نقد
سلسلة
زياد الرحباني
سمير سكيني

شوپان على البُزق

30 تموز 2025

الطريقة هي اللي بتتغيّر. من الماضي، بيبقى الضروري مع الوقت.
– زياد الرحباني (1985)


Ouverture

في المقعد الأمامي من ڤان [موقف النبطية - السفارة الكويتية]. راكبٌ آخر يفصل بيني وبين السائق. السمّاعات في أذنَيّ، حقيبتي بين ذراعَيّ، مُتّكئٌ عليها، شاردٌ في الشبّاك. أستمع إلى موسيقى عشوائية من «أنغامي»، ثم ها هي، تمرّ مقطوعة لا أعرفها، أسمعها للمرّة الأولى.

أشعر فجأةً بحزنٍ ما. ليس «حزناً» بمعنى الحزن، إذ لم يكن هناك ما أحزن عليه بحقّ. نوعٌ من الأسى؟ ربّما. أو حنينٌ لشيءٍ لم يحدث يوماً. وما أن تنتهي الموسيقى حتّى أطلب من «أنغامي» تكرارها، وتكرارها حصراً، من دون أن أنظر حقّاً إلى اسمها. أَنتبه فقط إلى كونها من ألبوم اسمه «بهالشكل» لزياد الرحباني (1986).

أسحب من الحقيبة دفتراً أحمر صغيراً كنتُ أحتفظ به لتسجيل ملاحظاتي العابرة. أُباشر بكتابة نصٍّ قصير. وبعد أشهر سأبحث عن الدفتر لمراجعة ما كتبت، من دون أن أجده. اليوم، ما عدتُ أذكر من النصّ شيئاً سوى أنّه كان يُلائم هذه الموسيقى بالذات، والتي يصعب عليّ وصفها بتفصيلٍ أكبر— ولكن بإمكاني منحها عنواناً بسيطاً وواضحاً، وربّما مُبتذَلاً: «أحلى موسيقى سمعتها بحياتي».


مدخل إلى الموسيقى

موسيقى jazzy بعض الشيء، مدّتها 5 دقائق و24 ثانية، واسمها: Prelude 4. يلعبها زياد، ولكن باستطاعتي أن أُخمّن أنّها ليست له. كانت اطّلاعاتي الموسيقيّة على قدّ حالي، وتطلّب الأمر بحثاً على الانترنت كي أُدرك أنّ هذه هي Prelude, Op. 28, No. 4 للمؤلّف البولندي فريدريك شوپان.

كانت حركة زياد هذه، مدخلي إلى الموسيقى بشكلٍ عام، وإلى الموسيقى الكلاسيكية بشكلٍ خاص. أمضيتُ أوقاتاً طويلةً متَتبّعاً المقطوعة. وبدأتُ أستمع إلى كل النسخ المتوفّرة منها على يوتيوب، مدوِّناً ملاحظاتي حولها على دفترٍ ما زلتُ أحتفظ به. فتحته الآن لمراجعة ما كتبت، ووجدتُ ملاحظةً أخيرةً في ختام الصفحة: «… بس نسخة زياد بتبقى الأروَع».

المقطوعة مفرطة الحزن لدرجة أنّ شوپان نفسه طلب أن تُعزَف في عزائه، إلى جانب «قدّاس الموت» لموزارت. وبحسب روايات متداولة، فإنّ مقرّبين منه كانوا قد منحوها اسم «أيُّ دموعٍ في أعماق الديرِ الرطب؟» Quelles larmes au fond du cloître humide?أمّا قائد الأوركسترا الألماني هانز فون بولوف، فقد سمّاها «الاختناق»، فيما سمّاها عازف البيانو الفرنسي ألفرد كورتو «على حافّة قبر».

ثم عثرتُ على أداءاتٍ لهذه المقطوعة خارج سياقها الكلاسيكي، وقد يكون أبرزها نسخة عازف الغيتار جيمي بايج الذي منحها هيئةً بلوزيّةً، بطيئةً، قاتمةً بفعل الأورغان في الخلفية. أستطرد قليلاً هنا: أدّى جيمي بايج المقطوعة ضمن الموسيقى التصويرية لفيلم «أمنية الموت» سنة 1982، ولكنّ رواجها الفعليّ سيكون في السنة التالية، خلال سلسلة حفلات Arms، حين عزف بايج الـprelude أمام جمهور نيويورك، وأمام جمهور سان فرانسيسكو، وأمام جمهور لندن. سوف تكتسب هذه المقطوعة طابعاً طقوسياً بين جماهير بايج بعد لعبها في Arms، تحديداً بفضل السيجارة التي مَجَّها أثناء اللعب من دون الاستعانة بيدَيه، والرَونق الذي أضافه على الأداء صوت غيتار الـ«بي-بندر» الخاصّ به. رغم التطابق الزمنيّ، لا أعلم إن كان ثمّة أي صلة بين هذه المعلومة وإضافة زياد المقطوعة إلى ألبوم «بهالشكل». مغنّون وموسيقيون آخرون تداولوا المقطوعة بأعمالهم. وقد يكون المثال الأوضح أغنية «جاين بي» التي أعدّها سيرج غاينسبورغ سنة 1969، وغنّتها بطبيعة الحال جاين بي، مع كلماتٍ هي أشبه بالسيرة الذاتية: «بالعلامة، العينان زرقاوان/ الشعر كستنائي/ الاسم جاين بي/ الجنس أنثى/ العمر بين 20 و21/ الهوايات الرسم/ تسكن عند والدَيها». كان ذلك سنة 1982، أي قبل أربع سنوات من حركة زياد. كما عثرتُ على مقطوعة شوپان في عددٍ من الأفلام، بينها، للمفاجأة، فيلم «وقائع العام المُقبل» الصادر سنة 1985، والذي تولّى زياد إعداده الموسيقيّ.


شوپان على البُزق

«وقائع العام المقبل» فيلم سوري من إخراج سمير ذكرى، والمفارقة أنّه يروي قصّةً شبيهةً إلى حدٍّ ما بقصّة زياد الثمانينيات: موسيقيّ يُدعى مُنير وهبة، همّه تطوير الموسيقى العربية وإنشاء حوارٍ بين موسيقانا وموسيقى الخارج. على طول الفيلم، يحاول إقناع البيروقراطيات والأفكار الجامدة من حوله بجدوى مشروعه، عبثاً، مع تعقيداتٍ غراميةٍ بين الحين والآخر.

بشكلٍ مُستغرَب، تظهر الـprelude الرابعة مرَّتَين في هذا الفيلم، بأداءَين مختلفَين، وكأنّ زياد يتعامل معها كـmotif للمزاج الموسيقي للفيلم، وليس فقط كمقطوعة كلاسيكية قائمة بذاتها. في المرّة الأولى، تُعزَف الـprelude بصيغتها الكلاسيكية، على البيانو، لحظةَ ترفض صديقة مُنير أن تمضي السهرة معه، فيرحل خائباً إلى ملهى ليلي. هناك، تتواصل الـprelude على البيانو، لينقطع العزف فجأة، إتاحةً للمجال أمام موسيقى الديسكو الراقصة، فيعتلي الساهرون المسرح، ثم تنقطع موسيقى الديسكو بدورها، لتعود الـprelude، فيجلس الراقصون ويشرد مُنير من جديد، ثم ينقطع البيانو… وهكذا دواليك، بما يخلق مزاجاً غريباً يُلمّح إلى حوارٍ صعبٍ بين عالمَين أو حقبتَين زمنيّتَين يَشعر مُنير (أو زياد) أنّه عالقٌ بينهما، وأنّ مسؤوليّته التاريخية إيجاد مخرج منهما. ثم يخرج مُنير من الحانة، ليجد في حيٍّ شعبيٍّ أشخاصاً يلهون قرب مقبرة، فينهرهم أحد السكّان مراعاةً لحرمة المكان، ثم يدعوهم إلى مرافقته في جولةٍ على شهداء المقبرة. ينسحب الجمع، ولا يُرافقه أحد— إلّا مُنير. بين القبور وفي عتمة الليل، في خلفية المشهد، تعود الجملة الأولى من الـprelude الرابعة كما كُتبَت على البيانو، قبل أن تُستكمَل المقطوعة فجأةً على البُزق، والأرجح أنّ عازف البيانو، كما عازف البُزق، هو زياد. شوپان على البُزق، بتكثيفٍ إضافيٍ لحوارٍ مُعلَّقٍ بين زمنَين.

على قدر معرفتي البسيطة، لا توجد نسخ منشورة أخرى لزياد وهو يلعب الـprelude الرابعة، سوى هاتَين النسختَين. «يلعب»، كصيغةٍ ملطّفةٍ لعملية توزيعٍ معقّدة، تفكّك اللحن الأوّل، تحتفظ بجوهرٍ منه وحسب، وتُعيد تقديمه بقالبٍ فريدٍ متحرّكٍ وديناميّ، عابرٍ للأزمان والألوان الموسيقية.

يبدو لافتاً أنّنا نتكلّم عن مقطوعةٍ كلاسيكية، أعاد زياد توزيعها مرّةً أولى على البزق، ومرّةً ثانية بمزاجٍ جازّيّ. ويبدو لافتاً أكثر، أنّ نسخة البزق ترد في فيلمٍ عن موسيقيٍّ يحاول تطوير الموسيقى العربيّة وتجديدها، وأنّ نسخة الجاز ترد في ألبومٍ يُقيم هذا التطوير بالفعل وينسج من العالمَين مشروعاً جديداً، وكأنّ زياد صبّ كل تركيزه على هذه المقطوعة المقتضبة ليفتح احتمالاتها الكثيرة، وليبرهن بالفعل قوله حول «الموسيقى كلغةٍ أممية».


كلّ شي مَصيره يتطوّر

هذا العَجن العفوي الذي يتعامل زياد من خلاله مع المقطوعة المذكورة، يُحيل إلى تمكّنٍ موسيقيّّ لدى العازف، تحديداً بما يتعلّق بالموسيقى الكلاسيكية، علماً أنّ هذا التمكّن لا يظهر كثيراً في سيرة زياد الموسيقيّة، إلّا في بعض الجمل العابرة التي يرميها كفتات الخبز في ما يؤلّف، وفي مقطوعاتٍ لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة:

  1. الـprelude الرابعة لشوپان، والتي حظيَت بنسختَين في فيلم «وقائع العام المقبل»، ونسخة ثالثة في «بهالشكل».
  2. السمفونية الأربعون لموزارت المدموجة بشيءٍ من التكنو، مع بهلوانيّاته البصريّة وزيّه التنكّري وحركاته المسرحية، في فيلم «هدوء نسبي» (1985) الذي أنتجته النجدة الشعبية اللبنانية.
  3. الفالس السابعة لشوپان، ولهذه الفالس تسجيلان أيضاً:
    التسجيل الأوّل مقتضب، تعرضه الإعلامية جيزيل خوري في «حوار العمر»، حيث يمنح زياد المقطوعة الكلاسيكية مزاجاً جازّياً/ بلوزياً، وينفرد بالعزف مع سامي شبشب. واللافت أنّ الأخير يتلاعب بالمقطوعة بما يشبه لعب جيمي بايج مع الـprelude الرابعة؛
    والتسجيل الثاني للفالس في فيلم «هدوء نسبي» إيّاه، حيث يسجّل زياد فوق الموسيقى المونولوغ الذي يلخّص مشروعه لتطوير الموسيقى: يا جماعة، اللي قبلان يلبس جينز؛ واللي ما بيجيه نوم قبل ما يهري ماكينة الفيديو؛ اللي مش قبلان بقى يتحرّك إلّا بسيارة، ومعترف بضرورة التبريد بس يكون في شوب؛ وبنفس الوقت متمسّك بتراث موسيقي ما بينسَطع. خلّيه متمسّك فيه. ويُكمل المونولوغ بصوت مونيكا عسلي:
    بس متل ما الدواب وَصَّلت ع السيارة والشروال وصَّل ع البنطلون، كل شي مَصيره يتطوّر. وموسيقتنا، بتنطبق عليها القاعدة نفسها. التطوير مش بالضرورة يعني نحكي أجنبي بدال العربي، ولا ندقّ على الغيتار بدل البزق. الطريقة هي اللي بتتغيّر. من الماضي، بيبقى الضروري مع الوقت. وممكن بدال ما قول: «وين مش عم نشوفكن؟»، قول: «بدّي شوفَك»، وأكيد الجملتين عم يقولوا نفس المعنى.

  4. بعد سنوات، سوف يُضيف زياد على هذه القائمة تنويعات على رابسودي المجر رقم 2 لفرانز ليزت.
  5. ومن جهتي، أحبّ أن أضيف موسيقى «طيارة من ورق» التي ألّفها زياد لفيلم رنده الشهّال صبّاغ، من دون أن تعود لمؤلّف كلاسيكيٍّ آخر، ولكن يصعب الاستماع إليها من دون استحضار نوكتورنات شوپان.

Finale

أمام هذه المقطوعات الخمسة، لا يمكنني إلّا أن أتخيّل زياد على البيانو، يُعيد ويُعيد مقطوعة كلاسيكية على مدى ساعات، مع تحوير جملة أو اثنتَين في كل مرّة، إلى أن تخرج النسخة «الزيادية». في عجقة الحراتيق المبعثرة في صوَر صالونه، أحبّ أن أتخيّل أنّ هناك «سي دي» مرميّاً، ضائعاً، مكتوب عليه بخط اليد: «تسجيلات»، مثلاً، أو «شوپان/ تجريب». مجرّد تسجيلات وهو يلعب مع مؤلّفين آخرين.

سوف نعثر على هذا القرص بعد حين، وسوف تُنشَر موسيقاته. سوف نستمع إليها ونكتشف زياداً آخر. سوف نحزن، لأنّ هذا ما يُحزن برحيل زياد موسيقياً: لا الأعمال التي تركها، بل احتمال الأعمال التي لم تكن. وهذا ما مَيّز زياد عن غيره، هذا ما جعله «عبقرياً». لا ما حقّقه زياد بالفعل، بل قدرته الرهيبة على حمل كلّ هذه الاحتمالات في اللحظة نفسها، لِما يُمكن أن يكون.

بهذا المعنى، يبدو كلّ منتوج زياد الموسيقي، على ضخامته، مجرّد عيّنة لمنتوجٍ أوسع بكثير، ولكن في خانة المُتخَيّل. الجمل الموسيقية الفريدة التي تهرب منه هنا وهناك، في مزاحه على الإذاعة، في السكوت بين هَمْهَمتَين لفيروز، في موسيقاه التصويرية، هي اليراعات التي تُضيء وتخبو، فتُشير إلى مشروعٍ موسيقيٍّ كان يراه زياد مكتملاً، وعانَد كثيراً ليصنعه، قبل أن ينكفئ تدريجياً، إلى أن اختفى.

ينتهي فيلم «وقائع العام المُقبل» بلقطةٍ نبوئيّةٍ: يقف الموسيقيّ الشابّ فوق أنقاض تَدمُر الأثرية، يتجاهل تعليمات «الأستاذ»– أي السلطة والتقاليد، يرمق الموسيقيُّ الكاميرا بنظرةٍ مُواجهة، تبدأ الموسيقى، ترتفع الكاميرا لتُرينا المكان من فوق، وكأنّ الموسيقيّ هو من ارتقى ليرى كلّ شيءٍ بعَين الله. المساحات الشاسعة، الصحراء، الجِمال والجِبال، والشمس التي تغيب على وقع الموسيقى. تُعرَض شارة المسلسل: الإنتاج الموسيقي– زياد الرحباني.

ولكنّ الضخامة السينمائية لهذه الخاتمة، تُبعد الفيلم عن زياد، عن حياته كما عن موته. وقد يكون المشهد البسيط في المقبرة أقرب إليه. يدخل مُنير إلى المقبرة مع عجوزٍ لا يعرفه، يُرشده إلى قبر ابنه، ويُصادف أنّ اسمَه مُنير أيضاً، وكأنّ المخرج وضع مُنير (أو زياد) أمام مرآةٍ يرى فيها كل مشاريعه التي لم تتحقّق، إذ قتلها هذا العالم. وقبل أن تُعزَف الـprelude الرابعة في الخلفية، يُخاطب العجوزُ قبرَ ابنه:

مُنير، إجيت وجبتلّك معي صديق تتعرّف عليه.
مُنير، ابني، انتَ مانَك هون؟
لَيكون راح ع البيت؟
ما بريد يشوف امّه عم تبكي…
أنا رح الحقه، وانت خلّيك هون.
واذا رجع قبلي، قلّه أنا راجع.

يُغادر العجوز المشهد. يبقى الموسيقيّ وحيداً بين القبور. لحنٌ حزين. ليس «حزناً» بمعنى الحزن. نوعٌ من الأسى؟ ربّما. أو حنينٌ لشيءٍ لم يحدث يوماً. صوت بيانو خافت، يليه صوت البزق.

سلسلة

زياد الرحباني

مقالات في وداع زياد الرحباني.

عن مسرحيّ وموسيقيّ وأنتروبولوجيّ مُدهش لم تُسعفه السياسة | نقد
عن أيّ زياد نكتب | تعليق
عن الاحتمالات: حسين البرغوثي وزياد وأنا | يوميات
زياد الرحباني: الالتباس الخلاّق | تحليل
زياد الرحباني الذي قاتل من أجل عاديّته | نقد
آثارٌ على رمال البلد والذاكرة  | نقد
الابن المُتعَب والأب المستحيل | تعليق
زياد الرحباني بعيون سوريّة | نقد
زياد الرحباني: الصوت والظاهرة  | نقد

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً