في كلمته أمام الكنيست الإسرائيلي، قبل أسبوع، أكّد الرئيس الأميركي دونالد ترامب دعم إدارته للرئيس اللبناني الجديد جوزاف عون و«مهمّته بنزع سلاح كتائب حزب الله الإرهابيّة بشكلٍ دائم». في هذه الصياغة ما يثير القلق، ليس لأنَّها معلومة جديدة، بل لأنَّ سياق هذه الجملة ومكان تصريحها جديد. وصف ترامب نزع السلاح بـ«المهمّة»، أي أنّه ينتظر تنفيذها. و«المهمّة» تعني أيضاً أنّها فعل أمر، خاصّةً إذا جاءت من الرئيس نفسه وليس على لسان ممثليه كما سبق، وهذا تصعيدٌ مفصلي في الخطاب الأميركي تجاه لبنان.
التصريح
هناك أربعة مستويات تجعل من تصريح ترامب مشكلةً كبيرة.
مكان التصريح: الكنيست
من وكر تشريع الإبادة، تكلّم ترامب عن مهمّة السلطات اللبنانية الجديدة. إذا كانت الإدارة الأميركية تزعم سابقاً أنّها تريد مصلحة لبنان، وأنّها تساعده على الوقوف على قدميه مجدداً، فلم يعد ذلك منطقيّاً بعد خطاب ترامب في الكنيست. لقد دمّر ترامب أيّ ادّعاءٍ بالحياد، وفضّل أن يطرح شأناً لبنانياً من منبر مجلس النوّاب الإسرائيلي، قائلاً أنا أعلم أنكم تؤيّدون [نزع السلاح] بشدّة. تبدو «مهمّة» نزع سلاح حزب الله إذاً بمثابة هديّة وخدمة يقدّمها ترامب إلى المجتمع الإسرائيلي.
سياق التصريح: التطبيع والانتصار
جاء هذا التصريح في سياق كلام ترامب عن اتفاق وقف إطلاق النار الذي فرضه على إسرائيل وحماس. تغنّى ترامب بعظمة هذا الإنجاز غير المسبوق، وكرّر لنتنياهو أنّه انتصر وإيّاه، واعتبر هزيمة حزب الله فوزاً أميركياً على الشر والحروب. أعلن ترامب في خطابه أنَّ هذا هو «عصر إسرائيل الذهبي»، خاصّةً مع خطّته لتوسيع اتفاقيات أبراهام إلى لبنان وسوريا. فكان ذِكر ترامب لنزع سلاح حزب الله أشبه بالتأكيد على أنّه شرطٌ يمهّد للسلام مع إسرائيل. بدلاً من أن يلتفت للخراب الذي ساهم به في لبنان، رسّخ ترامب رسالةً واضحة هي أنَّ تفكيك القدرات العسكريّة لحزب الله يصبّ بالمصلحة الأميركية والإسرائيلية.
منطق التصريح: أوامر من فوق
لم يكن تصريح ترامب جزءاً من نقاشٍ شامل مثلاً عن الوضع في لبنان. ولم يكن جزءاً من مفاوضات لوقف الأعمال العدائية الإسرائيلية على لبنان. لم ينبع أيضاً من نيّةٍ أخويّة لمساندة لبنان. كان تهديداً واضحاً من رأس الإدارة الأميركية ومن داخل إسرائيل: انزعوا السلاح أو ستضيّعون فرصة السلام وسيفوتكم القطار.
الناطق بالتصريح: رئيس الكوكب
سبق لمورغان أورتاغوس، نائبة المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، أن عبّرت من داخل قصر بعبدا، في شباط الفائت، عن امتنان أميركا لإسرائيل على «هزيمة حزب الله». أحدث هذا التصريح ضجّةً كبيرة، لكنّها لم تكن كافية لوضع حدٍّ لهذا التمادي. من هناك، بدأ يتصاعد الخطاب الأميركي الفظّ، فهدّد المبعوث إلى لبنان توماس برّاك، من قصر بعبدا أيضاً في آب الفائت، بأنَّ نزح سلاح حزب الله لم يعد مرتبطاً بالانسحاب الإسرائيلي من النقاط الخمسة التي يحتلّها. رغم وصفه الصحافيّين بالحيوانات واستيائه من المماطلة، لم يؤطّر برّاك قضيّة نزع السلاح كإملاءٍ أميركي، بل قال حينها إنّه شأنُّ لبنانيّ يصبّ بمصلحة الوطن. تجنّب برّاك إذاً استخدام صيغة الأمر، بعكس ترامب الذي اختار أن يقول لنا من الكنيست أنَّ الوقت بدأ ينفد. ختم ترامب إذاً تصعيد الخطاب الأميركي، ولم يعتمد هذه المرّة على سماسرته، بل اختار أن يبشّر به بنفسه.
إرث الحرب الأهليّة كمَخرج
أين يترك إذاً تصريح ترامب الخطّة اللبنانية لنزع السلاح؟ لم تعد المسألة قضيّة شرعيّة داخليّة، بل باتت محاولةً لفرض الاستسلام الكامل. هذه هي الحقيقة التي لا يزال العهد الجديد يحاول إخفاءها.
اعتمد البيان الوزاري للحكومة اللبنانية وثيقة الوفاق الوطني كمرجعٍ قانونيّ وخطّة عمل. يلتزم البيان الوزاري بأحد بنود الطائف الأساسيّة، وهو بسط سيادة الدولة على كافّة أراضيها بقواها الذاتية. يقتضي ذلك حلّ الميليشيات وتسليم أسلحتها للدولة، بموجب خطّة أمنيّة مدّتها سنة. يبدو ذلك منطقياً في سياق إنهاء الحرب الأهلية، لكنّه ليس منطقياً في سياق حربٍ من طرف واحد، خاضها عدوٌّ ضدّ بلدٍ بأكمله.
ينصّ اتفاق الطائف أيضاً على تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي عبر «اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة»، و«إتاحة الفرصة لعودة الأمن والاستقرار إلى منطقة الحدود». تبنّى البيان الوزراي هذا البند، مضيفاً حقّ الدفاع عن النفس بحال حصول أي اعتداء، الأمر الذي لم يحصل، رغم أكثر من 3,000 خرق إسرائيلي لاتفاق وقف إطلاق النار.
أرادت السلطة الجديدة إذاً مرجعاً قانونياً يُجمع عليه اللبنانيّون كوثيقةٍ شرعيّة، إدراكاً منها أن موضوع حصر السلاح سيواجَه بالرفض في أحسن الأحوال. وضعت الحكومة خطّةً لنزع سلاح حزب الله، مزّقت الشارع اللبناني. تدافع الحكومة عن الخطّة كمشروعٍ وطنيّ، بحجّة أنها ليست إلّا تطبيقاً لاتفاق الطائف الذي كانت الأحزاب اللبنانية قد وافقت عليه، فلا جدل إذاً بشرعيّته. لكنَّ هذا المنطق شائب، فكما نعرف، ولد اتفاق الطائف بعد 15 عامٍاً من الحرب الأهلية التي قتلت 150 ألف شخص وفُقد إثرها 17 ألف شخص. فكيف لخاتمة هذه الحرب، التي صاغها أطراف الحرب أصلاً، أن تكون أساساً شرعيّاً لبناء دولة، من دون أن تحصل أي جهود للتعافي وجبر الضرر، ومن دون أي محاكمات فعليّة. كيف لاتفاقٍ لم يبصر النور طيلة الـ36 سنة الفائتة أن يتحوّل إلى نموذج اليوم، من دون أي مراجعة من حكومة «عهد الإصلاح» لشرعيّة هذا الاتفاق؟
تبدو استعادة زمن اتفاق الطائف إذاً مجرّد تخريجة للعهد الجديد كي يطرح مسألة نزع سلاح حزب الله، التي لم تكن بالحسبان، خاصّةً بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان. وجدت الحكومة في إرث الحرب الأهليّة ملاذاً لترسيخ إرث الحرب الإسرائيلية، أي لتطبيع الهزيمة والانصياع.
الفرص الضائعة
ضيّع العهد الجديد فرصةً لصياغة خطّةٍ شاملة لمواجهة التهديد الإسرائيلي وطمأنة الهواجس التي تفاقمت بعد الحرب الوحشيّة. كان يمكن للحكومة أن تضع مثلاً خطّةً لتحرير الأراضي اللبنانية، كما ينصّ اتّفاقها المفضّل (الطائف)، وأن تُدرج فيها إعادة الإعمار والالتفات للمهجّرين وتأمين الخدمات الأساسية في المناطق الحدوديّة وبدء مسار ملاحقة إسرائيل قانونياً. لو صاغت الحكومة مثلاً خطابها حول محاولة التعافي من الحرب، بدل تصدير شعار نزع السلاح لاسترضاء الخارج، كان يمكن لها أن تتجنّب الاحتقان الداخلي، عبر إعادة تعريف الدفاع عن لبنان.
لكنَّ الواضح أنّ الحفاظ على حيّزٍ للردع والمواجهة ليس من أولويات العهد الجديد الذي اختار أن يسلّم كلّ شيء وأن يتخلّى عن أيّ شروط من شأنها أن تحمي لبنان من الدم. فإذا استطاعت حماس أن تفاوض لأكثر من عامين لتحرير الأسرى الفلسطينيين، بعدما خسرت كلّ شيء، كان يمكن للبنان أن يفاوض على الكثير. لكنّنا للأسف وصلنا إلى طريقٍ مسدود، تشوبه الشكليّات البالية والشعارات المستفزّة، بينما لا تزال إسرائيل تحتلّ الجنوب وتقصف المدنيّين وتلاحق الجرّافات وتضاعف الدمار وتستهدف ما تشاء.