يوميات لجوء
المعتصم خلف

ماذا تعرفون عن الاختفاء؟ 

5 أيار 2024

آخر باص على طرف الطريق

من منطقة عين المريسة حتى نهر الموت، يمرّ واحد من أهم باصات النقل الداخلي في بيروت. الباصات متهالكة وتستغرق وقت طويلاً للوصول إلى وجهتها. نستخدمها لتوفير المال، في ظل ارتفاع أسعار سيارات الأجرة الخاصة. فنصف الدولار تقريباً الذي ندفعه في باصات النقل الداخلي، يجعل أي شيء آخر مبرراً وقابلاً للتحمّل. 

الباص يسير ببطء مستفز، بينما السائق يُجري اتصالاً بتهامس لافت. لم يستمرّ الاتصال طويلاً، حتى التفتَ السائق نحونا، وسألنا بخوف: مَن يجيد القيادة؟ 
تبرّع شاب سوري بلهفة. قال له: أنا. 
سأله السائق بلكنة سورية: هل تمتلك دفتراً للقيادة؟ 
أجاب الشاب بصوت خافت: لا.

هذه الـ«لا» دفعت السائق لرَكْن الباص على طرف الطريق، ليخبرنا أن هناك حاجزاً أمنياً للتدقيق بالأوراق الرسمية للسوريين. الحاجز في بداية حيّ سن الفيل، تماماً تحت الجسر الواطي، حيث بدأت الباصات توالياً بالاصطفاف، ليتضح أن باص النقل الداخلي الذي تبدأ ساعات عمله من الساعة السادسة حتى الساعة التاسعة مقابل أجرة عشرة دولارات فقط، لم يجد إلا السوريين ليقبلوا بساعات عمله الطويلة وأجره المادّي الزهيد. 

خرجنا جميعنا من الباص، لم يتبقَّ إلّا عاملان يبدو أنهما من جنسية شرق آسيوية وصياد عجوز غير مبالٍ بما يحدث. نظرنا إلى بعضنا بعضاً، ونحن لا نعرف إلى أين يجب أن نذهب. البعض ذاب بين الأزقة على جانبي الطريق سالكاً طرقاً فرعية، بينما البعض الآخر عاد أدراجه، لتفرغ جميع الباصات، ونذوب بثقل بين الناس، محاولين الاختفاء مجدداً بين الأزقة والناس والبيوت. 


جولة جديدة من محو النَّفْس

علينا الآن نحن غرباء هذه المدينة، السوريّين والسوريات، أن نمحو أنفسنا. والمحو ليس فعلاً سيئاً على كل حال، ليس مؤلماً، لكنه يترك نوعاً غريباً من الشفقة، شفقتنا على أنفسنا عندما لا نعرف إلى أين يجب أن نذهب. لكنه ينتهي بسرعة، خاصةً عندما يكون الاختباء غير كافٍ. 

مهما كانت حجج الجولة العنصرية الجديدة، سوف تجوب الموتوسيكلات الشوارع الآن، وسوف تصدح سيارات الدفع الرباعي بأناشيد مريبة، تدعو لأمجاد لا تليق بالمصابيح الأمامية المستنزَفة لإضاءة الشوارع شبه المعتمة. 

هي جولة جديدة من العنصرية إذاً. ومثل كل مرة، على جميع السوريين أن يشعروا بالعار والخوف والذنب، أن يتحمّلوا مسؤولية أنهم أحياء كخطيئة، في دولة تنهار اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، لم تجد أحزابها إلا ضرب السوريين في الشوارع، وسحلهم كأنهم المافيا المصرفية التي سرقت أموال اللبنانيين، ومطاردتهم بين الأحياء السكنية كأنهم المسؤولون عن تفجير الرابع من آب. 

هكذا ببساطة نجحت السلطة الحاكمة وأحزابها بتعميم سقوطها الأخلاقي، للتنفيس عن غضب الشارع بالفئة الوحيد التي يمكن إهانتها دون أن يهتز نظامها الطائفي. 


عن تقنيات محو الذات

كأنهم لم يجدوك. 

الساعة الثانية ظهراً، مستلقياً على السرير أحاول النوم قليلاً، لكني في منطقة رمادية، أشرح فيها لحشد كبير من النساء والرجال الغاضبين، بلحظة مؤلمة من الصراحة، معنى أن تكون «سورياً سوف يتم ترحيله». تقطع بين الحين والآخر الموتوسيكلات وهي تجوب الشوارع، ترافقها أناشيد القوات اللبنانية. أفكر أنهم لا يبحثون عني. لماذا أنا تحديداً. حتى لو كانوا يبحثون عني، فلم يجدوني بعد. لا بد هنا أن تغضب وتسأل لماذا أفكر بكل هذه الأشياء، ومهما كانت الإجابة، سوف أنهض لأكدّس حوائجي الضرورية في حقيبة صغيرة وأنا لا أعرف إلى أين. لكن غالباً ما أنتظر اتصالاً مفاجئاً إما من مالك المنزل المستأجر، يدعوني بعجل لتسليم المنزل في أقرب وقت ممكن، وإمّا من صديق يدعوني بتردّد واضح للإقامة في منزله. وقد لا يتصل أحد. وفي الحالتين، سوف أفكر ماذا لو نزلت إلى الشارع وتعرّضت للإهانات والضرب؟ 

الاحتجاب. 

قرأت وسمعت ذلك في كل مكان، تتناقله التقارير التلفزيونية اللبنانية يومياً عشرات المرات. السوريون يسرقون. هم خارجون عن القانون. يرتكبون الجرائم. يلوّثون المساحات العامة. ما دفعني لاشعورياً لتأمل نفسي جيداً في المرآة قبل الخروج من المنزل، لأسأل نفسي هل أبدو سورياً؟ هل أمشي كسوري؟ وأنادي وأنظر كسوري؟ 

أنا أعلم أنكم تتساءلون لماذا قد يطرح شخصٌ ما أسئلةً كهذه على نفسه. في الحقيقة، لا أعرف. أنا لا أعرف كيف يمشي السوري، ولا كيف ينظر السوري. لكن أعتقد أنّ بداخلي، وبداخل كل إنسان يحاول تجاوز العنصرية، خوفاً ما، خوف الذي عليه أن لا يظهر كاملاً، أن يحجب شيئاً ما من ذاته. 

لكن على أي حال، من السهل جداً وأنت تسير في شوارع مدينة بيروت، أن تجدنا نحن السوريين والسوريات نمضي مسرعين إلى أعمالنا، مدّعين لامبالاةً واضحة. نتبادل في ما بيننا نظرات مطمئنة، غالباً غير مجدية، ما دمنا نستعدّ جميعاً ولا إرادياً لأسباب مريبة للهروب. فلا يوجد أي انتصار هنا، سوى بقدرتنا على التجاوز، تجاوز الكلمات العنفية والعبثية التي نمتصّها بهدوء وحذر، بكامل مسامّ جلدنا، بأقلّ ردة فعل. ثمّ نمضي ونحن نعلم أنّ هذه لن تكون النهاية، مُتَمْتِمين كلمات حمدٍ كوننا أُهِنّا ولكننا لم نُضرَب. 

ومثل كل يوم، عليّ الآن أن أعود إلى البيت، أن أتذكّر أنّ كل محاولاتي السابقة لمواربة لهجتي السورية الفلسطينية كانت فاشلة. لا بدّ لسائقي التاكسي وبائعي السوبرماركت والفضوليين أن يدركوا أنني من غرباء هذه المدينة. لكن مهما حدث، سوف أقول لنفسي أنّ الصدق ليس مهمّاً الآن، لن أفكّر به، قد أدّعي أني أردنيّ مع سائق التاكسي، وأصير أخرس مع بائع السوبرماركت، وأصمّ أبله أمام أسئلة الفضوليين. لا بدّ من مواربةٍ ما، مَن يعلم؟ قد أخلع جميع أقنعتي عندما تصل الأسئلة إلى المحكّ، ومن الآن حتى تلك اللحظة، عليّ أن اختفي أكثر من اللازم، وأن أمحو عميقاً مَن أنا، ماذا أفعل، ومِن أين أتيت، لكي أنجو من هذه البلاد. 

آخر الأخبار

تعليق

تسليع البشر

ميغافون ㅤ
جباليا: أهل المخيّم وصحافيوه ومقاوموه
18-05-2024
تقرير
جباليا: أهل المخيّم وصحافيوه ومقاوموه
حدث اليوم - فلسطين الجمعة 17 أيار 2024
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 17/5/2024 
الدرك والموتوسيكلات: ممنوع التسجيل مسموح الحجز
17-05-2024
تقرير
الدرك والموتوسيكلات: ممنوع التسجيل مسموح الحجز
قصيدةُ رفعت العرعير هتافاً في جامعة أوترخت الهولندية