قضية الأسبوع بيئة
ميغافون ㅤ

قانون تنظيم تجارة البذور

حرب التجّار والحكومة على «المشترَك البيئي»

29 تشرين الثاني 2025

باستعجال مُستغرَب، ومن دون إشراك فعلي لكامل اللاعبين في القطاع الزراعي، تسعى وزارة الزراعة لتمرير اقتراح قانون لـ«تنظيم تجارة البذور والشُّتول ومواد الإكثار في لبنان». 

حجّة الوزارة هي تنظيم وتسجيل أصناف البذور وتنظيم مهن تجارتها وحماية حقوق الملكية لمنتجي البذور والرقابة على مهن تجارة البذور. لكن وراء الكلام التقني، تختبئ عقلية تجارية تهدف إلى تسليع البذور، ما يفتح المجال أمام احتكارها لصالح التجار على حساب المزارعين ونظام البذور التقليدي. والأخطر هو أنّ هذا القانون سيؤدّي إلى إضعاف البذور المحلّية وتحويلها إلى «فولكلور»، وضرب التنوّع البيولوجي.

المشترك البيئي

ليست قضية البذور إلا الحلقة الأخيرة من مسلسل تسليع ما يُعرَف بـ«المشترك البيئي». فقبل البذور، كان هناك الصراع حول الشواطئ العامة، تلوّث الهواء وازدياد حالات السرطان، الدفاع عن جنس حيواني مهدّد من قبل ورشة عمار، حماية مغارة جعيتا من تحويلها إلى صالة أفراح، حرائق تهدّد غابات لبنان… وقبل ذلك، كان تلوّث المياه وبروز حالات كوليرا، وتدفّق النفايات وتلويث الموارد البيئية، وتسليع وخصخصة الموارد الطبيعية، وتحويل البحر والغابات إلى مكبّات عشوائية، وضرب القطاع الزراعي. 

هذه كلّها ليست إلا أمثلة عن استغلال وتسليع الموارد الطبيعية والأثرية المشتركة. أمثلة عن اقتحام الحيّز العام بمواضيع تُعتبَر عادةً «ما دون سياسية»، أو مجرّد بيئية. لكنّها في الحقيقة مواضيع في غاية الخطورة. فالموارد الطبيعيّة ليست طبيعية وحسب، بل هي أيضًا تراكم على مدار عقود أو حتى قرون لمعرفةٍ وممارساتٍ تؤرّخ لعلاقتنا بمحيطنا وطرق تعايشنا معه. تلك الموارد تشكّل ما يمكن تسميته «المشترك البيئي»، أو الموارد العامة التي تمكّن الحياة المشتركة، بين البشر أنفسهم، وبين البشر والعالم الطبيعي.

الدفاع عن هذا المشترك ليس ترفاً سياسياً، ولا مجرّد «دفاع عن البيئة» أو «حفاظ على التراث» أو «حب للبيئة»، كما تريدها نظرة رومانسية للطبيعة أو الماضي. بل هو الشرط لنظام اقتصادي مستدام وعادل، وهو المشترك المادي الذي يمكن أن يؤسس لإجماع سياسي أقلّ تعصّبًا، وهو المدخل لعلاقة أقلّ تدميرية مع محيطنا. خارج هذا المشترك البيئي، يُضحّى بمقوّمات حياتنا جميعاً من أجل ربح القلّة.

هذا المشترك البيئي هو، اليوم، بخطر. وتشكّل قضية البذور المحلية آخر الاستهدافات لهذا المشترك. 

حماية البذور المحلية

تشكّل البذور المحلية مكوّناً أساسياً من «المشترك البيئي»، وهي نتاج خبرة قرون لدى المزارعين في علاقتهم مع محيطهم. هي تاريخ الزراعة في المنطقة، قبل دخول الاستعمار إليها، تاريخ يحتوي على تراكم الخبرات والتقنيات المتراكمة عند المزارعين. وهذا ما يعطي هذه البذور عدداً من الميزات المهمة:

  • لا تحتاج البذور المحلية إلى استثمارات ضخمة بالمُبيدات والسموم والكيماويّات والمُتمّمات الغذائية، وبالتالي لا تتسبب بالآثار السلبية لتلك الممارسات.
  • تتأقلم البذور المحلية مع المتغيّرات المناخية، إذ يواظب المزارعون المحلّيون على استخدامها سنوياً، ما يجعل «ذاكرتها» تواكب التغيّرات المناخية عموماً، وتغيّرات منطقتنا خصوصاً.
  • تحمي البذور المحلية التنوع الوراثي للأصناف المحلية، وبالتالي قدرة القطاع على التأقلم مع المتغيرات.
  • تمكن البذور المحلية المزارعين على حساب التجار الكبار، ما يؤمن عدالة وديمومة في القطاع.

فبدل أنّ تُحرّر الوزارات المعنية عملية التداول بالبذور المحلّية، وتعزّز صمودها، وتدعم مزارعيها، قرّرت تنظيم تجارة البذور المهجّنة، وبالتالي ضرب تراث وممارسة استغرقت عقوداً لتمتينها في لبنان. وقد يفتح ذلك المجال لتعميق الاحتكار، بدلاً من إضعافه.

التسجيل كأداة احتكار تجاري

لا يهدف قانون تنظيم البذور إلى تدعيم المزارعين أو حماية التنوع البيولوجي أو تنمية القطاع أو الوصول إلى سيادة غذائية، بل هدفه الأساسي تنظيم تجارة البذور من خلال تسجيلها وحصر التداول بالأصناف المسجّلة، مع تجريم ممارسات التداول والإنتاج للبذور غير المسجّلة. لكنّ عملية التسجيل ليست بريئة. فهي تمرّ من خلال لجنة متخصصة في وزارة الزراعة، ستكون مسؤولة وحدها عن تحديد أي من البذور يمكن تسجيلها، وبالتالي تجريم التجارة بالبذور التي لن تستوفي شروط اللجنة، أو مصالحها، وبالتالي القضاء عليها. 

الخطر في هذه التركيبة مزدوج: 

  • أوّلًا، تاريخ لبنان مع الاحتكارات طويل، واللجنة، إن انحازت لمصلحة التجار، ستتحول إلى مدخل لإقامة نظام احتكاري في قطاع البذور، وبالتالي سيطرة بضع شركات على الإنتاج الزراعي في لبنان.
  • ثانيًا، عملية التسجيل منحازة للبذور المهجّنة الثابتة والمتجانسة في تركيبتها الوراثية، على حساب تسجيل  البذور المحلية التي سيصعب على المزارعين تسجيلها، إمّا جراء صعوبة القيام بعملية التسجيل أو استحالة تحقيق المواصفات المطلوبة لتسجيلها. 

يفرض هذا التسجيل منطقاً تسليعياً على «المشترك البيئي»، والذي غالبًا ما ينتهي في لبنان بسيطرة احتكارية، مع عواقب خطيرة:

  • يضع مصلحة التجّار، من الشركات الزراعية-الغذائية الكبرى ومستورِدي الأغذية، فوق مصلحة المزارعين والقطاع، وبالتالي يفرض منطقاً تجارياً على سائر عمل القطاع.
  • يفرض التداول ببذور تابعة غالبًا لشركات متعدّدة الجنسية وشركائهم اللبنانيين على حساب التداول بالبذور المحلية.
  • يقضي على السوق المحلي للبذور، مع استبدالها بعدد أصغر من الشركات الاحتكارية.
  • يساهم بإضعاف مقومات القطاع، مع ما يعني ذلك من إفقار أكبر للمزارعين وتزايد أكبر لتركّز الموارد في أيدي الشركات الكبيرة.  
  • يضرب التنوع البيولوجي، ويفرض هيمنة لبذور هجينة، مع ما تفرضه من أثمان إضافية وآثار سلبية على الزراعة، من ضرب للتربة واستعمال للمبيدات وانخفاض بالمحصول وفرض زراعة أحادية على حساب زراعة دورية.  

التسجيل مدخل لتسليع البذور قبل احتكارها. 

الاحتكار كمدخل للارتهان

احتكار تجارة البذور من قبل بضع شركات يعرّض المزارعين وقطاع الزراعة إلى دوامة من الارتهانات، تُضعف القطاع وتضرب التنوّع البيولوجي وتهدّد السيادة الغذائية. وهذا ما يمكن اعتباره خصخصةً جذريةً (بالمعنَيَين) للقطاع الزراعي، ما يعمّق منحى تاريخياً في التعاطي مع القطاع الزراعي، والمشترك البيئي عمومًا. 

  • أولًا، يرهن المزارع، من خلال إجباره أن يستعمل بذوراً مهجّنة، في دوامة شراء موارد ومُبيدات وسموم وكيماويّات ومُتمّمات غذائية إضافية، لتعزيز نشاط بذرةٍ لا تتلاءم مع أرضنا. وهذا ما سيرتّب تكاليف إضافية فقط من أجل أقلَمة بذرة مهجّنة، فيما البذور المحلّية تتأقلم بشكلٍ مستمرّ ومن تلقاء ذاتها. سيقضي ذلك على أيّ ربح من «المنتوج» الإضافي للبذور المهجّنة.
  • ثانيًا، يعمّق ارتهان المزارعين للتجّار. فالبذور البلدية قابلة للتخزين في المنازل والمزارع. وقد جرت العادة أن يتبادل المزارعون بذورهم موسمياً، أن يبيعوها لبعضهم بعضاً أو حتّى أن يقايضوها، بما يُعَدّ من أقدم الممارسات الحاضرة في القطاع الزراعي، ومن أجملها. هذه العلاقة ستنتفي لصالح دخول المزارعين جميعهم في علاقة تجارية أُحادية الاتّجاه، بينهم وبين الشركة التي تبيع البذور. سيسيطر تجّار البذور على المزارعين. وستُقطع أي صلة بينهم وبين البذرة نفسها.
  • ثالثًا، يرهن القطاع لإملاءات شركات أجنبية. ففي حين يمكن للبذور المحلية أن تتكاثر من موسمٍ إلى آخر– وهذا ما واظب المزارعون المحلّيون على فعله لعقود، سيصبح لزاماً عليهم أن يجدّدوا بذورهم في كل موسم من تجّار البذور أو المصدر الخارجي الجديد، إذ أنّ هذه البذور المهجّنة عقيمة.
  • رابعًا، يرهن القطاع إلى السوق العالمي، لتدخل الدورة الزراعية اللبنانية في سوقٍ من البذور والمنتوجات التي تلبّي حاجةً ليست بالضرورة حاجة البلاد، لتصبح تحت رحمة الشركات المنتجة الكبرى التي تتحكّم بأسعار وقواعد السوق.
  • خامسًا، سترهن مستقبل القطاع البيولوجي إلى متطلبات التسليع. تدريجياً، ستختفي بذورٌ محلية، لأنّ الطلب عليها ليس كثيفاً، أو لأنّها ليست مربحة بما يكفي، أو لأنّ عملية تسجيلها مُرهِقة، ليتمّ القضاء على التنوع البيولوجي لمصلحة عدد محدود من البذور المهجّنة. 

تسجيل البذور أبعد من عملية بيروقراطية، هو مدخل لارتهان على مستويات مختلفة. 

الأولويّات المقلوبة

إذا كانت أولويّة وزارة الزراعة هي تطوير القطاع، هناك عدد من الأمور التي تسبق بأشواط عملية تنظيم قطاع البذور، التي لا تشكّل أولويّة إلّا للشق التجاري من هذا القطاع. ففي حين يواجه المزارعون تحدّياتٍ أمنية في الجنوب للوصول إلى أراضيهم، وتحدّيات بيئية على مختلف الأراضي لناحية تلوّث المياه، وتحديات طبيعية في البقاع بسبب الجفاف والتغيّر المناخي، وتحديات تطال جودة التربة بعد القصف والتلوّث والإفراط باستخدام المبيدات، وتحديات تجارية تطال تصريف المواسم الزراعية التي اعتدنا رؤيتها وهي تُتلَف على الطرقات، عدا عن التحديات في ميزان الاستيراد والتصدير، والتحديات المالية لناحية كلفة المحروقات والموارد المطلوبة لإدارة الحقول، تنكبّ وزارة الزراعة ووزارة الاقتصاد وغيرهما لتنظيم بذور مهجّنة مستوردة من الخارج.

القطاع الزراعي الذي عانى منذ تأسيس لبنان من هذه المقاربة التجارية، يحتاج إلى قوانين تدعم المزارعين وتقلّل من سطوة السوق عليه وتحمي التنوع الجيني وتهدف إلى سيادة غذائية وتساهم في التصدي لآثار التحوّلات المناخية. هذا لا يعني أن ما من حاجة لتنظيم قطاع البذور، ولكنّ تنظيمه ينبغي أن ينطلق من حماية وتطوير البذور المحلية من أجل استدامة وصلابة قطاع الزراعة وليس من أجل مصلحة شركات احتكارية. 

تجار لبنان يَحتَفون بأيديولوجية السوق، لكنّهم يحبّون الاحتكار، عدوّ السوق. واليوم تمتّد يد الاحتكار إلى بذورنا. 

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً