تحليل اللغة
طارق أبي سمرا

في مديح «تشات جي. بي. تي» 

ما يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يُعلِّمنا إياه عن البشر

26 تشرين الثاني 2025
إلى سيلفانا الخوري، 
التي لولا مقالتها «الكتابة في زمن الذكاء الاصطناعي» لما كتبتُ ما يلي

لا يهدِّد الذكاءُ الاصطناعي الكتابةَ بقدر ما يفضحها ويُعرّي آليّاتها. الكتابة في كل أنواعها وصورها: من الرسائل النصيّة والبريد الإلكتروني، مروراً بالمقالات الصحفيّة والأكاديميّة، وصولاً إلى النصوص الأدبيّة، شعراً كانت أم نثراً.


التكرار الذكي والإبداع البشري

بات من الشائع القول إنّ النماذج اللغوية الكبرى مثل «تشات جي. بي. تي» لا تفعل سوى محاكاة الكتابة «الحقيقية»، فيما نكتب نحن البشر حقّاً وفعلاً، أي «نُبدِع» بقدر متفاوت، حتى عند صياغة منشور بسيط جدّاً على وسائل التواصل الاجتماعي. 

مُستنداً إلى مئات الملايين من الوثائق والنصوص التي غُذِّيَ بها، يستخدم «تشات جي. بي. تي» نماذج إحصائيّة للتنبّؤ بالكلمة التالية في سياق معيّن، فيُنتِج جملاً وفقرات تبدو ذات معنى للقارئ البشري. لكنّها نصوص لا معنى لها فعليّاً، لأنّها ناتجة عن تنبّؤ احتمالي فحسب، ومع ذلك نفهمها ونراها ذات مغزى لأنّها تشبه الكتابة البشريّة إلى حدّ بعيد. بمعنى آخر، لا يفعل الذكاء الاصطناعي سوى إعادة تدوير ما تلقّنه: هو يُكرّر فقط، لكن بـ«ذكاء»، آخذاً السياق في الحسبان. إنّه مجرّد ببغاء، لكن ببغاء متطوّر للغاية، إلى حدّ يكاد عقلُنا يعجز عن استيعابه.

أمّا بحسب الفكرة الشائعة عنّا نحن البشر، فإنّنا على وعيّ تامّ بما نقول ونكتب، ولا نكفّ عن ابتكار جُمل جديدة لا تُحصى، شفاهةً أو كتابةً، كلّ يوم. وفقاً لهذا التصوّر، فإنّ كلّاً منّا فريدٌ يتميّز عن غيره، يحمل في رأسه أفكاره الخاصة ويعبّر عنها بأسلوبه الشخصي. نحن بطبيعتنا كائنات خلّاقة إذاً، وثمّة في داخل كلٍّ منّا مشروع مبدِع أو فنّان. وعليه يمكن القول من هذا المنظور إنّ الإنسان حيوانٌ دأبُه ابتكار الجديد. باختصار: إنّنا نقيض الذكاء الاصطناعي.


القلق من التكرار

هكذا نحب أن نرى أنفسنا، هكذا هي الصورة التي نتمسّك بها بالرغم من كلّ ما يناقضها يوميّاً– أو لعلّ كثرة ما يناقضها هي سبب تشبّثنا بها. لكن ما أن نُعاين بلا أفكار مُسبقة ما نسمعه ونقرأه كلّ يوم، حتّى يتّضح أنّ التكرار هو السمة الغالبة على كلامنا وكتاباتنا.

الآراء أوّلاً: تتشابه آراء الناس إلى حدّ يثير الذهول، كأنّها صدى واحد يتردّد في رؤوس مختلفة، ما يجعل التمييز بين البشر ضرباً من الوهم. صحيح أنّه ثمّة دائماً آراء متناقضة أو متضاربة، إلّا أنّ كلّ رأي من هذه الآراء ليس في أغلب الأحيان مِلكاً لفرد، بل لجماعة أو فئة من الناس (مثل الطبقة الاجتماعية، أو الفئة العمرية، أو الطائفة في حال لبنان). حتّى أنّه يمكن التنبّؤ بآراء شخص ما بدرجة عالية من الدقّة بناءً على بعض المعلومات العامة عنه. لذلك لا مبالغة في القول إن آراءنا التي نتمسّك بها ونظنّها جزءاً لا يتجزّأ من هويّتنا هي في الواقع ليست لنا، إذ نستعيرها أو نسرقها واحدنا من الآخر من دون أن نعي ذلك. أو على نحو أدقّ: نحن لا نختارها، بل هي التي تتلبّسنا وتنغرس في رؤوسنا.

الكلام ثانياً: تشكّل العبارات الجاهزة والمعلّبة جزءاً كبيراً من أحاديثنا اليوميّة، وتنتقل من لسان إلى آخر كالعدوى. وهي في هذا تشبه صناعة الأزياء: موضة تستمرّ لفترة قد تطول أو تقصر، ثم تزول لتُستبدَل بأخرى. لا شكّ في أنّ لكلّ شخص أسلوبه في الكلام، ما يجعلنا نظنّ أنّه كائن فريد، متميّز عن غيره ولا مثيل له. لكن ما أن ندقّق في ما يتفوّه به حتّى نتيقّن أنّه يُعبِّر عن أفكاره، التي سرقها من غيره، بعبارات وجمل هي في معظمها مسروقة أيضاً، فنُدرك حينئذٍ أن مقدار الأسلوب الشخصي في كلامه أقل بكثير من مقدار التماثل، بل التطابق، مع كلام الآخرين. ولا يختلف الأمر كثيراً حتّى عندما نُعبِّر عمّا هو أكثر حميميّة فينا: أحاسيسنا ومشاعرنا، التي نصفها عموماً مستعينين بكليشيهات مستهلَكة. لذا يجوز السؤال: من هذا الذي يتكلّم؟ أهو الإنسان الفرد، أم كائن جماعيّ يذوب الأفراد فيه؟ 

الكتابة «العاديّة» اليوميّة ثالثاً: كم من مقال صحفي نقرأه فنشعر أنّه مجرد تكرار لمقالات سابقة لا تُحصى، سواء من حيث المضمون أو الأسلوب؟ وكم من منشور على وسائل التواصل الاجتماعي يثير فينا الإحساس نفسه؟ الجواب جليّ بديهيّ، إذ أنّنا معرّضون يوميّاً إلى كميّة هائلة ومرعِبة من النصوص البشريّة التي تبدو متناسلة، بل مستنسَخة، من بعضها بعضاً. إنّه سيل جارف من الأفكار والجمل والتعابير المجازيّة المتكرّرة والمتداخلة فيما بينها، كأنّنا إزاء كتاب لا متناهي الصفحات ألّفه كاتب واحد فقط. أو كأنّما هناك مخزون ضخم من النصوص الجاهزة المتشابهة التي تُستخدَم فوراً بحسب السياق أو الطلب.

الكتابة الأدبيّة أو الإبداعيّة رابعاً: هنا نصل إلى ما تُحيط به هالةٌ من القدسيّة. فالأدب، شأنه شأن الفنون الأخرى كالموسيقى والسينما، يُنظَر إليه بوصفه مِن أسمى ما ينجزه الإنسان، وكتعبير عمّا تنطوي عليه ذاتُ الكاتب (أو الفنان) من تميّز وفرادة لا يتكرّران. كثيرون يمتعضون بلا كلل من أنّ الكتابة الصحفية ليست في معظمها سوى اجترار للشيء ذاته، لكن ما أن يتعلّق الأمر بالأدب حتّى يأخذون بالحديث عنه كما لو أنّهم انتقلوا بلمح البصر من عالمنا الدنيويّ، حيث التقليد والتكرار هما القاعدة، إلى عالم سماويّ، حيث انعتق المبدعون من بشريّتهم فصاروا يخلقون من العدم. لكن ألا تدحض قراءاتُنا الأدبيّة هذه الأسطورة دحضاً تامّاً؟ لننحِّ جانباً الأعمال التي تُعتبَر خالدة، وهي في الواقع نادرة جدّاً. لنُنحِّ جانباً شكسبير وتولستوي وأمثالهما، ولنعاين، مثلاً، الروايات التي نقرأها غالباً. ليس الروايات التجاريّة وإنّما الأدبية، أي تلك التي تستطيع، مثلاً، أن تحصد جوائز مرموقة. ألا نلحظ حينئذٍ أنّ قلّة قليلة منها فقط تتّسم بالابتكار أو الأصالة، وأنّ الكثير منها، إن لم يكن غالبيّتها العظمى، تتشابه في ما بينها أسلوباً وحبكةً وموضوعاً، إلى حدّ أنّه قد ننسى أنّنا قرأناها بعد فترة غير طويلة؟ لكنّ هذا ليس بعيبٍ في الحقيقة، إذ هكذا يكتب البشر، وليس من المنطقيّ أن يُطلَب من الكتّاب ما يستحيل عليهم. فالكتابة، أيّاً كان نوعها، ليست سحراً أو شعوذة، إذ هي في جوهرها إعادة تدوير لما قرأناه. لذا، فإنّ الكاتب هو مَن يعيد استخدام قراءاته من دون أن يدرك ذلك في معظم الأحيان. الكتابة هي فعلُ تكرارٍ وإنتاجُ ما يبدو جديداً من خلال إعادة صياغة القديم.


ثمّة في ما سبق قدرٌ من المبالغة لا يمكن إنكاره، إلّا أنّها مبالغة تهدف إلى إظهار مدى التشابه بيننا وبين النماذج اللغوية الكبرى. فالإنسان، في معظم الأوقات، شأنه شأن «تشات جي. بي. تي»: وعاء يحتوي على كمٍّ هائل من العبارات والجُمل، يُعيد استخدامها في كلامه وكتاباته بطريقة شبه آليّة، أي بلا وعي فعليّ أو تفكير، مُكتفياً بأخذ السياق في الحسبان. هو أيضاً ببغاء متطوّر جدّاً، حتّى عندما يكتب أدباً. إنّه حيوان ناطق يجترّ الكلام، غير مدركٍ لمصدره، متوهماً أنّ الجملَ التي يتفوّه بها أصيلةٌ مُبتكرةٌ، وتعكس أعماقَ كينونته. لذا، فالسؤال الجوهري ليس: هل سيبلغ الذكاء الاصطناعي مستوانا؟ بل: ألسنا في واقع الأمر أدنى بكثير ممّا نحبّ أن نعتقد، وأقرب إلى الذكاء الاصطناعي ممّا نتصور؟ 

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
شكوى ضدّ مايكروسوفت بتهمة تخزين بيانات استخدمها الجيش الإسرائيلي
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي