيل جانبية، بل رموز تعمل على إعادة إنتاج الجماعة المتخيّلة. في الاحتفالات الفلسطينية بخروج الأسرى، يتجسد هذا المعنى بوضوح: الجسد العائد يُستقبل بالسعادة ودموعها، ولكن خلف هذا الفرح يكمن الحداد على الزمن المفقود، وعلى الذين لم يعودوا. الطقس، بهذا المعنى، يحاول أن يجعل الألم له قابلية للمشاركة الاجتماعية. إنه شكل من أشكال تحويل الجرح الفردي إلى سردية جماعية. أي إلى مادة رمزية قادرة على إعادة ترميم الجماعة بعد التفكك الذي سببه العنف السياسي والاستعماري والتدمير والتهجير القسري والإبادة الجماعية. هذه الطقوس تشكّل أدوات لإعادة ترميز الجسد وتؤكد موقعه في الذاكرة الوطنية، من دون مراعاة فردانيته وحاجته اليوم إلى استعادة هذه الفردانية وترميم علاقته بذاته وبأحلامه من دون أدوار أو مواقع. وعليه، فإن الإفراج عن الأسرى لا يُنهي حالة الأسر بقدر ما ينقلها من مستوى الممارسة المادية إلى مستوى الممارسة الرمزية.
الانفصال الزمني
يبدو أنّ واحدة من أكثر المعضلات التي تواجه الأسرى المفرج عنهم هي فجوة الزمن. فالسنوات الطويلة التي انقضت داخل السجون ليست مجرد فترات معزولة من العمر، بل فترات خارج الزمن الاجتماعي. من منظور علم الاجتماع الزمني، يمكن القول إن السجن يجمّد الزمن الشخصي. ينتج ما يعرف بالانفصال الزمني. يعيش الأسير زمناً مختلفاً عن زمن المجتمع. يتحول خروجه إلى عودة من مستقبل مؤجل. الشباب الذين دخلوا السجون في العشرينات وخرجوا في الخمسين أو الستين، يجدون أنفسهم غرباء عن التكنولوجيا، عن أساليب الحياة، وحتى عن اللغة اليومية. هنا، يظهر البعد الاجتماعي لصدمة العودة. الجسد الذي تكلّس داخل بنية زمنية منضبطة وعنيفة وفجة، يُرمى فجأة في مجتمع متغيّر لا يعترف بإيقاعه القديم وأمام حياة متداعية ومدمرة ومبادة وأمام أهوال وكوارث جماعية سببها الاستعمار والاستيطان والإبادة. ومن المهم النظر إلى إعادة إدماج هؤلاء الأسرى، كمسألة إعادة صياغة للزمن الاجتماعي نفسه. والسؤال الملح في هذه اللحظة الفارقة كيف سيستوعب المجتمع الفلسطيني جسداً خرج من زمن السلطة العنيفة إلى زمن الذاكرة والترميز؟ وهل يمكن تحريره من الصور المنمطة عنه والتي بدأنا نراها في السوشيال ميديا، كصورة نهائية لجسد لا يريدون رؤيته سوى كبطل وكرمز للقضية.