جغرافيا الطوائف اللبنانية
الطوائف اللبنانية ليست فقط خطاب وأحزاب وجماعات. هي أيضًا مناطق ومساحات وحدود، غالبًا ما يتمّ التصارع من حولها، إمّا عسكريًا وإمّا ديموغرافيًا. وإذا كانت معظم مناطق لبنان «مفروزة» طائفيًا، وبالتالي واضحة الانتماء السياسي، توجد بعض مناطق التشابك والتقاطع، ومن أهمّها العاصمة بيروت التي شهدت على طول العقود الأخيرة صراعًا حول انتمائها وهوية «أبنائها الأصليين» وحدود كل جماعة فيها.
في وسط هذه العاصمة المتصارع عليها، هناك صخرة، كانت حتى الأسبوع الفائت، وفي أحسن الأحوال، خلفيةً لصور عشّاق وجدوا في هذه الكزدورة آخر ملاذ لهم في مدينة تمّ خصخصة مساحاتها وتسكيرها. لم يكن أحد يكترث لهذه الصخرة في وسط بحر رُدم لسنوات. هذا قبل أن تلتفت الطوائف للصخرة، وتحوّلها إلى نقطة تكثيف لصراعاتها، تلخّص عمق الأزمة السياسية.
تحوّلت «صخرة الروشة» بأقلّ من أسبوع من معلم بالكاد يصلح ليكون خلفية صورة تذكارية إلى نقطة تكثيف الصراعات الأهلية، لتتحوّل إلى ما يشبه «بوسطة عين الرمّانة» جديدة، ترسم بالعنف الجغرافيا الجديدة للطوائف اللبنانية وبالنفاق عمق أزمة الإجماع الوطني.
«نواب بيروت» ونفاق العلاقة مع الشيعة
بدأت حفلة الجنون مع قرار حزب الله إضاءة صخرة الروشة بصورة الأمينَين العامَين نصرالله وصفي الدين في الذكرى السنوية لاغتيالهم. ربّما اعتبر حزب الله أنّ خيارًا كهذا قد يُضيف بعضًا من «المدنيّة» على حزبٍ اشتُهر لاحتفالاته العسكرية، أو قد يقدّم بعدًا «وطنيًا» لاحتفالاته.
لم يمرّ الكثير من الوقت قبل استنفار «نوّاب بيروت»، دفاعًا عن «صخرتهم»، مطالبين الحزب ومناصريه بالبقاء في «مناطقهم». كان عنفوان النائب التغييري وضّاح صادق ملفتًا في عنفه المستجدّ: ما تجربوا تقربوا على صخرة الروشة يوم الخميس لإن القرار اتُّخذ وممنوع يصير أي نشاط هونيك. تمّت ملاقاة النفير العام من قبل نائب آخر، نبيل بدر، والذي طالب من يريد الاحتفال بالذكرى أن يبقى في مناطقه: إن إحياء أي ذكرى يصبح أسمى حين يتم في فضاء يعبّر عن أصحابه، لا على معلم ارتبط بتاريخ العاصمة وهويّة الوطن الجامع. ولأن بيروت لكامل أهاليها، استنكر النائب نديم الجميّل، والذي يقف تمثال أبيه في الوسط «المسيحي» للعاصمة، مصادرة «الصخرة» من قبل مشروع سياسي: فرض رموز حزب الله على الواجهة البحرية إقصاء لصوت اللبنانيين و خاصّةً أهل بيروت الرافضين لفكرة السلاح والهيمنة. بيروت ليست للجميع، أو بالأخصّ، ليست للشيعة، إلّا في لحظات الحاجة لأصواتهم الانتخابية لإنقاذ «المناصفة» في المجلس البلدي.
بين سطور المواقف الرافضة، ظهر إلى العلن الالتباس التاريخي حيال علاقة ممثّلي العاصمة بسكّّانها الشيعة، المطالبين بالبقاء بمناطقهم مع احتفالاتهم. فبيروت عاصمة لبنان، لكنّها ليست للجميع.
حزب الله ونفاق «لبننته»
النفاق غالبًا ما يعمل بالاتّجاهين. وهو بدأ مع قرار حزب الله محاولة تحويل مناسبته إلى مناسبة جامعة، متجاهلًا انقسام البلاد، ورافضًا القيام بأي محاولة لطَي صفحة الصراع الداخلي. فكان واضحًا أن قرار الإضاءة ليس موجّه للداخل اللبناني، بل للخارج، في محاولة لإظهار حزبه وكأنّه يحظى بإجماع وطني. كما أنّه، وتحت غطاء البحث عن إجماع وطني، محاولة لتذكير الداخل بأنّه ما زال قاردًا على فرض قرارته. فاختار حزب الله الصخرة، متجاهلًا العلاقة المتوتّرة لمعظم طوائف المدينة مع حزبه، ويومه المجيد في 7 أيار. وعندما احتدّ السجال، سقط قناع الخطب الجامعة، لتعود علاقة الاستتباع المتمثّلة بالتهديد الخطابي والموتوسيكلي حول انتماء الصخرة.
منذ قيام حزب الله، وهو يتلاعب على فكرة «لبننته»، بين مطلب الاعتراف وفرض الاستتباع، في نفاق المهيمن-المستضعَف. حزب الله ما زال يكابر على أحداث 7 أيّار وفترة هيمنته، والتي تقف اليوم عائقًا أساسيًا أمام أي محاولة «لبننة».
الموقف الرسمي ونفاق القوانين
في خضمّ هذا السجال السياسي والأهلي، قرّر لبنان الرسمي، بإسم رئيس حكومته، العودة إلى القانون. فأصدر تعميمًا «بشأن الالتزام بتطبيق القوانين التي ترعى استعمال الأملاك العامّة البرّية والبحرية والأماكن الأثرية والسياحية والمباني الرسمية والمعالم التي تحمل رمزية وطنية جامعة». في بلد يتمّ فيه يوميًا خرق القوانين التي ترعى استعمال الأملاك العامة، وفي مدينة مقسّمة على مناطق أمنية لكافة الأحزاب، حتى الصغرى منها، وعلى شاطئ سرقته شركات خاصة، يأتي التعميم لكي يحوّل القانون إلى أداة في صراع أهلي وسياسي، وتطبيقه نتيجة للتلفيقات الوفاقية ذاتها التي تدير البلاد.
في ظل الصراعات الأهلية، تلطّي الدولة بـ«القوانين» فيه شيء من النفاق. فتَحرُّكها في بعض اللحظات لا يضيء إلّا تقاعسها في مجالات أخرى، لتبدو لغة القانون هروبًا من مواجهة الأزمة الأهلية.
الانتحار الذي تحوّل إلى اغتيال
لو وقفت الأمور عند هذا الحدّ، لكان من الممكن «تفهّم» حزب الله بدعوته لتحويل مناسبته إلى حدث جامع. لكنّ، وكالعادة، يذكّر حزب الله الجميع أنّ ميزته الأساسية، بعد السلاح، هي التذاكي الولّادي. فجاء قرار الحزب بإضاء الصخرة، رغم وجود اتّفاق حاول أن يجد مخرجًا لهذه الأزمة المستجدّة، كتحدٍّ للجميع. ولم يكتفِ بالإضاءة، لكنّ سرّب موقفه الضمني، من خلال سماجة إعلامية لرئيس وحدة الارتباط والتنسيق، وفيق صفا، والتي كشفت أنّ المغزى من كل هذه المسرحية كان كسر الخصم الداخلي. كما اتّضح أنّ التباكي الصباحي على استبعاد الحزب من الإجماع الوطني يتحوّل بسرعة إلى تذاكٍ مسائي، يراد منه كسر الخصم ولو على حساب أي ثقة مع باقي الفرقاء اللبنانيين — هذا، من غير الإشارة إلى أنّ ما بدأ بـ«صورة» الأمين العام، انتهى إلى «اصبعه» الشهير.
بدأت القضية كإجحاف بحق جماعة لبنانية ورفض «شملها» بالمدينة، لينتهي، كالعادة، باستعراض قوّة من حزب الله، هدفه الوحيد كسر الخصم الداخلي. وفي هذا الفارق يقبع ابتزاز حزب الله الدائم، حزب حتى الآن لم يقدّم أي نقد ذاتي لا لمحاولة إخضاع الداخل ولا للهزيمة أمام الخارج.
من هم آباء لبنان؟
في الصراع حول صخرة الروشة تكثيف للصراعات الأهلية اللبنانية ونفاق الانتماء الوطني والتباس القانون. لكنّ هناك أيضًا تكثيف للحظة الراهنة حيث تحوّلت معضلة سلاح حزب الله إلى مسألة إضاءة صخرة في ظل انقسام طائفي. وقد تكون المعضلة التي تواجه البلاد هي في كيفية دمج نصرالله في «بانثيون آباء لبنان السياسيين»، حيث يُدفنون كشهداء طوائف ليتحوّلوا إلى آباءٍ لإجماعٍ هشّ. عندها فقط يُسمح لهم بإضاءة معلم كصخرة الروشة.
بعد اغتيال الحريري، تمّت صياغة رواية جامعة ترى في الموت مصدر لإجماع بين الأحياء. فتمّ إعادة تأهيل بشير الجميل، كشهيد في قافلة شهداء، انتهت باعتراف الرئيس الحالي بدوره. وبين جنبلاط والحريري والجميّل، كان هناك شهيد ناقص لكي يكتمل الإجماع اللبناني. ثم سقط الشهيد بالفعل، لكنّ هذا لم يكفِ. فشرط هذا الانتماء هي نهاية المشروع السياسي.
ثمن إدخال نصرالله إلى «قافلة شهداء لبنان» هو نهاية مشروعه السياسي. فالتحوّل إلى فولكلور وفاقي، تُضاء صخرة الروشة من أجله هو القبول بالهزيمة، وبالتالي الدخول إلى رواية الخسارة الجامعة. وهذا ما لم يقبله حتى الآن ورثة نصرالله.
اللبناني الذي يغرّد خارج السرب
بينما يتقاتل اللبنانيون حول صخرة الروشة، أعطى المبعوث الأميركي مقابلة أظهرت مدى خروج الطبقة السياسية اللبنانية من المعادلة السياسية. ففي بعض الكلمات المقتضبة، أكّد برّاك أن «السلام هو وهم»، والمطلوب بات الخضوع التام لمطالب المنتصرين، ليؤكّد للطرف المطالب بنزع السلاح أنّ ليس من سلام أو حتى تجاوب إسرائيلي في المستقبل القريب. كما أكّد أن ليس من حافز لحزب الله ليسلّم سلاحه، وهو الخصم الذي تقرَّر تدميره، ليضع حدًّا أمام أي إمكانية لخروج سلمي من المعادلة الراهنة. في مقابلة واحدة، فضح برّاك اللعبة الداخلية، كما هي، أي صراع زعامات محلّية حول صخرة في نصف البحر، تُخاض على أرض صراعاتٍ أكبر منهم بكثير.
صخرة الروشة ليست فقط معلم سياحي أو رمز وطني. هي أيضًا في المخيّلة الشعبية نقطة انتحار كل مَن ضاقت الحياة فيه. ويبدو أنّنا ذاهبون جميعًا إلى ما يشبه الانتحار الجماعي.
في النهاية
بعد انتهاء الأزمة الوطنية بعرض إضاءة رديء، لا يمكن إلّا استخلاص أنّ المشهد كان محزنًا.
فثمة ما هو محزن بخطابات حزب الله الحالية، والتي انحدرت من إعلامٍ حربي كان يتحدّث عن تصدّي مقاوميه للعدو في الميدان إلى صورة وفيق صفا يردّد ترّهات الـ«سيكي لح لح». كما هناك ما هو مثير للشفقة في تلخيص الذكرى السنوية للاغتيال بهمروجة على الكورنيش.
وثمّة ما هو محزن عند معارضي الحزب الذين خلقوا بلبلةً كان من الممكن تفاديها بكل بساطة. فأكّدوا أن ملعبهم هو العنتريات الإعلامية ليس إلّا، لتأتي «أزمة صخرة الروشة» وتصطف إلى جانب «أزمة توقيت الساعة»، في قاموس السخافة اللبنانية.
وثمّة ما هو محزن ومخيف على حدّ سواء، وهو أنّ إدارة البلد، من عهدٍ وأحزاب، لم تستطع تجاوز مهرجان إضاءة صخرة، والبلد ما زال في حالة حرب، منهمكًا اقتصاديًا وعلى شفير انقسام أهلي خطير.
ويبقى أنّه على الجميع، بدءًا من حزب الله، مراجعة أحداث الأيام الأخيرة. ربّما إذا فعلوا، أدركوا مدى سخافتهم، والتي تتحوّل إلى جريمة عندما تكون البلاد على حافة انهيار جديد.