نظرة سينما
غسّان سلهب

وحدها السينما؟

15 أيلول 2022

عندما شارف العام 2019 على نهايته، لم نكن بعد قد تركنا شوارع بيروت ومدن أخرى، وكنّا ما زلنا نأمل، بقدر ما كنّا نخشى العام المقبل، اقترح عليّ جاك منديلبوم من صحيفة «لوموند»، كما على مخرجين سينمائيين آخرين، كتابة نص عن لقائنا الأول بأفلام جان لوك غودار. بدأ تحضير الملف، لكنّ الوباء أتى ليغيّر كل شيء. وفاة هذا الفنان الذي قلب السينما رأساً على عقب كما لم يفعل أحد قط، والذي كان معبوداً بقدر ما كان مكروهاً (بالتأكيد أكثر)، أدّى إلى نشر هذا النص، وذلك في 13 أيلول 2022، وتمّت ترجمته إلى العربية هنا. 


كان ذلك في نادٍ سينمائيّ أو في «مركز ثقافي» في بيروت، لم أعُدْ أذكر جيداً. كانت المشاهدة الأولى لأحد أفلام جان لوك غودار، Pierrot le fou، سابقة بالنسبة لفتى بعمر الـ15: القصة، والسرد، والشخصيات، والموضوع الذي يعالج ويساء إليه في الوقت عينه، والوصف للحقبة ما قبل أيار 1968، وهذا النبض، وكلّ ذلك في خريف 1973 في لبنان، أي قبل أقلّ من عامين من الحروب الأهلية وغير الأهلية اللبنانية.

بعدها اكتشفت تدريجياً كل أفلامه الجديدة في ترتيب صدورها، وأفلامه السابقة بشكل عشوائي، بما فيها حقبة مجموعة دزيغا- فيرتوف. كانت أفلامه صدى لحالتي الشخصية التي كانت تمتزج بطبيعة الحال بوضع العالم، وكأنها تسبقها، تبشر بها. ليس على طريقة نبيّ لعين، بل على طريقة شاعر. كان كل فيلم اكتشفه، وغالباً أشاهده أكثر من مرة، يزعزع أكثر فأكثر علاقتي بالسينما. هذا لم يعنِ أنّني توقفت عن مشاهدة أفلام أخرى، أفلام تقطع أقلّ، لكن خلافاً لعمل جان لوك غودار (وهو ليس الوحيد بالطبع)، بدا لي أن أغلبية الأفلام كانت تلبّي قبل كل شيء ضرورة «الدراماتورجية» (الكلاسيكية، كي لا أقول المتفق عليها)، بعيدة كل البعد عن التعقيد اللامتناهي الذي كان عالمنا لا ينفك يغرق به. إن أفلام غودار، وبالأخص بعدما انزلقت بوضوح خارج ما يعرف بالنطاق الروائي، قدّمت لي الشعور بأنني في قلب طفولة الفن، أي في بداية لا تنفك تتجدّد. 

نعرف أن الطفل يلعب اللعبة ذاتها وكأنّها المرة الأولى. الطفل يلعب بجدية كبيرة. وقد تأكّد لي هذا عندما صوّرت جان لوك غودار لمقابلة عام 2005. استقبل فريقَنا الصغير (المؤلف من ثلاثة أشخاص) متأففاً، ظنّاً منه أنها مقابلة إذاعية، فيما كنت أصرّ، مذكّراً إياه بأننا أتينا من مكان بعيد. كان مهرجان «أيام بيروت السينمائية» قد اقترح عليّ أن أصوّره بمناسبة عرض فيلمه Notre musique. كان غودار قد قدّم لهم نسخة مترجمة إلى العربية، لكنّه لم يشأ السفر. ذهبت إذاً إلى باريس بدلاً من رول في سويسرا. طمأنتْه التجهيزات البسيطة التي اخترناها لتصويره بعض الشيء. كان يراقبنا بعيون ساخرة من وراء نظارتيه السميكتين، بينما تصرّ مهندسة الصوت على حمل الميكروفون مع عصاه عوضاً من تركيبه على الحامل. كانا الطفل و«العجوز الحكيم» الذي مضغ سيجاره جالسين أمام الكاميرا فحسب.

لم يفارق الطفل غودار قط. طفولة الفن. كان ذلك ملفتاً في نظرته المتوارية والخجولة. وتلك الوحدة، وحدة عميقة أصبح هو يعيها بالكامل. إنّها وحدة طفل يقاوم كما يستطيع في هذا العالم الذي يُزعم أنه راشد، فيذكّر غودار بالاستثناء الذي يقاوم القاعدة رغم كل شيء، القاعدة التي تُخضعك، وترغمك على أن تغادر الطفولة، على أن تصبح عاقلاً.  

(ترجمة ألين جباره)

آخر الأخبار

المستوطنون يستبيحون الضفّة الغربيّة: تهجيرٌ ومصادرةٌ للأراضي الزراعيّة
مساءلة الحكومة الألمانية حول فضّها «مؤتمر فلسطين»
17-04-2024
أخبار
مساءلة الحكومة الألمانية حول فضّها «مؤتمر فلسطين»
عدوان إسرائيل يُغرقها بالانكماش والديون العامّة
حدث اليوم - #فلسطين الاربعاء 17 نيسان 2024 
تعليق

فاصل عنصري قصير خلال عطلة عيد طويلة 

سامر فرنجية
أميركا ما زالت تبحث بطبيعة المُنشأة الإيرانية المُستهدَفة في دمشق