يوميات
سلسلة
زياد الرحباني
ريم مرجي

عن الاحتمالات: حسين البرغوثي وزياد وأنا

18 آب 2025

أيّام ما كنت أعزف بيانو، ما كنت أحبه كآلة أبدًا. كان عندي قناعة تامّة إنه أهلي حطوني بيانو بدل حصص الفن بس لأنه معلمة الفن كانت تحكي إني مشاكسة وما كانت تعرف تتعامل معي وكان الطريقة الأمثل ليعلموني شو يعني إنضباط. حتى حصص البيانو كانوا أهلي يدفعوا عليها نتفة زيادة لأنها ما كانت مجانية.

كنا ناخذ الحصص مع معلمة روسية اسمها أولجا، توزّع طلاب البيانو اللي بالغالب بيكونوا من ثنين لثلاث بكل صف على ثلاث غرف صغيرة بتوسع بالكاد لشخصين. كل غرفة فيها شباك مربع صغير بِيطلّ على حديقة الدير الخلفية وعلى شجرتين اسكادنيا، ومكانهم جنب إدارة المدرسة الرئيسية. المكان كان مظلم، ومصدر الإضاءة يا بيجي من الشباك الصغير أو من النيون الأبيض، وإذا شغلت النيون رح تحس حالك بمصنع بالاتحاد السوفييتي بظرف ثانية.

بصف العاشر، ومع إني كنت بمرحلة متقدّمة، قرّرت أوقف بيانو للأبد. وكان القرار نابع من وعيي أنه بكفي أعزف آلة ما بحبها. وقتها كان النقيض التام لهذا الحكي هو طموحي إني أعزف إلكتريك جيتار وأخذ كورس خارج المدرسة عند محل اسمه عالم الموسيقى. المؤلّف الوحيد اللي كان يشتت هذا التفكير هو شوبان، اللي مرة لقيتله كتاب نوتة بالصدفة في قبو دار جدي بعد ما فاضت عندهم المجاري. كانوا حاطين مجموعة كتب ليتخلصوا منها، ومن ضمنها هذا الكتاب. كان عنوانه شوبـــــــان بالعربي بخط حلو أحمر، والمسافة بين الباء والألف كانت كفيلة تشعرك بالراحة والأنس.

أخذته للمِس أولجا، وكانت أوّل مرة أعزف فيها نوكترن سي شارب ماينر. بهذاك اليوم أدركت إنه البيانو أبدًا مش إلي، أو يمكن هو إلي لدرجة كبيرة، لدرجة خوفتني من هدم فكرة بنيتها براسي على مدار سنوات. وأنا بعزفها حسيت إني زعلانة ويمكن غضبانة، حسيت بإحباط إنه ليش ما حد فاهم عليّ، وبرضه حسيت بسعادة، إنه قديش الغرفة صغيرة بس حلوة وقديش اتعودت عليها، ببساطة حسيت حالي حمامة وقتها. ومع إني كنت غاضبة من حصص البيانو، بس كنت ممتنّة لأنهم وسعولي خيالي، دايمًا، كنت أدخل الحصة وعشان تمشي وما أفكر بولاد صفي اللي مبسوطين بحصة الفن، أتخيل براسي إني عازمة شخصية تدرب معي. ما خليت شخصية ما عزمتها، حتى صلاح الدين الأيوبي أتدرب معي مرة. المهم، بعد ما رجعت ع البيت حكيت لأهلي إني اكتفيت، وطلَّعوني من البيانو أخيرًا، بس ما قبلوا أتعلم إلكتريك جيتار. وبقي الجيتار أو أي آلة وترية حلم بعيد حتى اليوم.

لما طلعت ع الجامعة، أول سنتين كان أبوي يوصلني على مجمع الشيخ خليل بوسط إربد وهو طالع على شغله، ومن هناك آخذ باص للجامعة اللي برة المدينة. المشوار كان تقريبًا نص ساعة. الساوندكلاود فيه كان أكثر من صديق، كان مُسعف. في أيام أشغّل اللي بدي إياه، وفي أيام أسمع اللي بده إياه الشوفير. وبعتقد من هون صارت عندي رحابة الصدر فيما يتعلق بذائقتي الموسيقية: البوب والطرب من عيلة أمي ومهرجان جرش، الهيب هوب من MBC2، العراقي من أعمامي بمدينة الزرقاء كل صيف، الكلاسيكي والإيمو والبديل من باص التكنو (جامعة العلوم والتكنولوجيا) وتمبلر، والشعبي من أبوي وشوفير الباص.

أول مرة سمعت بريلود لزياد كنت برضه بالباص، وانسحرت تمامًا. بهذيك الفترة كان عندي صديق أهداني كتاب الضوء الأزرق لحسين البرغوثي لأنه كان مؤمن إن صداقتنا تتحمل هذا النوع من الكتب وكان بده يقنعني إنه اللون الأزرق بصير لون حلو بعد هذا الكتاب. كنت أطلع على سطح مبنى العمارة بالجامعة اللي مبنية على طراز العمارة الوحشية (بروتاليزم) من تصميم معماري ياباني اسمه كينزو تانج واللي للأسف ما كمّلها كلها، ولكني كنت محظوظة إنه القسم اللي بداوم فيه كان مكتمل. السطح مليان حصى وحجارة صغيرة. كنت أطلع بين المحاضرات والمراسم، أخصّص ساعة أو ساعتين بريك للقراءة، أحط كم معزوفة يلعبوا بشكل مستمر وأبلّش قراءة، وما أخلص إلا أحس زي اللي ركض 10 كيلو على نفَس واحد. كان في نشوة من هذا النشاط تعطيني طاقة لباقي الأسبوع. ولسبب ما كان جزء كبير من موسيقى زياد متّسق مع شخصية بري تبع الضوء الأزرق والحوارات المجنونة اللي كانت تدور بينهم.

ولما كانوا أصحابي يسألوني وينك، أحكيلهم «على الحيط». وكان أوّل مرة بكتشف إنه الناس بعمان أو حتى جزء كبير من أهل الشمال ما بحكوا «حيط» ليعبّروا عن السطح. وقتها سألت أهلي ليش إحنا منحكي حيط، ولا مرة كنت مفكرة فيها قبل. حكى أبوي إنه بالصريح (قريتنا الأصل) الكل كان يحكي «ظهر الحيط»، ولما راحت كلمة ظهر ضلت حيط لحالها، وصار معروف إنه إذا بتحكي حيط معناها سطح، مش الجدار.

رحلتي مع زياد صح مبلشة قبل الجامعة بكثير، لكنها بالجامعة وصلت أوجها. معزوفاته وغنانيه وأوديو مسرحياته كانوا يضلهم شغالين طول الليل، بلا كلل، لدرجة إني في بعضهم حافظة النوتة والكلام والنَفَس ونقلة النفس. وزي ما سمير كاتب في مقاله، في أشياء واحتمالات منكون متيقّنين إنها موجودة حتى لو ما إلها دليل فعلي.

بتذكّر وأنا سنة ثالثة، كنت بكتب نص عن Chopin Nocturne c sharp minor: C#m ، معزوفتي المفضّلة بالعالم. وكنت على وشك استحضر نسخة زياد إلها، بس صفنت وحكيت: هل زياد عزفها فعلاً؟ وبعد البحث اكتشفت إنه لا، أو يمكن لسا ما ظهرت على السطح. الجميل بهذول الأشخاص إنك غصب عنك بتكون مقتنع إنه في احتمال شبه أكيد إنهم عملوا شغلة معينة، غنوا، كتبوا، أو حتى تواجدوا بمكان ما بوقت معين. زي ما كنت مقنعة لما قرأت إنه حسين البرغوثي سكن بالزرقا وقت كان يتعالج من السرطان، إنه أكيد صفّينا جنبه بالسيارة بيوم من الأيام على الإشارة اللي بتودي من عمان للزرقا وإحنا رايحين عند دار جدي.

سلسلة

زياد الرحباني

مقالات في وداع زياد الرحباني.

عن مسرحيّ وموسيقيّ وأنتروبولوجيّ مُدهش لم تُسعفه السياسة | نقد
عن أيّ زياد نكتب | تعليق
شوپان على البُزق | نقد
زياد الرحباني: الالتباس الخلاّق | تحليل
زياد الرحباني الذي قاتل من أجل عاديّته | نقد
آثارٌ على رمال البلد والذاكرة  | نقد
الابن المُتعَب والأب المستحيل | تعليق
زياد الرحباني بعيون سوريّة | نقد
زياد الرحباني: الصوت والظاهرة  | نقد

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً