تعليق كويريّة
سحر مندور

شذوذ «رجال» الدولة

9 آب 2023

استيقظتُ صباح اليوم على خبرٍ عن لقاءٍ تشاوريّ وزاريّ، ضمّ رئيس الحكومة المستقيلة وعدداً من وزرائه المستقيلين، عُقد في الديمان، برعاية البطريرك الماروني، لحماية الأسرة اللبنانية من التفكّك. قبل أن أسعى لفهم أسباب خوفهم، كرّرتُ قراءة اسمَيّ المكان والمضيف، لأميّز ما بين الغفوة والصحوة، وتأكدتُ من أن السرايا الحكومية، بجلالة قدرها وارتفاع كلفتها واتساع مبانيها، لم تكن الموقع المستخدم في هذا اللقاء الوزاري التشاوري. الديمان الذي يُصدِر كل أحدٍ عظةً تعيب على الدولة ورجالها أداءهم وفشلهم وفسادهم وما إلى هنالك من كلمات حادّة، حاسمة، جذرية، استضاف «الدولة» ليحافظا سوياً على قيم الأسرة. والدولة الحنونة، بدورها، ارتأت أن لا مكانَ أدفأ لأسرتها من «تحت عباءة رجال الدين»، كي تلتقي وتتشاور.

قرأتُ الخبر. وقد كان خبراً يُدرَّس في جامعات الخبر العاجل. كل كلمةٍ منه تستأهل حصّةً ومحاضرة.

أوّلاً، إعجابٌ بالمثابرة: 

شقّت معاداة المثلية ومجتمع الميم-عين طريقها خلال السنوات الأخيرة إلى القمة، بينما تشقّ حياتنا طريقها إلى القعر. هيئة علماء المسلمين (مسلمون جداً)، ثمّ جنود الربّ (مسيحيّون جداً)، فالأمانة العامة لحزب الله (حسينيّون كربلائيّون)، وصولاً إلى الدولة، ممثّلةً بشخص رئيس الحكومة المستقيلة، لا أقلّ (لم يرسل ممثّلاً عنه، حضر بنفسه وأبدى قلقه). كافة الحملات المطلبية، من تجريم زواج القاصرات والعنف الأسري إلى العدالة لضحايا المرفأ والمودعين، كلها مجمدة، متعثّرة، تعافر الصعاب لتصل إلى قانونٍ قد يُطبَّق وقد لا يُطبَّق، هذا إن وصلت إليه. أمّا الحملة ضد المثلية ومن أجل منع فيلم «باربي»، فقد شقّت طريقها لأعلى المراتب بهمّة الزنود الأشدّ عنفاً والحناجر الأشدّ تعتيماً. هذا درسٌ عن طبيعة الحكم الراهن في لبنان.

مبروك للمتطرّفين. هارد لاك للحقوقيّين. وبالتوفيق للجميع في زمن الانهيار.

ثانياً، قيم الأسرة:

ازدهر هذا التعبير في مصر، نقرأه في الأخبار التي تروي عن القبض على فتيات التيك توك أو عن فستان الفنانة في مهرجان، مثلاً. لكن ما الذي أتى به إلى هنا؟ لسخرية القدر، والقدر ساخرٌ وممتع، أتى هذا اللقاء بينما الأخبار الاجتماعية الواردة قبله وبعده في يومياتنا في لبنان الانهيار تحكي عن: اغتصاب متكرّر لطفلة أدّى إلى وفاتها، جريمتا قتل في يوم واحد ضحيتها الزوجة على يد الزوج، «العثور على طفل رضيع مرميّ في نهر/ زبالة / حفرة»... ناهيك بالانتحار مع سبب معلن هو العجز عن تأمين قوت الأسرة. هذه الأخبار لا تمسّ بتماسك الأسرة ولا تتسبب بتفككها، أما الأشخاص الذين لا يمتثلون للرغبات الجنسية التي يرعاها اللقاء الوزاري ويباركها البطريرك والسيّد، فهي الخطر الآتي من الغرب، يداً بيد مع باربي... الغرب ذاته الذي يموّل حالياً التربية والتعليم، الصحة العامة، وكافة مؤسسات الدولة. الغرب ذاته الذي يناشده الوزراء المستقيلون، كلما شارف مازوت المولدات على النفاد في سنترالات الدولة وشركات كهربائها. تحضرني هنا السيّدة المصرية التي ترتدي الملاية السوداء وتخرج في الفيلم لتصيح: أقول فيك إيه وانت اللي فيك كل العبر!

أما وقد ثبّتنا أن لقاءنا التشاوري مبنيّ على سرقة تعابير الدول الصديقة ورميها كيفما اتفق في مجتمع قيد الانهيار، يجوز السؤال: ما هو الخطر الذي تمثله المثلية على الأسرة؟ إذا وُجد في الأسرة شخص مثلي، كيف تتفكك أسرته؟ واقعياً، إما تحتضن الأسرة هذا الشخص أو تنبذه. أحياناً يُقتَل. وأحياناً يُطلب منه الرحيل عن البيت أو البلد. لكن، لم يشهد التاريخ بعد شخصاً مثلياً فجّر نفسه بقيم الأسرة وفكّكها. في السابق، كان عمل الزوجة هو الذي يهدّد قيم الأسرة. الخروج إلى العلن بالعنف الأسري هو الذي يهدد تماسك الأسرة: «هذا شأن خاص لا يجوز طرحه في العلن». وحالياً، باربي تهدّد قيم الأسرة. بصراحة، قيم الأسرة هذه باتت غابةً موحشة.

بالتالي، يجوز التساؤل: ما هي هذه القيم وكيف تبدو لكم الأسرة التي التقيتم وتشاورتم حولها؟ من حيث يقف المواطن العادي، تبدو أسرةً ملأى بالعنف والقهر والظلم، كسجون الوطن العربي. ولولا نعمة الطلاق، لمن استطاعت إليه سبيلا، لكانت الأسرة التي تشتهونها هي جنازة مستمرّة لأحلام وشخصيات وأجسام كثيرة. لذلك، قد يكون من الأجدى باللقاء التشاوري الوزاري أن يبدأ خطابه، كمسودات القوانين، بشرح التعابير التي يتبناها، والأسباب الموجبة التي يعتمدها، وأن يفنّد «قيم الدولة» لنا، كونها تبدو شديدة التفكّك راهناً. 

ثالثاً، التعابير

مثله مثل خطابات «سيّد المقاومة» في أيام عاشوراء الدينية، خرج وزير ثقافة اللقاء التشاوري الوزاري الذي عقد في الديمان (الديمان؟! مهما كرّرتها، لا آلفها) بتصريح يهيبُ بنا ألا نستخدم كلمة «المثلية» للدلالة على المثليين، وإنما يتوجّب علينا، كلما ذكرنا المثلية، أن نركب قطار الزمن نحو الثمانينيات، ونصيح كرجال الميليشيات ونساء الغضب الإلهي: الشذوووذ. يا قوم، يا بني يثرب، يا أهالي أورشليم القدس، أعيدوا عقارب اللغة إلى الوراء لتتناسب مع طموحات رجال دين لبنان ووزراء حكومته المستقيلة.

أذكر في مطلع الألفيّة، وكنت حينها مسؤولة تحرير قسم المحليات في جريدة «السفير»، حين وصلنا تعميمٌ من مديرة التحرير يبلغنا باستبدال تعبيرَيْ «لواط» و«شذوذ» بـ«مثليّين» و«مثليّة». وكان هذا التعميم يسعى للتماشي مع تطوّر العلوم والنفوس والأدبيات في العالم، وتوصيات الأمم المتحدة، ولو متأخراً. لم يعانده أحد في الجريدة، وابتسم له رجالها كبار السن، حماة الذكورية. أَضحكَهم، بينما لاءم طموح الشباب فيها. والطرفان، الضحوك والطَموح، لم يشعرا بتفككٍ أصاب أسرهم بسببه. مضوا مع العصر، إن بـ«عيش كتير بتشوف كتير» أو بالاحتفاء بالتغيير.

اليوم، وبينما تزدهر قضايا القدح والذم التي تقيّد التعبير الحرّ، يخرج علينا اللقاء التشاوري الوزاري بفرمان: أهينوا المثلية والمثليين، سمّوهم «شاذّين» وسمّوه «شذوذاً». لا شك أن البطريرك، تماماً كما الشيخ والسيّد وجندهم وعلماؤهم، ينظرون إلى المثلية بصفتها شذوذاً. لكن، إذا صار مطلوباً منا أن نسمي الأمور بآرائنا، يجب إذاً وقف كافة الاستدعاءات على خلفية قوانين التشهير وتغيير كافة القوانين التي تمنعنا من قول: الرئيس المجرم، أو رئيس الحكومة اللصّ، أو الوزير المرتشي، أو صاحب البنك المزوِّر...


كثيرون يقولون أن السلطة الحاكمة (برجال دينها) تسعى لتشتيت الانتباه عن فشلها عبر التركيز على المثلية. لكن هناك مدٌّ عربيّ يشدّ نحو معاداة المثلية والمثليين في هذه السنوات الخانقة والمختنقة، من المحيط إلى الخليج. وحتى لو أتى تبنّي الدولة لهذه الحملة من باب تشتيت الانتباه، فأثره حاسم وحقيقي ومركّز جداً في حياة الأشخاص الأكثر ضعفاً في مجتمع الميم عين، الأشخاص القابعين في بيوتٍ تكرههم، غير قادرين على بلوغ الاستقلالية أو المهجر. وهكذا هم دائماً أعداء نجاح الدولة المستقيلة: اللاجئون في الخيم، ثم المثليون في المجتمع... الأضعف دائماً.

من البديهي القول هنا أنه كان الأجدى باللقاء التشاوري الوزاري أن يجتمع في السرايا، وأن يخرج بتوصيات تحمي الأسرة من الاغتصاب، الفقر، والقتل. فتلك هي الضربات التي تتلقاها الأسر راهناً، وبالدليل المحسوس، وبالخبر اليومي. أما المثلية، فتراها في الغرب تحارب من أجل بناء أسرة، وفي الشرق تحارب من أجل الوجود، على جنب، بهدوء، لتفادي بحر الأذى الذي يلهث وراءها، ولم يكن ينقصها العنف الآنيّ عبر زنود الميليشيات وشرور رجال الدين ورجال دولة الانهيار.

كلمة الشذوذ لا تدلّ على المثلية في لبنان، وإنما على أداء سلطاته. والقيم موضوع فلسفي اجتماعي، يجب أن يعالجه المختصون لا المستقيلون والعباءات. القيم بحثٌ يطول، ونادراً ما يكون مثمراً لما يجري في ظل الانحطاط. أمّا الشذوذ في لبنان، فهو عقد هذا اللقاء، بهذا الحضور، في هذا الزمان وهذا المكان، هذا إذا أردنا أن نسمّي الأمور بأسمائها، مثلما أوصانا السيّد والبطريرك والرئيس.

آخر الأخبار

الشرطة الفرنسيّة: تقمع طلاب السوربون
رئيسة جامعة كولومبيا للطلّاب: لن نسحب استثماراتنا في إسرائيل
بسبب التعذيب، الأسير كريم أبو صالح يستشهد في السجن بعد يومَين على مولد ابنته
مقاطعة السفير الألماني في باكستان: يا لوقاحتك
لبنان يتوجّه للمحكمة الجنائية الدولية لمقاضاة إسرائيل بجرائم حرب
20 شهيداً بقصفٍ إسرائيلي على رفح