ثمّة شيءٌ يتجاوز السياسة في أحوال لبنان خلال هذه السنة التي شارفت على نهايتها. شيءٌ وجوديّ أو ميتافيزيقيّ، إذا جاز التعبير. ذاك أنّها كانت سنةَ انتظارٍ محموم: انتظار الخلاص.
لقد انتهت الحرب الإسرائيليّة على لبنان، لكنّنا لا نزال ننتظر نهايتها. انتهت ولكنّها لا تزال مستمرّة بوتيرة أخفّ. انتهت ولكنّ التهديد باندلاعها من جديد، وفي أيّ لحظة، لا يزال يحدّد إيقاع حياتنا. بتنا نعيش في زمنَين متناقضَين ومتداخلَين: زمن الحرب التي انتهت ولم تنتهِ، وزمن ما بعد الحرب الذي أتى ولم يأتِ. بتنا ننتظر، في آن واحد، انتهاء الحرب وتجدّدها. بتنا نعيش خارج الزمن، في انتظار شيءٍ لا ندري ما هو، شيءٍ ينهي ما انتهى، ويمنع تجدّد ما لم ينتهِ. نعيش في انتظار خلاص غامض، لا ندري من أين ولا متى سيأتي. خلاص يعيدنا إلى الزمن الطبيعي، حيث للانتظار معنى: حيث نعلم ما الذي ننتظره.
لقد انتُخِب رئيسٌ للجمهوريّة وكُلِّف رئيسٌ للحكومة عُلِّقت عليهما آمالٌ هائلة، فظنّ كثيرون من اللبنانيين أنّ الخلاص أصبح وشيكاً. ظنّوا أنّ الدولة– بحسب العبارة المستهلكة الشهيرة– ستبسط سلطتها على كامل أراضيها. ظنّوا أنّ مسار التعافي من الأزمة المالية والاقتصادية سيبدأ، وأنّ ما يُسمّى أموالاً منهوبة سيُستعاد، وأنّ الودائع المصرفية ستُحرَّر. ظنّوا أنّ الفاسدين سيحاسَبون، وأنّ ساعات التغذية الكهربائيّة ستزداد، وأنّ مياه الدولة ستتدفّق من الحنفيّات. ظنّوا أنّ لبنان سيعود إلى أمجاده الماضية والمُتخيَّلة بين ليلة وضحاها. صحيح أنّها آمالٌ فكاهيّةٌ، إذ تكاد تكون هذيانيّة، لكنّ المُدهِش أنّ لا شيء منها تحقّق إطلاقاً. فالعهد والحكومة لم يفعلا شيئاً طوال عام كامل، وهذا بحد ذاته إنجاز يثير العجب. كلّ ما فعلاه كان الكلام، وما مِن تغيّر ملموس واحد في واقع اللبنانيين يمكن ذكره. ومع ذلك، لم يتخلَّ اللبنانيون عن فكرة الخلاص. لا يزالون ينتظرونه، إلّا أنّه أصبح خلاصاً غامضاً، لا يُعرَف من أين ولا متى سيأتي. لا يزالون ينتظرون بالرغم من حدسهم الغائم بأنّ انتظارهم قد أُفرِغ من أيّ معنى.
في مسرحيّة صمويل بيكيت الأشهر «في انتظار جودو»، نرى رَجلَين– فلاديمير واسترَجون– في منطقة ريفيّة، بجوار شجرة عارية من الأوراق. المساء يخيّم بهدوئه قبل الغروب بقليل، فيما يتبادلان أطراف الحديث في أمور تافهة، وينتقلان من موضوع إلى آخر بلا أيّ رابط واضح. نتبيَّن من كلامهما أنّهما ينتظران شخصاً يُدعى جودو. هذه، إذا جاز التعبير، هي الحبكة: الانتظار، ومعرفة ما إذا كان جودو سيأتي أم لا.
أمّا ما نراه أمامنا طوال المسرحية، فهو كيف يُمضي فلاديمير واسترَجون وقت انتظارهما في الكلام العبثي والثرثرة والهذر. لا يعرفان من هو جودو، ولا لمَ ينتظرانه، ولا ما سيعني قدومه. يعلمان فقط أنّه عليهما انتظاره هنا، بجوار الشجرة، قبل المغيب. لا يأتي جودو، فيغادران، ثمّ يعودان في اليوم التالي إلى المكان ذاته، في الوقت ذاته، وينتظران من جديد، فيتبيَّن لنا أنّهما لم يكفّا عن الانتظار منذ أيّام لا تحصى، وسيستمرّان في الانتظار لأيّام لا تحصى، رغم أنّ جودو لن يأتي أبداً.
جودو هو خلاصهما، لكنّه خلاص غامض، مجهول المعنى والغاية.
بسبب أسلوبها المجرَّد للغاية، تحتمل هذه المسرحيّة تأويلات لا حصر لها، ممّا يتيح النظر إليها بوصفها كناية عن أحوال اللبنانيين في هذا العام الموشك على الانصرام. فتَشابُهُنا، طوال هذه السنة، مع فلاديمير واسترَجون يثير الدهشة والقلق، كأنّ بيكيت كان يستشرف المستقبل ويرانا وهو يكتب مسرحيّته.
نحن أيضاً ننتظر جودو، من غير أن ندري إن كان سيأتي، أو متى. نحن أيضاً لا نعلم من يكون هذا الجودو: أهو نوّاف سلام؟ أم جوزيف عون؟ أم نعيم قاسم؟ أم مورغان أورتاغوس؟ أم توم براك؟ أم ترامب؟ أم نتنياهو؟ أم أنّه لا أحد من هؤلاء؟ نحن أيضاً نجهل ما الذي سيحقّقه قدومه: نهاية الحرب أم اشتعالها من جديد؟ الإصلاح وإعادة الإعمار، أم مزيد من الدمار والانهيار الاقتصادي؟
نعلم فقط أنّ قدومه قد يخرجنا من هذا الزمن الدائري، حيث الانتظار عبثيٌّ لكن لا مهرب منه: انتظار اللاشيء. ننتظر إذاً، ومثل فلاديمير واسترَجون، نمضي وقت انتظارنا في الثرثرة والهذر: حصر السلاح، قرار الحرب والسلم، المحاسبة، الشفافية، الودائع.
ومثل فلاديمير واسترَجون، نغادر خشبة المسرح مع انتهاء هذه السنة، ثمّ نعود إليها في مطلع السنة المقبلة، لكي ننتظر من جديد.