تتواصل منذ 30 شهراً فصول الحرب الطاحنة في وسط السودان وغربه بين الجيش الموالي لحُكم عبد الفتّاح البرهان وقوّات الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان داغالو (حميدتي). تتداخل في هذه الحرب، التي أدّت حتى الآن إلى مقتل أكثر من 150 ألف شخص وتهجير 12 مليون آخرين في بلد ضخم المساحة ويتخطّى عدد سكانه الخمسين مليوناً، عناصر داخلية وخارجية، بعضها قديم وبعضها مستجدّ. والعناصر هذه تجعل في تداخلها كل حلّ قريب مستبعداً، وتتسبّب، إضافة إلى العمليات العسكرية والمذابح الجماعية، بكوارث إنسانية واقتصادية وبنقص في الأدوية والأغذية يُرجّح أنها أودت بحياة عشرات الآلاف، جلّهم من الأطفال، بسبب سوء التغذية والأوبئة وتوقّف حملات التلقيح.
صراع على السلطة وولاءات جهوية وقبلية
الحرب الدائرة اليوم بدأت في نيسان 2023 إثر انفضاض الحلف المؤقّت الذي جمع البرهان وحميدتي، نتيجة النزاع على سلطة آلت إلى الاثنين بعد انقلابهما الدمويّ على التسوية التي تلت الانتفاضة الشعبية وخلع نظام عمر البشير وتشكيل حكومة انتقالية العام 2019، بشراكة وقتها بين الجيش وممثّلين عن قوى مدنية وسياسية ونقابية شاركت في الانتفاضة. ويُعدّ موضوع دمج ميليشيات الجنجويد، التي تحوّل اسمها رسمياً إلى قوات الدعم السريع، في الجيش وصيغة قيادتها وصلاحيات مسؤوليها الموالين لحميدتي سبباً أساسياً للنزاع بين الأخير والبرهان، رئيس مجلس الحكم الانتقالي الذي عبّر في العام 2021 عن رفضه لشكل الاندماج المطروح ولطموح حميدتي وما يمثّله داخلياً وخارجياً.
حميدتي، الذائع الصيت منذ المجازر التي ارتكبها أنصاره الجنجويد في إقليم دارفور غرب السودان العام 2003، يقود تحالفاً عربياً قوامه قبائل من الرحّل استقرّت في دارفور، بعضها وفَدَ من تشاد، وبعضها الآخر تنقّل بين الجنوب والشمال الدارفوريين. واشتُهر هؤلاء تاريخياً بتجارة الجمال، واصطدموا تكراراً نتيجة النزاع على الأرض والموارد مع سكاّن الإقليم الحضريّين والمزارعين، والكثير منهم من غير العرب المهمّشين، إلى أن كان الصدام الأوسع المفضي إلى إبادة مئات الآلاف في مرحلة تلت البحث في سبل استصلاح مناجم ذهب ويورانيوم ومعادن ثمينة في المنطقة، في ظلّ حكم عمر البشير الداعم وقتها للجنجويد وفظائعهم.
أما البرهان، الوافد من شمال السودان، المنتمية أسرته كما الكثير من أُسر الشمال العربية إلى الطرق الصوفية، فيمثّل الجيش ومصالحه وشبكات نفوذه الواسعة في البلاد التي يحكمها منذ عقود، ويتموضع مع مؤسّساته السياسية والاقتصادية في الشرق، والشمال، بعد أن غادر الخرطوم في الوسط، نتيجة المعارك فيها والخطر الدائم عليها من تقدّم أعدائه.
ويمكن القول الآن إن فصلاً جديداً من فصول المأساة السودانية قد بدأ مع سقوط مدينة الفاشر في دارفور في قبضة الدعم السريع الذي بات يسيطر على كامل الغرب السوداني (ما عدا جبل مرة المعزول حيث ميليشيات جبهة تحرير السودان)، وعلى حدود استراتيجية مع ليبيا وتشاد وجنوب السودان وأفريقيا الوسطى، ويملك موارد هائلةً، ويبدو متّجهاً نحو مهاجمة إقليم كردفان، لتوسيع رقعة انتشاره الجغرافي وفرض أمر واقع يفصل الغرب عن باقي البلاد كما فُصل جنوبه عنه في مرحلة سابقة تلت بدورها حرباً طاحنةً، ولو بظروف مختلفة.
الإمارات والذهب والبحر الأحمر
تشير الوقائع الميدانية والتطوّرات المتسارعة إلى دور إماراتي محوري في رعاية حميدتي، وتعزيز التعاون العسكري بين الأخير والماريشال خليفة حفتر المسيطر على شرق ليبيا، بمساعدة إماراتية وروسية، وفي وجود مرتزقة كولومبيين يُعتقد أنّ أجهزة مقرّبة من الإمارات جنّدتهم في حرب اليمن بعد العام 2015، ثم جرى نقلهم إلى دارفور، إضافةً إلى اتّصالات مباشرة وزيارات قام بها حميدتي إلى أبو ظبي التي زعمت لفترة محاولة مصالحته مع غريمه البرهان.
يُرجّح وجود صلاتٍ لتجارة الذهب والمعادن بمسألة الرعاية الإماراتية للدعم السريع، إضافةً إلى توق الإمارات للعب دور في الشرق الأفريقي وعلى شواطئ البحر الأحمر المتحكّمة بقسم من الملاحة العالمية وبنقل الثروات. في المقابل، يحظى البرهان بدعم مصري لأسباب ترتبط بعلاقة الخرطوم التاريخية بالقاهرة، وإيثار الأخيرة الحفاظ على نفوذها واستقرار أحوال جارها الجنوبي على مسار نهر النيل الحيويّ وعلى مسافة غير بعيدة بحراً من خطّ السفن العابرة لقناة السويس.
ويضاف إلى العاملَين الخارجيَين الإماراتي والمصري، عاملٌ آخر هو العامل الإسرائيلي الذي ينشط في كامل المنطقة الشرقية لأفريقيا منذ عقود، بهدف ضمان موقع على البحر الأحمر وموطئ قدم على مقربة من ثروات هائلة تختزنها أراضي الدول التي تمزّقها الصراعات (السودان وأثيوبيا وأريتريا وأفريقيا الوسطى). وكانت الصين وروسيا والولايات المتّحدة الأميركية قد سعت بدورها إلى التأثير المباشر في فترات متباينة وبمقاربات مختلفة، يبقى من أثرها الكبير اليوم أثر الصين الاقتصادي (استثمارات وعقود بناء موقّعة)، ولو أنه مهدّدٌ في ظلّ استمرار الحرب وتبدّل أطوارها.
هكذا، يبدو السودان راهناً أرض صراعات داخلية وخارجية لا مؤشّر على انحسارها، لا بل يُرجّح استعارها إن قرّر حميدتي المضيّ في سعيه التوٍسّعي تمهيداً لتكريس حكمه لمساحة تزيد على ربع المساحة السودانية، أو إن قرّر الجيش الموالي للبرهان استعادة بعض ما خسره وقرّرت قوى خارجية إضافية مؤثّرة في المنطقة مثل تركيا (التي سبق أن أوقفت قبل سنوات توسّع حفتر ليبياً وحجّمت النفوذَين الإماراتي والروسي في ليبيا) دعمه بطائرات درون الشديدة الفاعلية.
ويبدو السودان أيضاً، المغيّب مجتمعه بشرائحه المختلفة، والمحطّمة هيئاته المدنية، حقل تجارب للحروب المعاصرة وما قد يرافقها، طبقاً للون البشرة وللانتماء الديني، من انعدام تغطية وتمنّع عن كل تضامن أو اهتمام أو جهود وساطات جدّية وحلول.