نظرة عقاب النسيان
پترا سرحال

كوريوغرافيا النظر

عين ساهرة، نظرة قاتلة

12 آب 2023

1. عين العقل 

أخرج من منزلي. أمشي في الطرقات. تلاحقني عيون.
نظرات. 
نظراتٌ تحدّق.
نظرةٌ مباشرةٌ إلى جسمي…
تُمرّر النظرة من شخصٍ إلى آخر من دون توقف. تسلُّمٌ وتسليم.
أحاول تجنّبها.
عينٌ لا ترى، قلبٌ لا يوجع. 
أنظر ثم أحجب نظري. وكلّما حجبتُ نظري، اختفَت أناي.
أتحوّل إلى أجزاء. 
أحاول النظر إلى الوراء. هل سأذوب ملحاً؟
أحيانًا، أردّ النظر مباشرةً إلى عين الناظر، إلا أن هذا يحصل فقط عندما أضع «الأنا العليا» الضمير، القيم، الأخلاقيات. في مكانٍ ما في محفظتي وأغلقها جيداً.
عندها، أنظر وأحدّق مطوّلاً حتى يتلاشى الناظر...


2. السجن وفنّ الأداء

البانوبتيكون هو سجنٌ مبنيّ وفق هندسةٍ دائريةٍ تكون فيها عين السجان داخل برج مراقبةٍ وسط ساحة المبنى الدائري الذي يحتوي على غرف المساجين. غرفٌ ظاهرةٌ لبرجِ المراقبة ومعزولةٌ عن بعضها بعضاً. العين المراقِبة في البرج يمكن أن ترى جميع المساجين من خلال ضوءٍ مسلّطٍ على الزنازين ولكن لا يمكن لأحدٍ رؤية عين الرقيب.

عيون المساجين بتفَونِس من الضوّ، بتعرف إنه في عيون عم تراقبها وشايفتها،
بس ما فيها تعرف أيمتى عين الرقيب عم تطلّع فيها.
          The big brother is watching you 

يعيد المساجين النظر في أدائهم اليومي لكي يتماشى مع معايير الأداء في البانوبتيكون. فعلى السجين في هذه الزنازين أن يؤدي دور الإنسان الصالح الذي تاب عن اخطائه وجرائمه من خلال أداء لغة الانضباط والحشمة والطاعة والاحترام. 

يتحرّكون ويتصرّفون بوعي تام لعَين الرقيب ليصلوا إلى اللحظة المناسبة حيث ينسون الرقيب ويصبحون هُم العين الساهرة على أجسامهم وتصرفاتهم. 

سجن بانوبتيكون مهجور في كوبا

رقابة ذاتية على تحرّكات أجسادهم تُسجَّل في المخ الذي يحفظها ويأمر بتنفيذها وكأنّها الأصل. يتحوّلون إلى أجسامٍ منضبطة؛ أداءٌ بشكلٍ متواصل. وربّما لا يعرف المؤدّي الفرق بين الأداء والحقيقة، بيفوت بالدور وما بيعرف كيف يطلع منه.
هذه هي اللحظة التي يصل فيها السجين إلى الطاعة المبتغاة... لا حاجة للمبنى بعد الآن.

لم يبقَ من البانوبتيكون إلا مبانٍ مهجورة في أنحاء العالم، وعين الرقيب.


3. عين الصواب

العين كما يصفها ستيفنسون بشكلٍ رائع، هي طعامٌ شهي لآكلي لحوم البشر.  أما من جانبنا — نحن البشر المتحضّرين — العين هي موضوع القلق لدرجة أننا لن نقضمها أبداً. حتى أنّ العين تحتلّ مرتبةً عاليةً في الرعب، لأنّها، من بين أمورٍ أخرى، هي عين الضمير.
— جورج باتاي

تقوم العين بأفعالٍ خارقةٍ من مسافاتٍ متفاوتة، فالعين هي أقدم أداة للتواصل عن بُعد.

عيونها دبّاحة       يا عين 
عيونها بتقتل       اسمالله من عينك 
صابوها بالعين 
عيني عليكي          تسلملي عينك 
بتصيب العين      عين الحسود تبلى بالعمى
 أكلها بعيونه        يا عيني!

نظرَت فأقصدَت الفؤاد بسهمها      ثم انثنَت نحوي فكدتُ أهيم
ويلاه إن نظرَت وإن هي أعرضَت     وقع السهام ونزعهنّ أليم
وممّا دهتني دون عيني عينها           لكن غبّ النظرتين وخيم
— ابن الرومي، قلبي من الطرفِ السَّقيم سقيمُ


4. بانوبتيكون النساء

تحاول أن تُخضِع عين السلطة والرقيب أجسادَ النساء، فتتحكّم بتفاصيل ظهورهنّ وأدائهنّ اليومي. لذا، تؤدّي هذه الأجساد أداءً مميزاً لشخصياتٍ متنوعة، منمّطةٍ ومطيعةٍ للعين. أداءٌ مدروسٌ لاختفاء الجسم النسائي من الحيّز الذكوري- إلا عند الحاجة. أداءٌ للخفاء يحمي عين الذكَر الحساسة. 

وفي منّا مين بتحاول تقاوم وترجع لشخصيتها الأساسية ورغباتها. فصار في بالحيّز العام حركات وإشارات جسدية وحضور نسائي كانت ناسية عين الرقيب إنها موجودة.  نسوان عم يصدح صوتها بالشوارع والساحات.
نسوان عم تهز وترقص بمدن محيت فكرة الرقص 
نسوان عم تشلح الحجاب وتفرد شعرها بالهوا الطلق
نسوان عم تزورب بالموتويات
نسوان بمشكل خبيط مع الأمن
نسوان واقفة بوج النسيان 
نسوان بتقرر وبتحسم
نسوان بتقول لاء

بس بكل الأحوال، إن كان أداء النساء مطيعاً أو أداءً مقاوماً أو مجرّد حضور، بياكلونا العيون. 
بيرعبونا...


5. محَطّ نظر

... إلا أنّي فقدتُ فخذي من النظرة الأولى، وأردافي من الثانية والثالثة.
عند النظرة الرابعة، انتُزع ثدياي من جسمي؛ انتزعته عيونٌ عدّةٌ مرّةً واحدة. 
ذاب كتفي من إحدى النظرات، وانساب قطراتٍ خفيفة. 
شفتاي لم يعُد لهما أثر. 
أخيرًا، قُطعَت عينيَ اليسرى. تحوّلَت الأعصاب فيها إلى ديدانٍ صغيرةٍ لكلٍّ منها عينان تنظران في اتجاهاتٍ مختلفة. تنظر إلى جسدي، إلى نظراتي، وإلى عيون المتفرّجين.. 
وخزتُ عيني اليمنى بدبوس أوديب أوديب الذي فقأ عينَيه عندما اكتشف حقيقة أنّه قتل أباه وتزوج أمه الذهبي - فلا تسيطر على جسمي وأدائي أيّ عين خارجية.

الكورس:

يا للرعب...
المعاناة
يا لها من بليةٍ يُروّع مشهدها العالم
أفظع ما واجهَته عيني على الإطلاق.
ما الجنون الذي اجتاحك؟
أيّ إلهٍ قد سحق حظك التعيس سحقةً ليس هناك ما هو أفظع منها
لعنتك الآلهة!
أنا أشفق عليك، ولكن لا يمكنني تحمّل النظر اليك. مع ذلك لدي الكثير لأسأله،
الكثير لأتعلّمه، وهناك الكثير ممّا يفتن عيني،
لكن بالنظر إليك... أنا أرتجف من هذه الرؤيا.
يا لفظاعة هذا الرعب، من الصعب سماعه ورؤياه.

— سوفوكليس، مسرحية أوديب ملكًا


6. عيون اصطناعيّة

من العرض التجهيزي «إذا أردت أن تراني أرقص, وجب الذهاب إلى الغيمة العابرة» لپترا سرحال


7. نظرة بالوَرِبْ 

المرأة... ونظرتها... ترعب. والرعب يجب أن يُسيطر عليه. 
فما هو هذا الرعب؟

الرعب [horror]، كما تعرّفه الباحثة أدريانا كافاريرو، يتمثّل بالتأثير الحسّي الناجم عن رؤية العنف الجسديّ الذي نشهده من تقطيعٍ وتشويهٍ وتفظيعٍ بالجثث. فنجفل، نجمد، نشلّ؛ «بيوقف شعر راسنا». وهو بعكس الرهبة [terror]، التي يعود أصلها اللاتينيّ إلى مفردة tremo، يعني tremble أي الارتجاف، وتتمثّل «بالإدراك الجسديّ للخوف»، فنخاف ونهرب. نهرب من الموت. ميدوسا هي مثالٌ عن الرعب، فهي امرأةٌ اغتُصبَت فتحوّلَت إلى وحشٍ ذي رأسٍ بأفاعٍ تُجمِّد كل من ينظر في عينَيها. عيناكِ أمضى من مَضَارِبِ حدِّهِ. كلُّ السُّيوفِ قَوَاطعٌ أن جُرِّدتْ، وحُسامُ لَحْظِكِ قاطعٌ في غِمْدِه.
«ترى موتك» وتشلّ، تجفل، فلا مجال للهرب.

1598 Medusa Caravagio

تمكّن برسيوس من قطع رأس ميدوسا واستعماله سلاحاً يجمّد به الناظرين، لكن فقط عندما حمى عينَيه من عيونها القاتلة بدرعٍ ذي مرآة— فتفادى النظر— تمكّن من قطع رأسها بعد أن تتبّع حركتها من خلال «انعكاس صورتها» في الدرع. أما ميدوسا، فرأَت فظاعة شكلها في انعكاس وجهها في المرآة. جفلَت. فتحت فمها رعباً من دون أن نسمع لها صوت (كافاريرو). فصرخنا عنها!
وقامت النساء باستعمال «انعكاس الصورة» الذي استعمله برسيوس، كسلاح مضاد لمقاومة عيون الرقيب. فالنساء العربيات والإيرانيات مثلاً استعملن انعكاس أجسامهنَّ في الكاميرات ليكنَّ حاضرات ولو بالصورة بوجه عيون السلطة القمعية. فأجسادهنَّ في الصور والفيديوهات على مواقع التواصل لا يمكن لمسها وإيذاؤها. إلا أنّ هذه العدسات نفسها التي تعكس صورهنّ تسمح أيضاً بتوثيق الرعب ومتابعته عن كثب.


8. رفّت عيني

مضى على أسطورة ميدوسا زمنٌ بعيد، لكن يبدو أن الرعب والأثر الذي تركته ما زال حاضراً. 
وكأنه بات ضرورياً أن يُقمع حضور المرأة ونظرتها «القاتلة». 

عيونٌ قمعيةٌ ذكوريةٌ تحدّد القيم الأخلاقيّة المجتمعيّة وديناميات السُّلطة والقوة والطاعة.
عيونٌ تراقب. 
عيونٌ تسيطر. 
عيونٌ تسجن.
عيونٌ خفيةٌ بانوبتيكونيةٌ تتفادى مواجهة عيون النساء الجامحة.

عندما ترى هذه العيون جسم امرأة، تنطلق قوتها الخارقة خوفًا من رؤية الجمال، ورعبًا مسبقًا من أثر العيون.
أما عند التقائها المحتّم بعين المرأة مباشرة، فإنها «تتصبّر»، وتُخرج الروح من جسم صاحبها وتُذيبه هيامًا. 

لكنّ عيون البانوبتيكون تريد الثأر من النساء. العين بالعين، فتستبدل رعبها بالترهيب:

عيونٌ تستلذّ بالمراقبة والتحكّم عن بُعد. عيونٌ كلَيلٍ ساحرٍ مظلم؛ تسجن امرأةً كي لا يراها غيرها. عيونٌ تقتل حبًا، وتقطع جسدًا غيرةً، وتُعمى رغبةً، وتحبّ وتمتنع عن الحب متى شاءت، وتصبح شبحًا ثم تقوم من بين الأموات متى شاءت؛ وتظلّ العين الساهرة على الأمن والوطن، والعين الثاقبة لدى اتخاذ القرارات السياسية، وعين العقل في كلّ شاردةٍ وواردةٍ تخصّ المرأة وجسدها وحضورها.

فا تسلَم عينَك.


مراجع
  1. Discipline and Punish: The Birth of the Prison. Michel Foucault 1975
  2. Taming the Basilisk Sergie Labanov Rostovsky in Body in Parts: Fantasies of Corporeality in Early Modern Europe. Edited by David Hillman and Carla Mazzio. 1997
  3. Horrorism. Adriana Cavarero. 2009
  4. George Bataille: Visions of Excess, 1985

آخر الأخبار

الأونروا في لبنان
28-04-2024
تقرير
الأونروا في لبنان
سندُ الفلسطينيّين والشاهد على نكبتهم
تحليل

الجزائر والإمارات

أشرف نور الدين
قطاع الاتّصالات بلبنان: بحثاً عن إشارة
27-04-2024
تقرير
قطاع الاتّصالات بلبنان: بحثاً عن إشارة
قضية الأسبوع

200 يوم على الحرب في الجنوب

ميغافون ㅤ
حدث اليوم - فلسطين الجمعة 26 نيسان 2024 
«لم نعد نعرف عنه شيئاً»